القرآن بين تشنيف الأسماع وهدي الأتباع

م. الطيب بيتي العلوي

م. الطيب بيتي العلوي

مغربي مقيم بفرنسا

باحث في الانثروبولوجيا الدينية والثقافية بباريس

[email protected]

"...وانمايعرف فضل القرآن من كثرنظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خصها الله بها لغتها دون جميع لغات الأرض."ابن قتيبة(276) للهجرة من كتابه"تأويل مشكل القرآن"

 توطئة

لا يمكن فهم مدى تأثيرالقرآن الكريم علىالعرب في بداية البعثة النبوية ،بدون معرفة تلك العلاقة الوطيدة التي كانت تربط العرب بلغتهم ومدى سطوتها عليهم، وهو مبحث يندرج فيما أسماه العلامة ابن خلدون ضمن مقارباته (الأنثروبو-سوسيو-ثقافية) ب"علوم اللسان العربي"  وهي العبارة التي أطلقها على مجموعة تلك العلوم المختصة باللغة العربية ،وهي عبارة أكثر مناسبة وأقوى دلالة على ما يرادبها، وقد عدها أركانا أربعة وهي :

علم اللغة وعلم النحو، وعلم البيان ،حيث يعرف علوم البيان هذه بأنها".من العلوم التي تولى غرسها المسلمون في سبيل فهم كتابهم ،والدب عن قرآنهم ،وكان نماؤها بعدذلك وتشعب مباحثها بتأثيرالدين، وبتوجيه المفكرين من حملته ورجاله.. انتهى كلام ابن خلدون..".

.غير أن " السلف الصالح من العرب المسلمين ،لم يكونو في حاجة الى جهد في سبيل ادراك معاني القرآن ،لأنهم كانوا عربا ،وكان لسانهم عربيا، فاستغنوابعلمهم ومعرفتهم عن السؤال عن معانيه وعما فيه ،مما وجدوا مثله في كلام العرب من وجوه البيان .."كما  أكد على ذلك  كل من كتب في توضبح الاعجاز اللغوي في القرآن أمثال : ابو عبيدة معمر بن المثنى البصري(المتوفي عام208للهجرة) صاحب كتابي "معاني القرآن" و"غريب القرآن" ومن قبله عبد الحميد بن يحي(132) في مجاز القرآن،ثم ألف قطرب(محمد بن المستنير(206) معاني القرآن، وألف الكسائي(189)( معاني القران،)و(كتاب القراءات، وألف الفراء(207)وتلميذه سلمة بن عاصم وسعيد الأنصاري'(215) والأخفش غي معاني واعجاز القرآن(215)وألف الجاحظ(نظم القرآن) و(المسائل في القرآن) وألف مثله معتزلة آخرون،مثل واصل بن عطاء...وابن قتيبة(276) في (تأويل مشكل القرآن) والطبري (310) في اعجاز القرآن ومن بعدهم الرماني والواسطي والزمحشري، وثعلب ، والمبرد والسكاكي وتتابعت الكتب التي لاتحصى، اذ لا تكاد تجد في القرون الأولى أديبا كبيرا لم يتبحر في لغة القرآن وأسلوبه ونظمه

 اللغة عند العرب في الجاهلية

سلم العرب بأن القرآن معجز، فلم يجاره أو يحاول مجاراته أحد، والذين تصدوا لذلك من الكذبة والمتنبئين ،سجعوا أسجاع كهان مزرية، حيث لم يألوا جهدا لدحض القرآن واللغو فيه، بعمل كل ما في وسعهم وتحت أقدارهم، وتكلفوا من الأمورالخطيرة، وركبوا كل الفوارق المبيرة، وكل مركب صعب، ليحوزوا الفلج والظفر فيه، لعدم القدرة عليه والعجز المانع عنه ، أو لم يكن قرآنا عربيا، نزل بلسان عربي في بيئة عربية.؟

فمن هم هؤلاء العرب وما هي لغتهم  التي يفخرون بها؟

 ان قوم الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام من عرب الجزيرة العربية، قد خاضوا في جاهليتهم معارك عذراء في فيافي الابداع اللساني، وقدموا أنماطا لسانية منه، حفرت صورته في صدر التاريخ ،ولونت بصماته في الكون، بالرغم من كل المحاولات "التقليصية" لبعض المستشرقين أمثال "مرجليوت" على لسان تلميذه الدكتور طه حسين الذي شكك- في بدايات طموحه الهستيري- في هذا الارث العربي الضخم ،الذي نزل به القرآن، قصد الدفع –بخبث- الى التشكيك في لغة القرآن ،(فمنهج

