ما الذي يحدث في العالم؟

الخبير الاقتصادي د. اميل قسطندي خوري

[email protected]

شهد العالم أزمات اقتصادية خانقة واضطرابات مالية طاحنة ومضاربات في اسعار البورصة وتقلبات في مراكز المال العالمية ادت بمجملها الى نشوء حدثين هامين على خريطة الاقتصاد العالمي. الحدث الاول تمثل في الارتفاعات الشاهقة التي تجلت بوضوح في معدلات التضخم القياسية لاسعار الذهب والبترول والسلع الاساسية (كالارز والسكر والقمح والذرة) والمواد الاولية (كالفحم والنفط الخام والغاز والاسمنت) والممتلكات العقارية وايجارات المساكن والمكاتب التجارية واجور النقل والشحن وما الى ذلك من الامور الرئيسية التي تهم الإنسان في تامين معيشته وتلبية متطلباته الاستهلاكية وتغطية احتياجاته الاساسية. اما الموضوع الثاني، وهو الذي ادى في الاصل الى ظهور الوضع الاول على ساحة الاحداث الدولية، فهو التراجع الغريب الذي طرأ على قيمة الدولار الاميركي مقابل عملات رئيسية اخرى كاليورو والين والجنيه الاسترليني وغيرها، وذلك على مدى اكثر من عام مضى.
ولكن ما هي العلاقة بين هبوط قيمة الدولار الاميركي وبين تصاعد الاسعار؟ من المعلوم لدى الجميع ان التوأمين (الذهب الاصفر والذهب الاسود اي النفط) مقومان بالدولار، اي ان العملة الاساسية التي تستخدم غالبا في تعاملات عالم الاعمال لاتمام الصفقات التجارية وعقود السلع الاجلة هي الدولار الاميركي. فاذا انخفضت قيمة الدولار لاي سبب سواء كان اقتصاديا او اجتماعيا او سياسيا ... الخ، فانه من الطبيعي نظرا لهذه الرابطة الوثيقة ان يؤدي ذلك الى ارتفاع اسعار السلع الغذائية والمنتجات الاستهلاكية والمواد الاولية سواء المقوم منها بالدولار الاميركي او تلك التي تستورد من الخارج لاغراض الاستهلاك المحلي والتي عادة ما يتم سداد فاتورتها بالدولار الاميركي. بالاضافة الى ذلك، فان معظم العملات الوطنية للبلدان العربية بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي مرتبطة ارتباطا مباشرا بالدولار الاميركي، اي ان العملة الرئيسية التي تشكل العامود الفقري للاحتياطيات الاجنبية لهذه الدول من العملات الصعبة هي ايضا الدولار الاميركي. فالدولار الاميركي مثلا يشكل ما يعادل 80% من الاحتياطيات الاجنبية للاردن. اضف الى ذلك ان اي ترنح انحداري في قيمة الدولار الاميركي سوف يؤدي بالنتيجة الى انخفاض القيمة الاجمالية للاحتياطيات الاجنبية مما سيؤثر سلبا على تغطية قيمة البضائع والخدمات المستوردة التي سترتفع قيمتها تبعا لذلك. واذا كانت صادرات دولة ما عالية الكلفة ما يجعلها باهظة الثمن او ذات نوعية اقل من المستوى المرغوب بحيث تصبح غير قادرة على التنافس التجاري، فان ذلك سوف يؤدي الى توسيع الفجوة بين قيمة صادراتها وقيمة وارداتها وبالتالي تفاقم العجز في ميزانها التجاري.

