الرئيس نصف الإفريقي ونصف المسلم ونصف الأسود
نوال السباعي
كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا
في الوقت الذي كان البعض يتشفى فيه بالأزمة المالية التي ضربت العالم ومنشؤها "وول ستريت" وماتمثله من سياسات رأسمالية لم يكن لها أن تستمر كثيرا في عالم الظلم والاستبداد الذي يعيشه معظم البشر اليوم ، خرجت الولايات المتحدة الأمريكية على العالم بزلزلة "إعلامية" وفي اتجاه معاكس لكل التوقعات ، إذ أثبتت أمرين يؤلمنا كثيرا نحن "العرب" أن نعترف بهما لهذا العدو الصديق ، المكروه المعشوق !!، وهما القدرة الملموسة على تجاوز الأزمات ، والاستمرارية – بمنطق التاريخ- في الدور المدني المناط بها في قيادة العالم في هذه المرحلة ، وكلاهما يعود إلى قيمة حضارية واحدة ، وهي الحرية.. ولكنها الحرية الأمريكية المشروطة! ، اِلتزمتها الولايات المتحدة في نفسها ، وكرستها في تاريخها ، وحاولت نشرها خارج أرضها تارة ب"خطة مارشال" فيم تعلق بأوربة الغربية ، وتارات بخطط " أبو غريب " و "غوانتانامو" و "القنابل الذكية" ، وماشابهها من سياسات ثابتة دؤوبة في فلسطين المحتلة ، بالدعم والتأييد والسكوت وغض الطرف عن حرب الاستئصال والابادة المنظمة طويلة الأمد وبأسلحة أمريكية الصنع ضد من تشبث من الفلسطينيين بحقه وأرضه والحياة .
فوز "باراك أوباما" في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ، دون أدنى شك شكل حدثا تاريخيا غير مسبوق بالنسبة للغرب بشقيه الأمريكي والأوربي ، بسبب وصول رجل نصف أسود ونصف مسلم ونصف إفريقي إلى أعلى منصب في الإدارة السياسية التي تشكل القوة الحقيقية العسكرية والسياسية والثقافية التي تهيمن على العالم اليوم ، خاصة وأن هذا الغرب مازال يعاني وبعمق خطير من المسألة العنصرية ولايستطيع عنها انفكاكا ، ولكن فوز "أوباما" كان حدثا تاريخيا كذلك بالنسبة لكافة سكان الأرض في زمن أصبح فيه الإعلام قوة هائلة في تحريك الشوارع والمشاعر في اتجاهات مرسومة بدقة ، كما في اتجاهات غير مُنتَظَرَة ، هذا الزمن الذي يبدو العالم فيه متعطشا لحلم ..أي "حلم" يتعلق بأهدابه من أجل خلاصه ، وياله من حلم لولا الحقائق المُرّة التي يشتمل عليها!! ، والتي من أهمها أن الإدارة الأمريكية هي مؤسسة ديمقراطية بكل ماتحمله الديمقراطية اليوم من إيجابيات عظيمة ومن سلبيات كئيبة .
فالديمقراطية الأمريكية التي جعلت العالم يبتهج فرحا من أقصى الصين إلى أواسط إفريقة وحتى سفوح الألب وجنوب أمريكا اللاتينية بوصول رجل يرى فيه الكثيرون بارقة أملٍ "ما" لخروج العالم من النفق الكريه الذي حشرته فيه السياسات الأمريكية الرعناء ، هذه الديمقراطية هي ذاتها التي تعني أن رجلا واحدا في الولايات المتحدة الأمريكية لايمكنه أن يفعل شيئا ، لأنها تتجلى في حكم المؤسسات وحكم "الفريق" – ولاأقصد هنا أي فريق ولامشير في الجيش !- ، ولم يحدث بعد مايدل على أن تغييرا أصاب مجموعات العمل السياسي –الاقتصادي أوالمؤسسات الأمريكية التي مازالت تتمتع بصحة كافية تؤهلها للاستمرارية التي تستمدها من دعائم الديمقراطية الأمريكية الأساسية ، وهي : "الحرية" – على الطريقة الأمريكية- ، وتكافؤ الفرص – ضمن نفس السياق - ، والحرص على ماتظن أنه حقوق الانسان - "الأمريكي" على أقل التقديرات- ! .
كان العالم لاينتظر جديدا من الانتخابات الأمريكية ، بل ولقد تنبأ كثيرون بأن يداً خفية ستمتد لاغتيال المرشح "أوباما" ، ولكن الشعب الأمريكي الذي بدأت الأزمة الاقتصادية تُلمس وبقسوة لدى فقرائه ومساكينه الذين يعدون بالملايين ، هي التي دفعت الناس نحو صناديق الاقتراع بنسبة مشاركة غير مسبوقة ، ويخطيء كل من يظن أن الرغبة العارمة في إحقاق الحق وإبطال الباطل في هذا العالم التعيس ، هي وحدها التي دفعت الأمريكيين لانتخاب من ظنوا فيه القدرة على إحداث التغيير في حياتهم وصورتهم أمام العالم ، الأمريكيون أنفسهم مندهشون من ردة فعل العالم على نتائج انتخاباتهم الرئاسية ، ولكن هذا لايعني أن هناك قطاعات لايستهان بها من الشعب الأمريكي تتمتع بثقافة رفيعة نبيلة بديلة ، وأنها تقف وبقوة في وجه السياسات الأمريكية الاستعمارية الإجرامية في كثير من أنحاء العالم ، وأنها ذهبت لانتخاب أوباما مفكرة في التوابيت التي كانت تصل يوميا من العراق وأفغانستان ، وفي القبور الجماعية التي تفتح يوميا في هذين البلدين لتبتلع الأبرياء .
