رمضانيات 3

رمضانيات

3

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

صلاة التروايح أم صلاة التساريع؟

لن أدخل في فقه الصلاة – كما يريده الفقهاء أنفسهم – فلست بالذي يبغي أن يؤصل قاعدة فقهية يناقش فيها ، إنما نراوح بين اللغة والعادة التي تعارف عليها الناس في أدائهم صلاة التراويح في كل رمضان .

اعتاد جمهور المسلمين – وأركز على كلمة ( اعتاد) –  بعد فرض العشاء في رمضان مباشرة أن يصلوا ثماني ركعات على الأعم وعشرين ركعة على الأقل وكأنها صارت فرضاً عليهم ، لا يخرجون من المسجد إلا إذا صلّوها –

وتعمدت أن أقول " صلّوها " ولم أقل " يقيمون صلاتها " لأن الفرق بين المعنيين  كبير . فلن تجد في القرآن حين يأمرنا الله تعالى بالصلاة – على الأعم الأغلب - سوى " وأقم الصلاة .." و " يقيمون الصلاة "  وقد ذكرت الإقامة بالفعل الماضي والمضارع والأمر والمصدر خمساً وأربعين مرة ، إلا إذا أراد الدعاء ، فقال " وصلّ عليهم " ثم ذكر الفعل صلّى مرة واحدة بصيغة الأمر في قوله تعالى " فصلّ لربك وانحر " .

وتراهم في أحايين كثيرة يوصون الإمام أن يسرع في صلاته قراءة وأداء ، فيختصر صاحبنا القراءة  . ولا حاجة لقراءة " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ... " أو " سبحانك اللهم وتبارك اسمك وتعالى جدك ...." بعد تكبيرة الإحرام بل يبدأ بالفاتحة مباشرة ، ويُعدّ ماهراً إذا أنهى الفاتحة بنـَفس واحد أو نفسين ، ثم قرأ من قصار السور آيتين أو آية واحدة إن كانت طويلة بالسرعة نفسها التي قرأ فيها الفاتحة ، ثم يركع فلا يستوي راكعاً ويسجد فلا يستوي ساجداً . ولا ترى كبار السن والبادنين يستطيعون متابعته ، فهو يسير بسرعة مئة وثمانين كيلاً في الساعة !.

وأغلبهم لا يريد أن يسمع كلمة بعد الركعة الرابعة ، فقد تفوته حلقة من مسلسل تلفزيونيّ شائق يتابعه ،أو سهرة ممتعة حان وقتها . وإن لم يكن بد من الكلمة ، فلتكن قصيرة وسريعة قِصَر الركعات وسرعتها .

صليت مرة في مدينتي حلب ، وفي حي الكلاّسة ، وبالتحديد في جامع عبد الناصر ، فانتهت صلاة العشاء وركعتا السنة بعدها ، وعشرون ركعة للتراويح  ، ثم ركعتا الشفع ومن بعدها ركعة الوتر كل هذه الركعات في نصف ساعة فقط .  إنها كما ترون تسع وعشرون ركعة قضاها في ثلاثين دقيقة ! ، وافتخر الإمام أنه كان نشيطاً وسريعاً ، ومَن أعجبته الصلاة معه فليصل معه الأيام القادمة ، ومن لم يعجبه فالمساجد في المنطقة كثيرة !!

كنت إذ ذاك في الثلاثين من عمري حين انطلقت لزيارة أهلي ومعي زوجتي ، فأُذّن للعشاء ، وكنا في منتصف الطريق إليهم فدخلنا هذا المسجد وأدينا رياضة نصف ساعة ! وسمعت هذا الكلام ، فحمدت الله أن بيتي ليس في هذا الحي وإلا اضطررت أن أمشي كل يوم مسافة أكبر لأصلي في مسجد آخر .

وسألت نفسي :

1-     هل من السنّة أن نصلي التراويح بعد صلاة العشاء مباشرة ؟ والجواب قطعاً : لا ؛ إنما نصليها في الوقت بين العشاء والفجر .