التشكيك في الأصل المقارن به-بنصب الراء- يمهد لشطب الشيئ المقارن-بكسر الراء-) وبتراجع مرجليوت، تراجع تلميذه الأزهري المتعطش للشهرة بأي ثمن، والمستسلم لمقولة"سلبيات "التاريخ العربي وقصور"تراثه، وانتهت بذلك زوبعة التشكيك في الشعر الجاهلي الى غيررجعة، حيث قضى "المشكك" طه حسين العشر السنوات الاواخرالمتبقية من حياته ينصت الى تجويد القرآن على صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (كما رواها لي ابنه من  سوزان"فيليب طه حسين" الذي كان من مدراء قسم الثقافة بمنظمة اليونسكو

أجل لقد كان للغة عند العرب في الجاهلية أقوى تأثيرفي النفوس " حتى كانت تخشى بأسه الأمراء ويتحاماه الكبراء".-كما قال الجاحظ-، فقول العربي في الجاهلية.تفكيره، وتفكيره بدء لعمله ،ولذلك اعتبره زهير،الشاعرالجاهلي، أحد شطري الانسان حين قال " لسان الفتى نصف ونصف فؤاده" فقد كان العربي تياها بلغته ،ينظر اليها نظرته الى الكون كله، فهي سر من أسرار وجوده يترنم بكلماتها العذبة ،كالموسيقى الموقعة،

وما تزال الأبحاث الجادة الرصينة في مراكز الأبحاث اللغوية في الغرب في مجال اللسانيات والفيلولوجيا تنظر بعين التقدير والدهشة الىتلك التجربة (الأستاتيكو-لسانية)العظيمة لشعراء الجاهلية ،التي ظل الشعراء العرب بعد الاسلام يمتحون منها ويقلدونها، فسقط معظمهم وظلت تلك التجربة شامخة سامقة وخضرة لا تنضب، ولا يزال البحاثة الجادون(كما هو الشان في الكوليج دوفرانس بباريس-قسم اللغة العربية وحضارتها وآدابها) يتساءلون ما الذي فعله هؤلاء الفحول العرب في مجال اللسان العربي، ليتحول معظم من أتوا بعدهم الى أقزام –(على حد تعبير البروفيسور "جاك بيرك" في آخر محاضراته لتقديم مؤلفه الضخم في تفسير القرآن الكريم قبيل موته عندماتطرق الى لغة العرب في الجاهلية التى جاء كلام القرآن بها)أ و كما أسرت  الي مسمعي –شخصيا- مساعدته البروفسور "مادام بوتي"petit  المتخصصة في الأدب العربي والدراسات اللسنية العربية بتعليقها التالي :

لقد توحد الشاعر العربي في الجاهلية الى حد الذوبان في بيئته، فلم يتسابق "امرؤ القيس" ولا"لبيد بن ربيعة " ولا "الأعشى" الى التنميق في أشعارهم استجابة "للخصائص" العالمية ،والكونية، آنذاك،ولم يفكروا بالصيغة ذات الصفة العالمية ليترجم لهم الرومان، أوالفرس، أو الصينيبون/ أو الهنود زمنها، لا كما يحلم بعض الأقزام العرب المعاصرين، الذين يتهربون من اضاءة خصائص لغتهم وحضارتهم، ويتمزقون شر ممزق –وبالمجان- مثل الضباب المكثف تحت وهج شمس الوهم الحارقة"للعالمية"وسرابات "الحداثات" العبثية( علما بان الغرب  يتحدث عن الحداثة بصيغة الجمع (أي حداثات) منذ الخمسينات ،وما يزا ل نخبنا النرجيسيون يجترون ذلك المفهوم المتآكل للحداثة (بصيغة المفرد) الذي تجاوزه صانعوا الحداثة وخالقوها منذ عصر نهضتهم الى بعيد نهاية أكبر حرب تدميرية خلقتها "حداثتهم الحصرية "، ولم يعد لهذا المصطلح بالمفرد ذكرفي قواميس المعرفة لديهم، من برشلونة الى سيدني ، مما يثير سخرية واحتقار الدارسين الأوروبيين لكتابات هؤلاء"الديناصورات العرب" وشيعتهم، بينما ما تزال مدارالابحاث الغرب مركزة على أشعار الجاهلية ،ومقارنتها بلغة القرآن من أجل استكناه أسرارمصادر اللغة القرآنية