اذن كيف وصلت بنا الامور الى هذا الحال؟ وما هي الاسباب التي جعلت قيمة الدولار تتهاوى بهذه الوتيرة التنازلية وتصل الى ما وصلت اليه؟ على الصعيد المالي، هناك ازمتان رئيسيتان كان لهما نصيب الاسد في انحسار قيمة الدولار الاميركي وهما ازمة الرهن العقاري وازمة الائتمانات المصرفية. تسببت هاتان الازمتان بشكل مباشر في تراجع اسعار العقارات والمنازل في الولايات المتحدة الاميركية، بالاضافة الى خسائر مالية فادحة تكبدتها البنوك التجارية والمؤسسات الاقراضية. اما القرارات المتعاقبة التي تبناها المجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الاميركي) والتي دعت كلها الى ابقاء نسبة الفوائد منخفضة على فترات طويلة، فقد نتج عنها تقديم تسهيلات كبيرة وعالية المرونة من قبل الدائنين كالبنوك التجارية وشركات الوساطة التجارية التي تعمل بنظام العمولة وشركات التامين في منح قروض اسكانية في غياب وجود ضمانات او رهونات كافية، مما ادى الى اغراق الاسواق المالية بوافر غزير من المعروض النقدي والسيولة المالية ادت بالنتيجة الى تراجع قيمة الدولار. وعندما عادت معدلات الفوائد الى الارتفاع بفعل القرارات المعاكسة التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي، وجد المقترضون انفسهم مضطرين الى دفع الزيادات او الفروقات النقدية التي انعكست قسريا في اقساط مساكنهم وفوائدها، مما اوصلهم تدريجيا الى حالة حرجة من الفشل الذريع في سداد اقساط هذه القروض الاسكانية، وبالتالي السقوط في براثن التخلف عن الدفع، وهذا ما ادى الى ظهور ظروف ملتهبة وصعبة للغاية على صعيد اسواق الرهن العقاري نجم عنها انخفاض كبير في قيمة الاملاك والعقارات المرهونة ادى في النهاية الى انهيار اسعار المساكن ليس فقط في سوق العقار الاميركي المحلي بل وصلت تداعياته الى العديد من الاسواق الاوروبية والاسيوية ايضا.
وعلى صعيد التطورات الاقتصادية الدولية فقد ساهم التنامي الملحوظ للعديد من الاقتصاديات الصاعدة او الناشئة مثل دول بريك
 BRIC(البرازيل وروسيا والهند والصين) وجنوب افريقيا والمكسيك والارجنتين وكوريا الجنوبية وماليزيا والسعودية في ارتفاع اسعار المحروقات والمواد الغذائية على مستوى العالم ككل وذلك بسبب التحسن النسبي في مستوى معيشة سكان الدول الناهضة جراء النمو المضطرد في معدلات دخول الافراد والاسر وجني المزيد من المال، الامر الذي ادى الى تغير ايجابي في نمط الانفاق الفردي والاسري معا كانت نتيجته زيادة ملموسة في مستوى الطلب الكلي على الطاقة والغذاء. ومع ان الدولار المنخفضة قيمته كان من المفترض ان يكون عاملا مشجعا على تحفيز وانعاش الصادرات الاميركية، الا ان ذلك لم يحدث كما كان مامولا لاسباب عديدة، نذكر منها مثلا تفوق الصين في مجال التصدير الصناعي نتيجة لانخفاض اسعار منتجاتها وذلك بسبب تدني كلف الانتاج المباشرة، اضافة الى الميزة التصديرية التي تتحلى بها الصين، الامر الذي يمنحها قدرة تنافسية اكبر في غزو الاسواق التجارية العالمية بما فيها اسواق الولايات المتحدة الاميركية واوروبا واسيا والدول العربية. (تعرف الميزة التصديرية في علم الاقتصاد بالميزة النسبية اي الميزة التي تتسم بها دولة ما في مجال التصدير نسبة الى نفس المجال في دول اخرى عادة ما تكون فيها التكاليف المباشرة التي تدخل في عمليات انتاجها نسبيا اعلى بكثير مما هي عليه في تلك الدولة، مما يجعل من هذه الدول اقل كفاءة انتاجية، وبالتالي يفقدها خاصية شديدة الاهمية ليس فقط في تحسين مستوى التصنيع التجاري مما يساهم في تحقيق مستوى افضل من الايرادات للخزينة العامة بل ايضا في تحجيم عمليات الاستيراد وبالتالي تخفيض معدلات الاستهلاك او الانفاق الخارجي، الا وهي القدرة على التنافس التجاري).