2-     هل الصلاة أمر ثقيل فرض علينا يجب أن نؤديه بتلك السرعة أو شبيهها دون أن نتفكر أو نتدبّر فيما يقرأ الإمام ؟ ودون أن نعي هذه الرسائل الإلهية فنعرضها على أنفسنا لنرى أنحن ممن يؤديها أم نسيها ومرّ عليها ، فلم يلقِ لها بالاً ؟

3-     وما الفرق بين السرعة والاعتدال في الحركات والطمأنينة في الركوع والسجود ؟ إننا لو زدنا في كل ركعة نصف دقيقة  لما زاد الأمر عن أربع دقائق في الركعات الثمانية أو عشر دقائق في الركعات العشرين . أليست هذه الدقائق التي نضمها للصلاة تزرع السكينة والطمأنينة في أدائنا للصلاة ، وترضي ربنا تعالى  ؟ وما الأمر الخطير الذي نضيعه في حياتنا إذا كانت صلاتنا هادئة ؟. ولن أقارن أنفسنا برجال الله السابقين ، فهؤلاء قوم عمالقة ، لن نصل إلى كعوب أقدامهم .

4-     والتراويح من المراوحة ، ويقول العلماء : سمي قيام رمضان " تراويح"  لأن فيها مراوحة بين الصلاة والذِكر والعِبَر والعظات ، فبين كل ركعتين أو أربعٍ كلمة ٌ، ثم ذكرٌ لله تعالى وصلاةٌ على نبيه الكريم ، وبعضهم قال – كابن مسعود رضي الله عنه - بل هناك تراويح بين رجل وأخرى في الصلاة لترتاح كل رجل من طول الوقوف قليلاً حين تعتمد على أختها دقائق لطول القيام . وهذه الصلاة التي يحدثنا عنها ابن مسعود  لا علاقة لنا بها ، فأولئك – كما قلت – عمالقة شتان ما بيننا وبينهم . ورحم الله سيدنا ابن مسعود فهو يتحدث عن رجال القرون الثلاثة الأولى ولا يقصد رجال القرن  الخامس عشر الهجري أو القرن الواحد والعشرين الميلادي !. .

فهل نصل نحن صلاة التراويح أو صلاة التساريع ؟!

شرور الثقلين

قرأ الإمام في صلاة فجر هذا اليوم الرمضاني  20- رمضان 1429من سورة فاطر ، ولما قرأ آخر آية في هذه السورة "  وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) "  كررت في نفسي  " ما ترك على ظهرها من دابّة " ثم قلت : أأراد سبحانه وتعالى بكلمة دابـّة مَن يعقل فقط ( الأنس والجن ) وهم المكلفون ، وعليهم يجري القلم أم أراد سبحانه أن كل نسمة في الأرض من حيوانات وحشرات يبيدها الله تعالى بذنوب الجن والإنس وشرورهم ؟ .

وحين عدت إلى البيت  لجأت إلى كتب التفسير أستجلي الأمر فوجدت الرأيين كليهما ، وقبل أن أورد ما ارتاحت له نفسي أذكر ما قيل فيهما ، ولعل القارئ يقدم أحدهما على الآخر لعلة قوية يرتئيها .

قال بعض المفسرين في هلاك الجميع " لَوْ أخذهم بِجَمِيعِ ذنوبهمْ لأهلك جَمِيع أَهل السَّمَاوات وَالأرض ، وَمَا يملِكُونَهُ مِن دَوَابّ وَأَرزاق . ويورد ابن كثير عن ابن مسعود " كَاد الجُعل أَن يُعَذب فِي جُحره بِذَنْبِ اِبن آدم " . وزاد القرطبي معللاً : وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ زَمَن نُوح عليه السَّلام  . وَقَالَ سَعِيد بن جُبَير وَالسُّدِّيّ في هذه الآية : لَمَا سَقَاهُم الْمَطَر فَمَاتَت جَمِيع الدَّوَابّ . وَقَالَ يَحيى بن أَبِي كَثِير : أَمَرَ رَجُلٌ بِالْمَعرُوفِ وَنَهَى عَنْ المُنكَر , فَقَالَ لَهُ رَجُل : عَلَيْك بِنَفسِك فَإِنَّ الظَّالِم لا يَضُرّ إلا نَفسه . فَقَالَ أبو هريرة : كَذَبت ، وَاَللَّه الَّذِي لا إِلَه إلاّ هُوَ - ثُمَّ قَالَ - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوت هُزْلا فِي وَكرهَا بِظُلمِ الظَّالِم . وَقَالَ الثمَالِيّ وَيَحْيَى بْن سلاّم فِي هَذِهِ الآية : يَحبِس اللَّه الْمَطَر فَيَهلِك كلّ شَيْء .ويقول مُجَاهِد فِي تَفسِير " وَيَلْعَنهُمْ اللاعنون "  في سورة البقرة هم الْحَشَرَات وَالْبَهَائِم يُصِيبهُم الْجَدب بِذُنوبِ عُلَمَاء السُّوء الْكَاتِمِينَ فَيَلعَنُونَهُم . وَذَكَر القرطبي  حَدِيث الْبَرَاء بن عَازِب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم فِي قَوله : " ويلعنهم اللاعنون " قَالَ : ( دَوَابّ الأرْض ) .