فلا مشاحة ، اذن ،أن العرب في الجاهلية،لم يلتفتوا الى لغات غيرهم ينبهرون بها، أويتهافتوت عليها، ولم يخرجوا قط عن جلودهم يبحثون عن"هويات" معاصرة لهم يستلهمون،أوتتغشى أعينهم وميض وهج لغات اليونان والرومان والفرس المجاورة لهم جغرافيا (رغم أن عرب المناذرة بالعراق كانوا يتقنون الفارسية ، بينما كان أشقاؤهم عرب الغساسنة بالشام يتقنون اللاتينية والسوريانية والآرامية القديمة وترجموا منها واليها)،.حيث كانت تلك اللغات الأقوى صولة ونفوذا فكريا ، وبريقا وتألقا حضاري آنذاك،

لقد كانت لغتهم العربية جماع الفنون عندهم، حيث سجدوا على أيام الجاهلية للمعلقات، وانصاعوا لسجع الكهان مبهورين، وافتتنوا بلوذعية الخطباء وهم أميون،فكان فيهم الخطباء المصاقع والشعراء المفلقون، وقد وصفهم القرآن بميلهم الى الجدل واللدد عند الاشتجارحول اللغة، فقال سبحانه" وماضربوه لك الاجدلا،بل هم قوم خصمون" ثم قال سبحانه في موضع اخر" وتندر قومالدا" حيث كانت ملكة التعبيرعندهم، استعدادا فطريا، يتجلى أول ما يتجلى فى سلاسة لسانهم وتلقائيته، وللكلام عند هم سلطان وأي سلطان، !!!!

اما البداوة-التي يعتبرها بعض الأقزام القلقة من ذوي النظرات الزائغة -قذى في جبين تاريخ العرب- فهي تلك الظاهرة الفريدة في تاريخ الجنس البشري، التي تحتمل ضمن ما تحتمل الكثير من المعاني والرموز منها :البراءة،الطفولة ،النبل ، الكرم الاسطوري ،الحب ،نجدة الضيف،اغاثة لملهوف ،الصدق في التعامل،البطولة، الشهادة في سبيل الاستقامة، ،الشهامة ،وكانت الفصاحة عندهم،تحويل الكلمات البسيطة الى رموز، وغيرها من الاشعاعات التي حملتها بداوة العربي، التي صارت شتيمة عند صراصير الكتابات "الحداثية" العربية المعاصرة-

أما لغتهم، فخلقتها الصحراء المترامية الأطراف، التي صنع العرب من موجاتها الرملية كيانا انسانيا يحب ويكره ، ويرضى ويغضب ،ويكره، ويوجد ، ويموت ويخلد ، وينطق ، وينفعل مع كل ذرة وجزيئ في الصحراء، فيحاور نبتة الشيح والسعتر الى الناقة والفرس، والوادي  والطلل والدمن، فتحولت كل مرتفعات ومنخفضات أرباض الجزيرة العربية على كبرها وهول اتساع مساحتها الى رموزفنية سرمدية ، وتلك كانت قوة اللغة العربية وسر حرارتها وديمومتها وخيالها وترادفها وحيوتها وقدرتها  اللامتناهية على التوليد والعطاء والاستمرار، مهما حاول بغاث الطيرمن المقزمين الجددمن النيل منها

ارتباط لغة العرب بالغناء

"... وانما الشعر صياغة .. وضرب من التصوير عند العرب في جاهليتهم ..." ...الجاحظ

كان الشعرهو الفن المطلق بامتياز عند العرب في جاهليتهم،فهورسمهم وموسيقاهم وديوان أخبارهم، ومن خصائصه الصدق التسجيلي أو التطابق الهندسي وكان الأعرابي في الجاهلية، كعالم الطب أوالفلك-يدهور البيت من الشعر بين شدقيه كالحلوى وكاللحن ، وينظم الروائع