إلا أننا وعلى الرغم من ذلك لايجب أن نظلم الشعب الأمريكي ، لأنه شعب مُسَير بالإعلام وبطريقة محزنة ، شأنه شأن ماستصبح عليه الشعوب الأوربية عاجلا بسبب اتباع الأحزاب اليمينية والمحافظة الحاكمة فيها نفس السياسات الإعلامية التجهيلية التسخيفية القُمامية المُتّبعة في الولايات المتحدة الأمريكية ، لقد أصبحت الشعوب الغربية قطعان هائلة من المستهلكين الجاثمين على ركبهم أمام جهاز التلفزة الذي يلعب دور كلب حراسة على عقول الناس ومشاعرهم ، يوجههم أنى شاءت الجهات التي تقف وراءه ، وهذه حقائق ساطعة ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار لدى الحديث عن هذا الحدث التاريخي الذي شهده العالم بوصول رجل نصف أبيض ونصف مسيحي ونصف أمريكي إلى رئاسة الأمة التي تسيطر وسائل إعلامها اليوم على كيمياء الحب والكراهية والأمل واليأس والخوف والرجاء في قلوب معظم جماهير العالم!!.
لم تصل أية حملة سياسية أو جهود اقتصادية أو خطط تعليمية أمريكية لتبييض وجه الولايات المتحدة الأمريكية في طول العالم وعرضه إلى ماوصل إليه وصول رجل أسود إلى المكتب البيضاوي في بيتها الأبيض !، لقد بدأت بنجاحه تباشير اندمال ذلك الجرح العنصري المفتوح في صدر البشرية كلها منذ مائتي عام ، أول صورة تبادرت إلى ذهني ساعة علمت الخبر كانت صورة "كونتا" بطل مسلسل "الجذور" للكاتب الأمريكي العبقري الأسود "ألكس هالي " ، ذلك الشاب الأسود الذي كان يصارع السلاسل والقيود كأسد حر وقع في شبكة الصيادين ليتم اقتياده إلى أرض "الحريات" فيصبح فيها عبدا .
إنها مناسبة تاريخية فريدة من نوعها أن نعيش هذا الحدث في البلد التي قُتل فيها "مارتن لوثر كينغ " بسبب ذلك "الحلم" الذي تحدث عنه عام 1963 في خطبته التاريخية الشهيرة في واشنطن ، وأن نرى أن الشعب الذي انتخب "البوشين ..الأب والابن" مُسَعري الحروب التي فتحت أبواب جهنم على العالم ، هو ذات الشعب الذي حاول اليوم ولسبب أو لآخر إصلاح ذلك الخطأ التاريخي بانتخاب رجل يعلق عليه العالم آمالا عظيمة لإحداث تغيير على المستوى العالمي في الوضع الاقتصادي العام ، كما في السياسة الدولية كما في الفكر والمجتمع ، إنه يبدو واضحا أن العالم كله يعيش اليوم حالة انتظار وترقب رجاء أن تهب عليه رياح تغيير مفعمة بالأمل ، ولكن المفاجأة جاءت من مظنة هبوب هذه الرياح من نفس المكان الذي كانت قد خرجت عليه منه رياح السموم!.. لن يستطيع "أوباما" أن يضرب صفحا على آمال عالم تعلقت عيناه بما يمكنه أن يصنع ، وذلك على الرغم من الضربة القاسية التي ابتدأ بها عمله -مبدداً أوهام الواهمين- باختيار يهودي محنك يقال إنه قد خدم في الجيش الاسرائيلي ، ليكون كبير موظفي البيت الأبيض !.
الملفات بين يدي الرئيس الأمريكي الجديد تكاد تلتهب فتحرق حتى من قبل أن يفتحها ، ملف العراق وباكستان ، ملف ايران ، ملف القضية التي سموها بالشرق الأوسط ، ملف روسيا ، وملف الأزمة الاقتصادية التي تركها له خلفه حربة في خاصرة الولايات المتحدة الأمريكية وتاريخها ووجودها ، وقبل ذلك وبعده عالم كامل يئن بالآلام التي تخلفها سياسات الظلم فيه ، هذا الظلم الذي لا ولن يستطيع دفعه ولارفعه رئيس أمريكي شفع له نصفه الأبيض بنصفه الأسود ، كما شفعت له تربيته وأمه الأمريكية بأبيه وجذوره الإفريقة ، ونصفه المسيحي الذي يتمسك به بنصفه المسلم الذي تخلى عنه ، هذا الظلم الذي يملأ الأرض اليوم يحتاج إلى أكثر من حدث تاريخي ، وإلى كثير من رؤساء الدول مجتمعين في عالمنا المتعطش إلى العدل كقيمة حضارية عليا ، لن تستطيع الحرية وحدها فيه من دون عدل أن تخلص البشرية من عذاباتها ، فكلاهما جناح لن يحلق طائر الأحلام البشرية بدونه أبدا.