ولا تدل لعنة الحيوانات التي لا تعقل وغيرها للمفسدين من البشر والجن  في الحديث أن الهلاك يصيبها إلا ان الأذي قد يلحق بها ، وتشعر به . وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه " " كَادَ الجَعْل أَنْ يُعَذَّب فِي جُحْره بِذنبِ اِبْن آدم " فللتهويل وتعظيم الأمر حين استعمل الفعل ( كاد) . وأما حبس المطر في قول الثمالي وابن سلام فيرده قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولولا البهائم لم يُمطروا " .

وقال بعضهم في هلاك الإنس والجن فقط ، فهم أصحاب الشرور . وَقَالَ الْكَلبِيّ : " مِنْ دَابَّة " يُرِيد الْجِنّ وَالإنس دُون غيرهما ; لأنهما مُكَلَّفَانِ بِالعقل . وَقَالَ اِبن جَرِير والأخفش والحسين بن الفضل : أَرَادَ بِالدابة هُنَا النَّاس وَحدهم دُون غَيرهم .

ويقول الفقير إلى ربه : حين قال تعالى " ولكنْ يؤخّرهم " فالضمير المتصل هنا يعود على العاقل فإذا كان التأخير للعاقل ، فالإهلاك لو حصل فللعاقل نفسه ، كما أعتقد أن كلمة " عباده"  تطلق على العاقل في القرآن كله ، فالحديث إذاً عن العاقلين ليس غير ...

ولعل القارئ علم من الأسطر الأخيرة وما علّقت عليه في آخر سرد الرأي الأول ما ارتحت إليه من المعنيين ، ولك يا أخي أن تختار ما اطمأنّ قلبك إليه ، فالقرطبي رحمه الله تعالى يرى غير ما أرى ، وهو عالم جليل ذو فكر راجح وآراء صائبة . ولكنْ قد يصل إلى الصواب أحياناً تلميذ صغير لا يؤبه له ، وكلنا ننشد الحقيقة ، هدانا الله إليها ، وعلى الجميع أن يُعمل عقله وفكره ...

والله وليّ التوفيق.

كبّر، كبّر

قد يخطر ببالك أخي الحبيب حين تقرأ العنوان أنني أقول لك : قل ( الله أكبر ) ، لا شك أن من شعارات المسلمين في كل آن وحين أن نكبر فنقول : الله أكبر .

كبّر، كبّر ... كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سهل حين قـُتل أخوه عبد الله – وعبد الله أكبر منه -  وكان صديقاً لمحَيّصة بن مسعود ، وكان القاتل معروفاً ،ذكر اسمَه القتيلُ عبد الله وهو يتشحّط بدمه قبل أن يفارق الحياة حين لقيه صاحبه مُحيّصة في اللحظات الأخيرة .

فقد ذهب محيّصة وعبد الله إلى خيبر وقت السلم لبيعٍ أو شراء وافترقا على أن يلتقيا في ساعة محددة ، فلما عاد محيّصة وجد صاحبه يفارق الحياة بضربة غدر من رجل عرفه ونطق اسمه قبل أن يودع .