كما كان الغناء من خصائص كلام العرب شعرا أونثرا(أنظر خطبة قس ين ساعدة الأيادي في الجاهلية)، فكلامهم له أوزانه المنغمة ، وخاصة الشعر الذي يتميز عن أشعارالشعوب الأخري بالايقاع والموسيقى والوزن والقافية

فكان أصحاب المعلقات لشعراء الجاهلية الصناديد، و ظرفاء الصعاليك قد تصوروا الوجود"دراما"، والحياة ملحمة، وهم فرسانها،جمعوا بين النعرة العصبية ،والتيه والعجب(بضم العين).،والمنافرة والمفاخرة، ونقلوها من ساحة الوغى وطعانها،الى ملكوت اللغة وسماقتها،وكان الكلام عندهم –شعرا ونثرا- معرض ومظهر البلاغة، بايجازه وحشده المعاني والصورفي نطاق ضيق، وقوة تأثير الكلمات المنظومة ،والعبارة الموزونة.،لذلك كان بديهيا ،أن يغدوان الميدان الطبيعي لفرسان البلاغة والبيان عندهم

 وبمجيء القرآن، تشربت أفئدتهم المزيد من الافتتان بلغة الفرقان والبيان،فاذا بهؤلاء البدو يغدون أول مجموعة بشرية وصفها المستشرق مرجيليوت(شيخ طه حسين)- الذى لم يكن قط ودودا مع ثقافتنا- بأنهااستحوذ عليها الدين –ثم استحوذت عليه- عبر معايشة حميمية لتجربة (استيتيكو- لسانية)متفردة النوعية فى كل أعصار الآداب والفنون والأديان،فبشار، وأبو نواس، وأبو تمام ،وابن الرومي، وعبد الحميد ،وابن المقفع، وسهل ابن هارون، وعمرو بن مسعدة، والصولي، والخوارزمي، والزمخشري، والغزالي، والتوحيدي، والهمذاني، والجرجاني، والمتأخرون من فصحاء العربية ذوى النسب العجمي ،مثل أمير الشعراء أحمد شوقي ،قد أصبحوا الأبناء الشرعيين للسان مضر،(وهم ليسو بعرب) ومبتدعات للغة قحطان،وعدنان، قبل أن ينسبوا الى بنى الروم والساسان والأمازيغ والتركمان ،حيث امتد سحر بيان لغة الفرقان الى مجموعات،وشعوب وثقافات، خالط منها الروح والذوق والكيان، فأصبحوا أساطين في الفصاحة والذلاقة، وفقهاء حذاق في علوم الآلة ،ومجمل فنون اللغة واللسان بدون منازع ، حتى فاقوا بذلك العرب أنفسهم.(فواضعوا قواميس اللغة العربية القدامى ليسو بعرب)حيث جاز لهذه اللغة أن تسمى بفضل هؤلاء الأعاجم الذين تعشقوالعربية وعشقتهم "بحضارة القول "- وأضاف شيخ المستشرقين الفرانكوفونيين "لوى ماسينيون" بأنها "حضارة "فن القول"

تأثير القرآن النغمي والموسيقي في النفوس

".....و.نظمه البديع الذى لايقدر عليه العباد.../ ...ولو أن رجلا قرأعلى رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة لتبين في نظامها، ومخرجها من لفظها وطابعها ،أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه.."أ بو عثمان الجاحظ(المتوفي سنة255للهجرة)   من كتابه " بيان الاعجاز القرآني"

لا جرم أن علوم البيان وتنوع مباحثها،من أهم ما يعتمد عليه في خدمة العقيدة الاسلامية ،لأنها تعمل على ابراز ما في القرآن الكريم- وهوكتاب العقيدة الاسلامية وآيتها المعجزة-

""وفرق ما بين نظم القرآن وتأليفه، ونظم سائر الكلام وتأليفه، فليس يعرف فروق النظر واختلاف البحث، الا من عرف القصيد من الرجز ، والمخمس من الاسجاع،والمزاوج من المنثور،والخطل من الرسائل،وحتى يعرف العجز العارض الذي يجوز ارتفاعه من العجز الذي صفة الذات..،.فاذا عرف صنوف التأليف، عرف مباينة القرآن لسائر الكلام،ثم لم يكتف بذلك حتى يعرف عجزه، وعجز أمثاله عن مثله، وأن حكم البشر حكم واحد في العجز الطبيعي ،وان تفاوتوا في العجز العارض"..(2)

