أنهار : النيل ودجلة والفرات ..
ترسم فروقاً نفسية وجغرافية بين طبيعة حضارتي مصر والعراق !
صلاح رشيد
تأتي الحضارة المصرية القديمة ، وحضارة بلاد الرافدين من أقدم حضارات الدنيا ، تأسيساً للحياة المدنية وإقامة المجتمعات الراقية اعتماداً على الزراعة والتجارة والتقدم العلمي في عديد من مجالات الحياة . والمتابع لتطور هاتين الحضارتين يلحظ فوارق مهمة بينهما ، انعكست ـ سلباً أو إيجاباً ـ على طبيعتيهما وظروفهما ، وكانت نتيجة حتمية لاختلاف ملابسات كل منهما وطريقة تكونهما ، وأثر عامل البيئة والمكان في المجتمعين المصري والعراقي . لكن هل سألنا أنفسنا : لماذا كانت حضارة المصريين القدماء ثابتة هادئة منتظمة متواصلة ، في حين أن حضارة الرافدين متقطعة مليئة بالمحن والعنف على أهلها ! وهل لذلك من سبب فيما نشاهده ونراه اليوم من فتنة طائفية وعنف مستفحل في العراق المحتل ؟
في هذا الصدد يؤكد الدكتور عبدالله يوسف الغنيم الأكاديمي الكويتي المرموق ، في كتابه الجديد "بحوث ومطالعات في التراث الجغرافي العربي" الصادر بالكويت تلك الحقيقة حيث يقول : "ولا تزال عالقة بذهني تلك المقارنة التحليلية التي كان يعقدها الدكتور عبد الحميد زايد ـ أستاذ الجغرافيا بجامعة القاهرة ـ في الفرق بين حضارة وادي النيل ، وحضارة وادي الرافدين ، وأثر ذلك على طبيعة النتاج الحضاري والسكاني في هاتين المنطقتين من مناطق الشرق القديم" في كتابه الرائع "الشرق الخالد". ومضمون تلك المقارنة يذهب إلى أن" النيل نهرعظيم ، منتظم الفيضان ، يحمل معه في كل عام كميات كبيرة من الطمي ، الذي يشتمل على عناصر الخصب والنماء ، فكان مجرى النيل شريان الحياة النابضة ، وقد صُورت مصر في كتب الأوائل وسائر المدن مادّة ً أيديها إليها تستطعمها ، وذلك لكثرة خيرها وعمار ديارها . وعليه فقد امتازت حضارة وادي النيل بالثقة والاطمئنان والتواصل في شكل أسرات متعاقبة ، وظهرت الوحدة القوية التي امتدت مع امتداد نهر النيل".
ويرى الدكتورزايد إكمالاً للمقارنة والتحليل أن : "حضارة وادي الرافدين تأثرت بسلوك النهرين الكبيرين ، دجلة والفرات ، فهما يفيضان في غير وقت الحاجة إليهما ، وبصورة غير منتظمة لا يتمكن السكان معها من وضع التدابير اللازمة للوقاية من أخطار الفيضان ، الذي يقع في وقت يتهيأ فيه الزرع للحصاد ، ومن ثم عرفت حضارة وادي الرافدين بالعنف والمفاجآت والنوازل والمحن ، وكانت هذه البلاد مهددة - كما يروي الدكتور الغنيم - على الدوام من جيرانها ، ولم يكن تاريخ هذه المنطقة إلا حروباً متواصلة ، كما أنها كانت وحدات سياسية تسودها الفرقة والانقسام".
وهي الفوارق نفسها التي تحدث عنها المهندس البريطاني وليم ويلكوكس في مطلع القرن الماضي ، الذي زار البلدين ، في كتابه "من جنة عدن إلى عبور نهر الأردن" نقلاً عن الدكتور الغنيم : "إن النيل أكثر أنهار العالم اتزاناً ، فإنه ينذر بارتفاعه وانخفاضه قبل مدة مناسبة . ولا يسلك سلوكاً مفاجئاً ، ويحمل من الغرين (الطمي) في فيضانه ما يكفي لتطييب الأرض دون أن يؤدي ذلك إلى طمر القنوات ، كما أنه بحد ذاته خال من الأملاح ، ويفيض عادة في أشهر آب وأيلول وأغسطس من كل سنة مؤمناً بذلك إرواء المزارع الشتوية والصيفية على السواء ، ويجري بجوار رواب من الحجارة الرملية والكلسية التي تجهز منها المواد الإنشائية بكثرة . أما نهرا دجلة والفرات ، فإنهما يرتفعان دون إنذار سابق وسلكوهما على الدوام مفاجىء ،ويحملان خمسة أضعاف ما يحمله النيل من غرين، ويحدث فيضانهما في آذار ونيسان وأيار، وهذا موسم متأخر جداً بالنسبة للزروع الشتوية ، ومبكر جداً بالنسبة للنباتات الصيفية ، ويحتويان على كمية جسيمة من الأملاح المحلولة ، ويجريان بين صحارجبسية وأراض مالحة ".