انطلق محيّصة وأخوه حُويّصة – وحويّصة أكبر الاثنين – ومعهما عبد الرحمن بن سهل أخو القتيل يشتكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويطلبون الثأر والقصاص ، وظنّ عبد الرحمن أنه أولى بالحديث لأنه أخو القتيل ، فلما بدأه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم والأخوان حويّصة ومحيّصة معه قال له النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه احترام الكبير وتوقيره ووجوب تقديمه : " كبّر ، كبّر " ..  ، فسكت ، وتكلم حويّصة ومحيّصة .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أُراني أتسوّك بسواك ، فجاءني رجلان أحدُهما أكبر من الآخر ، فناولتُ السواكَ الأصغرَ ، فقيل لي : كبّرْ ، فدفعته إلى الأكبر منهما " وللإنسان أن يعطي الهدية من يشاء ، لكنّ احترام الكبير وتوقيره مطلوب ، فكان تقديمه أولى  .

وكان الحبيب المعلّم صلى الله عليه وسلم يقول منبهاً إلى إكرام الكبير " إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم " . فمن إكرامه التأدب في الحديث معه ، وخفض الصوت أمامه ، والنظر إليه بمحبة ولطف ، وإجلاسه في مكان يستحقه ، وتقديمه في حضرة الآخرين وعدم تعدّيه ، ومناداته بكلمة تنبئ عن تقدير ( العم ، أبا فلان .... ) .

ألم نحفظ عنه صلى الله عليه وسلم قوله الرائع المضيء في عالم التربية والأدب " ليس منّا مَن لم يرحم صغيرنا ، ويعرف شرفَ كبيرنا " ولا حظ معي كلمة " ليس منّا " فهي تنبيه وتحذير من جهة ، وحضٌ وتحفيز من جهة أخرى .

وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته الطاهرة الكثير من المواقف التربوية التي تعلمنا الأدب مع الكبير ومراعاة مكانته وتقديره .

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد على ذلك منها قوله تعالى في الآية 133 من سورة البقرة حين نسمع يعقوب عليه السلام قبل أن يلقى ربه يسأل أولاده عمّن يعبدون من بعده ليثبت إيمانهم على الملة السمحاء فيجيبون " قالوا : نعبد إلهك ، وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون " فأبوه إسحاق وجده إبراهيم أما إسماعيل فعمّه ، لكنهم حين ذكروا الثلاثة قدموا عمه إسماعيل على أبيه إسحاق لأن إسماعيل أكبر منه . وجعلوا إسماعيل من آبائه . وهذا قمة في الأدب وحسن الأخلاق .

وانظر معي إلى الترتيب الجميل في قوله تعالى في الآية 136من سورة البقرة " قولوا : آمنّا بالله وما أُنزل إلينا ، وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد مكنهم ، ونحن له مسلمون " ترتيب زمني جيد من لدن إبراهيم إلى عيسى صلوات الله عليهم ، يعلمنا إنزال الكرام منازلهم .

ونجد في السورة نفسها في الآية 141 الترتيب في المقام نفسه " أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أونصارى ؟! ؟ .

بل إننا نتعلم من فرعون نفسه -  والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها التقطها – نتعلم توجيه الحديث إلى الأكبر والأكثر وجاهة  . فقد دخل موسى وهارون عليهما السلام عليه وقالا له " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذّب وتولّى " فوجه فرعون السؤال تحديداً إلى أكبرهما وانتظر الجواب منه فقط " قال : فمن ربكما يا موسى ؟ " وكان الحوار بينهما ...

أين تحب أن تكون

قرأ الإمام اليوم في صلاة فجر الثاني والعشرين من رمضان عام 1429 للهجرة قوله تعالى في سورة الشورى الآية الخامسة والأربعين " ... وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ ألا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ " : فقلت إنه والله لأمر جلل أن يبيع الإنسان نفسه للهوى والشيطان رخيصة ، فيخلد في النار ، ويخسر كل شيء ، وأول ما يخسر نفسه .

قد يخسر الإنسان ماله ، فيعوّضه . وقد يخسر عقاراته ، فيسعى للحصول على غيرها ، وقد يخسر خيوله وأنعامه فيجدّ ويجتهد لتعويض خسارته . كل شيء يمكن أن يُعَوّض ، لكنّ خسارة النفس ، وتضييعها لا يُعوّض أبداً . وهنا الألم القاتل والحسرة الدائمة .. ولات حين مندم .