 تحدى الرسول صلى الله عليه وسلم العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله ،فعجزوا عنه وانقطعوا دونه،وقد بقي (ص) يطالبهم به مدة عشرين سنه ،مظهرا لهم النكير، ومزريا بأديانهم، ثائراعلى تصوراتهم ،مسفها آراءهم وأحلامهم حتى نابذوه وناصبوه الحروب

أجل نزل القرآن مفرقا ليقرأعلى قريش "ذؤابة العرب " الموصوفين برزانة الأحلام، ووقارة العقول والألباب ،وعلى العرب كافة، للفهم والتدبروالاستيعاب ، ولتعلم .أحكامه،

لقد كان الاعجاز للقرآن الكريم بعجز القدرة الانسانية عن قول مثله، واستمرار هذا العجز مع استمرار الزمن وتقدم العالم .فالعالم في عجز عن صنع مثله،.اعجازه في ألفاظه ، وفي عباراته، وفي معانيه .وفي اجتماع هذه الوجوه، على أعلى مستوى،مع خصائص الفصاحة في الفاظ كأنها السلسال ، ومع البلاغة في المعاني والمواعظ ومضارب الأمثال والقصص والخبر والأوامر والنواهي ،مع موسيقى اللفظ وجرسه ، تخاطب الأذن والعين والعقل، بألفاظ فيها حياة ، واطراد نسق واتزان،مقطعا مقطعا،ونبرة نبرة ،وكان النفس توقعه توقيعا ولا تتلوه مجرد تلاوة

فالحرف من القرآن معجز في موضعه ، يمسك الكلمة التي هو فيها،ليمسك بهاالآية، فيؤدي للسامع صوت النفس ،وصوت الفكر،وصوت الحس، في الألفاظ والمعاني

"لايؤلف برهانه تأليف المنطقي العادي من مقدمة صغرى وكبرى ونتيجة.ولا يثير مسائل الفلاسفة يفصلها ويبني عليها،لأن الدين لم ينزل للفلاسفة،أو المفكرين ،أو العلماء وحدهم، فهم الفئة القليلة ،..انما اعتمد القرآن الفطرة الانسانية والعاطفة النقية وهما قدر مشترك بين بني البشر جميعا، وهو قد أنزل جميعا،" كما  قال الاستاذ عبد الحليم الجندي

 لقدجاء تنزيله بترتيب عجيب ، جعلت العرب من أرباب الفصاحة والبيان، يتلقونه منذ نزوله مبهورين و مسحورين، يستوي في ذلك مؤمنوهم وكافروهم ،فجاء أحسن لفظ، في أحسن نظم فى التآليف،معجز بلفظه،ونظمه وتركيب عباراته..،مفردة أو مركبة،فجاء معجزا بموسيقاه،ومعجزا بتأثيره في الأرواح.والعقول ، بين جمال ترتيله وحسن تأويله ، ومن خلالهما برزت معانيه الخالدة للمتمعنين ،والمتأملين ، والقارئين له والمنصتين اليه، ، فانشغلوا بعذب جرسه وروعة كلماته، و كيفية ترتيبها المونق والدقيق،وتناسقها المعجب ، وتعدد أساليبه الموسيقية ،ووقعها في النفوس ،فيجد فيه البعض سموا شعريا ، و يرى فيه البعض سحرا أخاذا، فاعجز الشعراء وليس بشعر، وأعجز الخطباء وليس بخطبة، وورد الايقاع الموسيقى فيه حدا لا مثيل له لا في شعر ،ولا في نثر،منذ أن تكلم العرب العربية في الجاهلية وهم أساطينها وأربابها ، فافتتن كفار قريش فى البحث فى"منابع السحرفيه" تجلت فى شخصيتين متماثلتين، من حيث مكانتهما الا جتماعية وبداوتهما ،وسليقتهما اللغوية ،ومتناقضتين فطرة وايمانا وصفاء وهما: الوليد بن المغيرة من عتاة كفار قريش وفصحائها وبلغائها، وعمر بن الخطاب من أشرافها، وفوارسها الصناديد ،.الأول سمع شيئا من القرآن فرق قلبه (كفنان مرهف الأحاسيس) فتداعى كبرياؤه، رغم كفره وتعنته، وانسداده عن الحق،  مما أذهل كفارقريش وأخافها ،فتعالت أصوات ساداتها تصيح"صبا والله الوليد، ولتصبون قريش كلهم"، فهرع اليه أبو جهل مستغربا ومستنكرا انبهاره بسماع بضع آي من القرآن، فأجابه المغيرة مأخوذا بهول صدمة كلمات القرآن الكهربية قائلا:فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه،ولا بقصيده،ولا بأشعار الجن، (أو الانس في رواية أخرى)..والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا،....والله :ان لقوله لحلاوة..،وان عليه لطلاوة...،وانه ليحطم ما تحتهوانه ليعلو ولا يعلى عليه...."الى آخرالرواية المشهورة فى السير ..

