نظرة واحدة إلي روسيا

د. أحمد الخميسي. كاتب مصري

[email protected]

لمن عاش في روسيا وقتا فإنها تشبه " النداهة " ، ساحرة ، وفاتنة ، وذات جمال طاغ ، عليك وأنت ترحل عنها ألا تلتفت خلفك ، لأن نظرة واحدة إلي عينيها قد تقيدك في مكانك إلي الأبد . هذه الأغنيات الشعبية الروسية بمقاطعها الممتدة ، المستقيمة ، التي تضرب في سماء كل غرفة وكوخ ، بحزن وقوة ووحدة الجماعات القديمة في الكهوف ، كل أولئك البنات السائرات البديعات الجمال كأنهن إعلان عن الحياة ، وسحرها ، وأملها ، الأشجار العالية ، التي تنعزل قممها بعيدا في الفضاء في كبرياء وسكينة، ودعتها ونجوت بنفسي من هذا الجمال الذي يغمرك بلا نهاية . شيء ما في روسيا يشبه قلبا كبيرا يتنفس طيلة الوقت ، يزفر أنفاسه الدافئة في الضباب ، وفي الطقس المشمس ، وفي الليل ، شيء تحسه طيلة الوقت، يتنهد منزلقا إليك من فوق قباب الكنائس المذهبة ، سفرة الأكل الروسية ، التي لا مثيل لها في العالم ، ففي كل مكان يأكل الناس ثم ينفضون من حول السفرة ليواصلوا الجلسة ، إلا عند الروس ، يفرشون مائدة كبيرة بكل أنواع السلاطة واللحوم والمزات والخمور، ويجلسون لا يفارقون المائدة ، يأكلون ويثرثرون ويضحكون ، تبدأ الجلسة من المائدة وتنتهي عندها . فإذا لم تستطع النداهة أن تجعلك تلتفت إلي نظرة عينيها ، فسوف تجذبك بنكاتها اللاذعة ، وفي هذا الصدد ثمة نكتة بشأن  حقيقة أن بوتين –الرئيس الروسي السابق– هو الذي يحكم روسيا حاليا من موقعه كرئيس للوزراء ، تقول إن بوتين حين كان رئيسا صرح منذ عام بأنه بحلول عام ألفين وثمانية سيحكم روسيا " شخص آخر " وأضاف مساعده على الفور : وقد أصبح بوتين خلال سنوات حكمة الماضية " شخصا آخر " ! فإذا لم تجذبك النكات الحادة ، والطبيعة التي تمتد بلا نهاية في بلد هو الأكبر مساحة في العالم ، فسيشدك الوجدان الفريد للشعب الروسي ، الخشن من الخارج ، الطيب جدا من الداخل ، الذي يشرب الفودكا كثيرا ، لكن ليس بسبب البرد كما تعتقد الغالبية ، ولا بسبب الإدمان ، لكن لأن ذلك الشعب يعشق الصراحة ، وهو شعب متحفظ ، يحتاج إلي الكحول ليطلق لسانه بالتعبير عما تجيش به نفسه ، إنه الوجدان الروسي الذي اخترع عبارة " ما من ألم غريب " ، أي أن كل فاجعة  في العالم هي فاجعة الإنسان الروسي ، شعب يظل يبحث عن الحقيقة والعدالة ، كأنه مفطور على ذلك، نشأ الأدب لديه منذ بداياته ، مع جوجول ومسرحيته "المفتش العام"  ثم " نفوس ميتة " وهو مرتبط بدوره الاجتماعي ، حتى دوستويفسكي الذي قال : كل أدب هو عظيم بمقدار ما هو عصري ، وممتع ، ومفيد . إذا لم تشدك النداهة بجمالها ، وأغنياتها المديدة المقاطع ، وأشجارها ، وقلبها الذي يتنهد ساخنا في كل الفصول ، فسوف تناديك بأمطارها وحزنها الغامض الذي يشيع في ضباب خفيف بلون الطباشير ، تقف في مدخل محطة مترو لتحتمي من المطر ، فيهبط من سماء الشارع الحمام ، منزلقا إلي داخل المحطة ، ينفض ريشه من رذاذ الماء ، ثم يعاود الرحلة . ترى من مكانك امرأة روسية عجوز واقفة محنية الظهر شبه عمياء ، تمد كفا ، وتمسك بيدها الأخرى ورقة صغيرة كتب عليها بحروف كبيرة : ساعدوني لأجل المسيح ! وتفكر في سمة أخرى من سمات هذا الشعب ، ألا وهي التطرف ، والانتقال الحاد من جانب إلي آخر ، من الدعوة لتغيير العالم بالمحبة عند تولستوي إلي المدافع واغتيال القياصرة ، ومن المسيح إلي ماركس ، ومن الشيوعية إلي الابتهالات الدينية .  في حديث مع مواطن بسيط قال لي وهو يضرب فخذه بيده : لقد أعطتني الشيوعية سروالا واحدا ، يالها من مأساة ، لكن الأكثر إيلاما أن الديمقراطيين حين جاءوا انتزعوا مني ذلك السروال !

حاول أن تنجو من كل ذلك ، لكنك لن تنجو أبدا من ثقافة روسيا وقصائدها ، من بوشكين وتشيخوف وأندريه بلاتونوف وبلجاكوف، من جوجول الذي مات ملتاثا لأنه كلما أراد أن يصور مجتمعا مثاليا ليرضي القيصر والكنيسة خرجت روسيا الحقيقية من بين يديه ، فقال عنه تولستوي متأسفا : " لم يستطع عقله الخجول أن يرتقي إلي عبقريته الفنية الحدسية المذهلة " . ودعت كل هذا الجمال الطاغي الفاتن ، وسرت في أرض المطار ، تناديني ، ولا ألتفت خلفي ، لأن نظرة واحدة إلي عينيها قد تجمدك أمام جمالها ، تتبعها مأخوذا ، إلي كهفها الغريب المتوهج المشبع بالأساطير والبحث عن معنى وراء الحياة ووراء الموت .