يطلع المؤمنون - وهم في جنة الله ورضوانه ونعيمه ، وعسانا أن نكون من الوارثين لهذا الفردوس المقيم بفضل الله ورحمته – يطّلعون على الكفار في عذاب النار وألمه الذي لا يُطاق فماذا يقولون :

إن من يدخل النار إما أن يكون أهله معه فيها ، فلا انتفاع بهم .

وإما أن يكونوا في الجنة ، فقد حيل بينه وبينهم ، ونالهم غيره .

أما من يدخل الجنة فإما أن يكون أهله معه ، فيسعد بهم ويزداد سروره بوجودهم معه .

وإما أن يكون أهله في النار فيبدله الله تعالى في الجنة أهلاً خيراً منهم من الحور العين.

وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد إلا لَهُ منزلان ، مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّة وَمَنْزِلٌ فِي النَّار فَإِذَا مَاتَ فَدَخَلَ النَّار وَرِثَ أَهلُ الْجَنَّة مَنْزِله ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " أُولَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ " )[ الْمُؤْمِنُونَ : 10 ].

وعلى هذا يُضاعف ملكُه في الجنّة فوق حقه هبة وإرثاً بفضل الله تعالى ، يرث ما كان للرجل الكافر لو كان مؤمناً . وَفِي مُسْنَد الدَّارِمِيّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ أَحَد يُدْخِلهُ اللَّه الْجَنَّة إلا زَوَّجَهُ اثنتين وَسَبْعِينَ زَوْجَة مِنْ الحُور الْعِين وَسَبْعِينَ مِنْ مِيرَاثه مِنْ أَهْل النَّار ، .. ) .

 قَالَ هِشَام بْن خَالِد : ( مِنْ مِيرَاثه مِنْ أَهْل النَّار ) يَعْنِي رجالاً أُدْخِلُوا النَّار فَوَرِثَ أَهْل الْجَنَّة نِسَاءَهُمْ كَمَا وَرِثَ الرسول صلى الله عليه وسلم اِمْرَأَة فِرعَون .

يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في هذه الآية : إن الخَسَارالأكبر لمن ذُهَبَ بِهِمْ إِلَى النَّار فَعَدِمُوا لذتهم فِي دَار الأبد وَخَسِرُوا أَنفُسهم ، وَفَرَّقَ بَينهم وَبَيْن أحبابهم وأصحابهم وأهاليهم وقراباتهم ، فَخَسِرُوهُمْ " ألا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَاب مُقِيم " دَائِم سرمديّ أبديّ لا خُرُوج لهم منها ، ولا مَحِيد لهم عنها .

ولا يقول المؤمنون هذا القول : إلا حين يعاينون لذة الجنة ونعيمها ، يقولون ذلك ويحمدون الله تعالى أن هداهم للإيمان وأكرمهم بالإسلام ، ورزقهم الخلود الأبدي في نعيم لا ينقطع وسعادة لا تزول ، وخير يتجدد .

إن كنت إلى خير تسعى
وإلى  الفردوس مع iiالنّا
يا فرحة قلبك حين ترى
والله  تـعـالى iiبالإكرا
بـل  تشكر ربّك تحمده
وحـمـاك بـمنّته iiناراً
وأعـاذك منها ، وحباكَ
وغِـراس الجنّة iiتسبيحٌ
واعـمل للجنّة في iiدَأَبٍ








وافـاك  الـخير iiونجّاك
جـين  بكل هناء iiوافاكَ
أحـبـابَك جذلى إذْ iiذاكَ
م وحـور الجنّة iiأرضاك
إذ جـعـل الجنّة iiمأواكَ
بـلـظاها تشوي iiالأفاك
فـضـلاً ونعيماً iiيغشاكَ
تـهـليلٌ ، فالزم iiذكراكَ
كـي يـحلُوَ فيها iiمثواكَ

جواهر الكلام

قال ابن قتيبة الدينوري رحمه الله :

1-  سمعت بعض العُبّاد يقول : علامة التوبة الخروجُ من الجهل ، والندمُ على الذنب ، والتجافي عن الشهوة ، واعتقادُ مقْتِ نفسك المُسَوّلة ، وإخراجُ المَظلمةِ ، وإصلاحُ الكَسرةِ ، وتركُ الكذبِ ، وقطْعُ الغِيبة ، والانتهاءُ عنْ خِدنِ السوء .