أما عمر الفاروق، فاختلفت الروايات في كيفية اسلامه الا أنها تلتقي في أنه "سمع" (كما سمع المغيرة كذلك) شيئا من القرآن، لقولة عمر "فلما سمعت القرآن رق له قلبي"

 وهنا نرى مشهدين متناقضين لرجلين عربيين  بدويين من سادة فصحاء العرب وفوارسها الصناديد ، عمر بن الخطاب الشديد الحساسية،والأقرب الى الايمان والروحانية بالفطرة، والمغيرة ربما الأشد حساسية (كشاعر)والأبعد عن الايمان والروحانية بالفطرة،الا أنهما التقيا على نقطة واحدة وهي ، انبهارهما، و اقرارهما  بسحرجاذبية "القرآن" السمعية قبل العقلية، أو الملكة الذهنية الاستيعابية.

وفى حادثة المغيرة الرافض للايمان نقرأ هذه الية ذات الجرس الموسيقى الاخاذ التى سحرته وبهرته والجمن لسانه عن "اللغو" في القران او التنقيص من  بلاغته  وقوة تاثيرنغمته وهي" انه فكر وقدر،..فقتل !..كيف قدر؟..ثم قتل ..!كيف قدر؟..ثم نظر،..ثم عبس وبسر،.. ثم أدبرواستكبر،.. فقال :ان هذ الا سحريؤثر !!"..

. فنلاحظ  ان كلي الرجلين "سمعا"  بعضا من آي القران، ولم يكن عمر اكثر فهما او استيعابا للمعانى من المغيرة،الاأن كلا منهما تأثر على شاكلته، وحسب وعاء قلبه

وكم توانى الباحثون فى تبيان هذا الجانب المأثر لدى سماع القرآن من عرب الجاهلية، التى كانت تغلب عليها الأمية ،فنجد أن المتبحرين في الاعجاز اللغوى والبلاغى للقرآن ومعظم المفسرين ،قدانساق معظمهم في مباحث حول " المبنى والمعنى"أو "اللفظ والمعنى"وأيهما أكثربلاغة ،متذرعين بالقواعد البلاغية التى وضعت لاحقا ،بالكوفة والبصرة فبقيت مزايا القرآن الفنية(التعبيرية والموسيقية) مهملة ومسكوتا عنها ،الا لقلة ناذرة ،مثل الزمخشرى صاحب الكشافـ، وقبله عبد القاهر الجرجاني ذاك اللغوي المنقب الذي بلغ غاية التوفيق في ابراز الصور الحافلة بالحركة الموسيقية والايقاعية " فى كتابه "دلائل اعجاز القرآن"ولم يصل المحدثون بعد الى الكشف عن هذا الجانب المشع والواضح فى القرآن الكريم ..الا تلك المحاولة الكبيرة من سيد قطب فى كتابه القيم" التصوير الفني في القرآن