ويضيف إلى ذلك ويلكوكس أن:" أرض العراق أشد انحداراً من أرض مصر. ففي مصر يبلغ انحدار الأرض قدماً واحداً في كل ميل، بينما نراه في العراق يبلغ خمسة أقدام في الميل الواحد" . ويستنتج من ذلك ويلكوكس آثاراً نفسية وسلوكية على حياة العراقيين، نتيجة هذا الأمر، قائلاً:"إن شدة الانحدار في الأرض- في العراق- تؤدي طبعاً إلى قوة جريان الأنهر فيها . وهذا معناه أن الأنهر ذات قدرة كبيرة على كسر السدود واجتياح الأراضي الزراعية المجاورة" . ويرى الدكتور الغنيم أن كلام ويلكوكس معناه :" أن ذلك من شأنه زيادة النزاع بين الفلاحين والرعاة أو بين قابيل وهابيل ؛ فالفلاحون يحاولون إنشاء السدود على ضفاف الأنهر لكي يحموا بها حقولهم الزراعية من خطر الغرق . ولهذا، فإن حدوث أية ثغرة في تلك السدود يسبب كارثة عظيمة لهم . أما الرعاة فمن مصلحتهم أن تحدث هذه الثغرة في السدود، ولعلهم يجدون في أنفسهم إغراءً لإحداث مثل هذه الثغرة في سنوات الإمحال الشديدة..".
أما الدكتور علي الوردي العراقي المتخصص في علم الاجتماع فيرى في بحثه" دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" حسبما أورد ذلك الدكتور الغنيم- أثر كل ما تقدم، لكنه يضيف إلى ذلك سلوك الفرد العراقي فيقول:"إن المجتمع العراقي يعاني من ازدواج الشخصية، فالفرد العراقي من أكثر الناس هياماً بالمثل العليا والدعوة إليها في خطاباته وكتاباته ومجادلاته، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافاً عن تلك المثل في واقع حياته" . ويؤكد أن : "ازدواج الشخصية ظهر في العراق منذ زمان قديم ، وقد كان ظهوره واضحاً في صدر الإسلام ، وربما كان ذلك من الأسباب التي دعت الناس إلى وصف أهل العراق بأنهم أهل الشقاق والنفاق"!
وهي الأشياء نفسها التي لمسها الدكتور العراقي يوسف عز الدين- الناقد الأدبي- عندما وازن بين مصر والعراق من خلال الفروق الشاسعة التي نتجت عن ثقافة وطبيعة هذين البلدين ، حيث قال لي : إن المصريين"وثنيون" أما العراقيون "فمخربون"! ومعنى كلامه كما فسر: هو أن المصريين متسامحون ، يحبون كل عصورهم وتاريخهم ، لذلك تجد آثارهم باقية على امتداد التاريخ والحضارة الإنسانية ، وهو لم يقصد إطلاقاً" بالوثنية" هنا المعنى الاصطلاحي الديني . أما العراقيون فيهدمون تراث وتاريخ من لا يرضون عنهم من زعمائهم ، بعكس المصريين الذين يختلفون فيما بينهم ، لكنهم لا يهدمون ماضيهم بسبب السياسية والعنف ! ولهذا جنت مصر خيراً وبركة ورصيداً ضخماً من الحضارات المتعاقبة على أراضيها ، والتي ما تزال شاخصة أمام أعيننا ، أما العراق فخسر كثيراً من الآثار نتيحة طبيعة أهله المخربة التي لا تقدر عظمة الماضي!
ويبدو لي أن : الطبيعة القبلية للمجتمع العراقي ، وما يسود فيه من تحكم وسيطرة ، والتسليم بما يقوله شيخ العشيرة ، وعدم النزوع إلى سلطان العلم والمعرفة ، وغلبة الجهل والتخلف ، وتصديق الخرافات ، كل ذلك أدي إلى الانشقاق والتفرق والاقتتال بين العراقيين !
ويزيد الدكتور على الوردي إلى ذلك : "ما اتصف بي أهل العراق من ميل للجدل والولع به .. ومن عيوب هذه النزعة أنها تُعلم الفرد أن يطلب من غيره أعمالاً لا يستطيع هو أن يحققها هو بنفسه ، لأن الفرد الجدلي يطالب بالحقوق أكثر مما يقوم بالواجبات ، وهو شديد النقد سليط اللسان ، يفترض فيمن ينتقدهم ان يكونوا معصومين من الخطأ"!
وللدكتور الوردي كتاب آخر بعنوان "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" في سبعة مجلدات ، ربط فيه – كما يذكر الدكتور غنيم – بين الأحداث التاريخية التي مر بها العراق ، وسلوكيات الفرد العراقي فهو يرى أن الأحداث المذكورة قد خلقت عقدة كالعقدة النفسية ، حيث أصبح الناس "يندفعون ببعض العادات والأفكارالموروثة اندفاعاً شعورياً ، وقد يؤدي ذلك بهم إلى المهالك ، بينما هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"!
فهل عرفنا الآن : لماذا تضرب الخلافات المذهبية والاختلافات الطائفية العراق في مقتل ؟ وهل أدركنا طبيعة هذا المجتمع الدائر حول العنف والثورة والهمجية طوال تاريخه؟ ومن ثم أيقنا أن للخروج من أزمة الا.حتلال الأمريكي للعراق حالياً ومن الفتن والمجازر التي يعيشون فيها ، فعلى العراقيين أن يقرأوا التاريخ ، وأن يتعلموا من تعامل الآخرين مع رموزهم وحضارتهم وتاريخهم وآثارهم بتسامح وبنظرة علمية مستنيرة مثلما يفعل المصريون ؟