2-  لقي زاهدٌ زاهداً ، فقال له : يا أخي ؛ أحبك في الله . قال الآخَر : لو علمتَ ما في نفسي لأبغضتَني في الله . قال له الأوّل : لو علمتُ من نفسي ما تعلم من نفسك لكان لي من نفسي شُغـُلٌ عن بغضك .

3-  قال بَهْزُ بن حكيم : صلى بنا زرارةُ بن أوفى الغداةَ فلما قرأ " فإذا نُقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير ، على الكافرين غير يسير " خرّ مَغشيّاً عليه فحملناه ميْتاً .

4-  كان عمر بن عبد العزيز يقول : الصلاةُ تُبَلغك نصفَ الطريق ، والصومُ يبلغك بابَ الملك ، والصدقة تُدخلك عليه .

5-  أراد قوم السفر ، فحادوا عن الطريق ، وانتَهَوا إلى راهب منفرد في ناحية ، فنادَوه ، فأشرف عليهم . فقالوا : إنا قد ضللنا ، فكيف الطريق ؟ قال لهم : ها هنا ، وأومأ إلى السماء . فعلموا الذي أرادَ . فقالوا : إنا سائلوك ، أفتجيبُنا ؟ قال : سلوا ، ولا تُكثروا ، فإن النهار لن يرجع ، والعمُرَ لن يعودَ ، والطالبَ حثيثٌ في طلبه ذو اجتهاد . قالوا : ما الخلقُ غداً عند مليكهم ؟ قال : على نيّاتهم . قالوا : فإلامَ الموئلُ؟ قال : إلى المُقـَدِّم . قالوا : أوْصنا .قال : تزوّدوا على قدْر سفركم ، فإن خير الزاد ما بلّغ المحلّ . ثم أرشدهم إلى الطريق وغاب في صومعته .

6- قال أحدُهم : قلت لعابد : عِظني عِظَة نافعة . قال : جميع المواعظ منتظمة في حرف واحد . قلت : ما هو ؟ قال : تُجمع على طاعته ، فإذا أنت قد حوَيتَ المواعظَ والأذكار .

7- قال الأصمعيّ : قيل لأعرابي معه ماشية : لمن هذه ؟ قال : لله عندي ...

8- وكان ابن السمّاك يقول : لقد أمهلكم حتى كأنه أهملكم . أما تستَحيون من الله من طول ما لاتستَحيون؟!

9- وقال بكر بن عبد الله : اجتهدوا في العمل ؛ فإن قصّر بكم ضعفٌ فكُفّوا عن المعاصي .

10- قال منصور بن عمّار : ما أرى إساءة تكبر عن عفو الله  فلا تيئس، وربما أخذ الله على الصغير منها  فلا تأمن.

11- أتَتْ عائشةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بصَحفة فيها خبزُ شعير وقِطعةٌ من الكَرِش ، فقالت : يا رسول الله ذبحنا اليوم شاة ، فما أمسكنا منها إلا هذا . قال " بل كلها أمسكتم إلا هذا " .

12- قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم : ما بالُنا نكرهُ الموت؟ قال : لأنكم عَمَرْتمُ الدنيا ، وأخربتم الآخرة . فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب . وحين أخبره بوعيد الله للمذنبين قال له سليمان : فأين رحمة الله ؟ قال أبو حازم : قريب من المحسنين .

13- قيل لرجل جاء من حَلْبة سباق : من سبق يا عمّ ؟ قال : " المقرّبون " ، وقيل لشيخ رأى ظلماً : أين ربك ؟ قال : " بالمرصاد " .

14- قيل : إن المسيح عليه السلام خرج من بيت عاص ، فقيل له ما تفعل عنده يا روح الله ؟! قال: " إنما يأتي الطبيبُ المرضى " . ومرّ بقوم شتموه ، فقال خيراً . فقال له حواريّوه : كلما زادوك شراً زدتَ خيراً؟! قال : " كل إناء بما فيه ينضح " .

15- قيل لأحد الحكماء : مَنْ شرّ الناس؟ قال : من لا يُبالي أن يراه الناسُ مسيئاً .