 ولذا فاننا لنجد الآيات  التى سحرت المغيرة او عمربن الخطاب هىآيات مكية لاتوجد فيها شرحا لعقيدة اوأوتفصيلا لتوحيد اوتفسيرا  لبراهين العلوم الكونية  اووضعا لقوانين الدولة .. ،بل سحرت العرب الاوائل "صيغه المعبرة  المنغمة" ، فى وقت لم تتنزل فيه آيات التشريع المحكم، أو التفصيل في القضايا الكونية والميتافيزيقية الكبرى، بل احتوت على عناصر أخرى سحرت سمعهم واستحوذت على مشاعرهم مما جعلهم يلتفتون فيما بعد الى "صاحب الرسالة الذي نزل عليه القرآن يترصدون ،حركاته وسكناته واقواله وافعاله وتعابيره اللفظية والسلوكية ،محاولين استشفاف ايماءاتها وايحاءاتها، واكتناه اسرارها ورموزها،علهم يجدون فيها أو في الرسول شبهة أو ثلمة،  وكأني به تحت المجهر،

وكما فعل كفار قريش في الماضي البعيد ، يحدث نفس الشئ منذ القرن السابع عشر من عتاة المستشرقين بأدوات الاستشراق كعلم له كيانه ومناهجه. ومدارسه وفلسفته. ودراساته ومؤلفاته. وأغراضه وأتباعه ومعاهده ومؤتمراته،وبكل نزوعاته المختلفة من التفوقية والتحليلية والتخصصية واللاهوتية والسياسية ، وما ترك هؤلاء كبيرة ولاصغيرة الا احصوها  .ولم لا؟"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحمكوك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما(اللية65من سورة النساء) ألم يكن هوصاحب الرسالة–..كما وصفه المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه نطرات فالاسلام ص14حين كتب.." ....وما أدراك من صاحب الرسالة، فحسبك منه أنه عليه السلام جمع خلالا كل واحدة منها كانت عنصرا فعالا في نجاح الدعوة، خلالا نعد منها ولانعدها، ونرسم شيئامن جوانبها ولا نحدها :

صبر ومصابرة، وجد ومثابرة، وحرص على بلوغ الغاية ، والتزام لأدق حدود الصدق في الوسيلة والغاية، ،(فالغاية المشروعة لاتجيز وسيلة غير مشروعة فالغايات في الاسلام لا تبرر الوسيلة والله سبحانه تعبدنا بالوسائل كما تعبدنا بالغايات)

تلطف في الدعوة وقصد في الحاجة، وتعليم بالأسوة والقدوة ،وتأديب باللمحة والنظرة  وطهر في السيرة والسريرة، لا حقد ولا ضغينة،ولا ختل ولا مواربة، سخاء بما في اليد،وزهده بما في يد الناس....."

 وهكذا تجاوبت نفسية صاحب الرسالة بالرسالة فالتقت القوتان في حلقة مفرغة حملت الى العالمين رسالة الاسلام  الذي هو باق الى يوم الدين ولو كره الكافرون...

              

(1(1) ابن خلدون   مقدمة ابن حلدون ص545 طبعة الكمتبة التجارية – القاهرة

(2) بيان اعجاز القرآن للخطابي ص18( مطبعة دار التاليف- القاهرة1953

وعن تفوق اللغة العربية عن غيرها من اللغات  وتميزها بخصائص القوة والحركة  والتوليد والترادف انظر بعض المصادر التالية span>

E

Etudes d’islamologie-     Robert Bruschvic

 E dition  maisonneuvre et la rose مؤلف من مجلدين كبيرين من span> 766صفحة

PAPARIS – Edition maisonneuve  et LAROS

بروكلمان في " موجزفى علم اللغات السامية " بالفرنسية ص 40

لوي ما نيون، في تقديمه لكتاب خليل عزة

" مقولات ارسطو فى ترجماتها السوريالية والعربية  " بالفرنسية طبعة بيروت..

الدكتورمحمد عبد الله دراز ..النبأ العظيم. مكتبة الهدى -حاب. بحث  دوكتوراه من جامعة السوربون بباريس عام 1948

..الدكتور عثمان يحي." الكوجيتو الديكارتى واللغة العربية".

الدكتور عثمان يحي فلسفة اللغة العربية من ص 96الى102  .المكتبةالثقافية 1965

مالك بن نبى –انتاج المستشرقين واثره فى الفكر الاسلامى –دار الارشاد بيروت

 مالك بن نبى-ا-الصراع الفكرى فى البلاد المستعمرة دار الفكر بيروت

وسنواصل البحث في  فن التجويد  والخلافات الفقهية.