16- وقال علي رضي الله عنه : عَجِبتُ لمن لمن يهلك والنجاة معه . قالوا : وماهي يا أبا الحسن ؟ قال : الاستغفار .

17- كان فتىً يجالس سفيان الثوريّ  ولا يتكلم  . وكان سفيان يحب أن يسمع منه ليرى أين هو من رجاحة العقل . فمرّ به يوماً فقال : يا فتى ؛ إنّ مَن كان قبلنا مرّوا على خيل ، وبقينا على حمير دَبِرة ؛ فقال الفتى : يا أبا عبد الله ؛ إنْ كنا على الطريق فما أسرع لحوقَنا بالقوم .

ليلة القدر

- القَدَر والقَدْر - بالفتح والسكون - : القضاء والحُكم ، وهو ما يقدّره الله تعالى من القضاء ، ويحكم به من الأمور . قال الله عز وجلّ " إنا أنزلناه في ليلة القدْر" أي الحُكم ، وقد قال الله تعالى في سورة الدخان " إنا أنزلناه في ليلة مباركة

- وليلة القدر ليلة عظيمة فيها نزل القرآن الكريم " إنا أنزلناه في ليلة القدر " فهي فخر الليالي حين اختارها المولى الجليل زمناً لنزول خير كتبه – القرآن الكريم – فما أكرمها من ليلة .

- وهذه الليلة المباركة خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، فهي على هذا تعدل في الفضل ما ينوف على ثلاثة وثمانين عاماً ، ولأن أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم قصيرة بالمقارنة بأعمار الأمم قبلها ، فإن ليلة القدر نبع ثرّ لمن وافاها بعبادة وصلاة وقيام ، وكأن عمره زاد زمناً وعملاً ، فسد النقص ، وفاض خيراً وبركة . هذا في سنة واحدة ، فما بالك إن وافاها المسلم كل عام يجد فيها ويجتهد؟! إنه لعُمُر طويل مبارك خيّر للمسلم إن شاء الله تعالى .

 - قال تعالى في فضلها " فيها يُفرق كل أمر حكيم ، أمراً من عندنا .. " ففيها تُقسّم الأرزاق ، وتُقدّر الأعمار . فلنسأل الله تعالى أن يرزقنا الرزق الحلال الطيب المبارك ، وأن يكتب لنا نعيم الدنيا ونعيم الآخرة .

- وكم من أنسان واكبها هذه السنة وهو ممن قدّر عليه الموت بعدها ، فتجيء السنة القادمة وهو بين أطباق الثرى . فلندْع دعاء سيدنا يوسف عليه السلام " اللهم فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلماً ، وألحقني بالصالحين "

- وليلة القدر ترفع بإذن الله تعالى - قدر صاحبها المتوجه إلى الله يسأله فضله ، ويدعوه أن يحييه مسلماً ، وأن يفيض عليه من خيراته سبحانه . وكيف لا يرتفع قدر من أعتقه الله في هذه الليلة من النار ، وجعله من أهل الجنان التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ؟ نرجو أن نكون أهلاً لذلك ، فإن لم نكن فإننا نتضرع إلى الله أن يعاملنا بما هو أهل له ، فهو أهل التقوى واهل المغفرة .

يـا  لـيلة القدر الجميل iiبهاؤها
خير من الألف الشهور،تنزّل ال
فـيها  البشائروالسلام يخصناال
فـي عشره الأولى مكارم رحمة
ثـم الـمتاب ، به انعتاق رقابنا
بـرضـا الإله إلى الجنان iiمآلنا
يـا رب فاقبل من عبادك iiحبهم
واجعل  قبورهم إذا أتوك iiمنازلاً
في الحشر أبعِدْ عنهمُ لفح iiاللظى
وعلى الصراط أجزهمُ في iiلمحة
أنـت  المؤمل ياعظيم فهب iiلنا










فـيك الرضا الموسوم iiبالخيرات
الـروح  الملاكُ بأعذب iiالكلمات
الـملك الكريم إلى الصباح iiالآتي
يـتـلـوه  غفران مع iiالحسنات
مـن  لـفح نار لاهب iiالجمَرات
يـا  سعدَ من يسعى إلى iiالجنات
وارفـق بـهم بالعفو iiوالرحَمات
فـتـحت نوافذها إلى الروضات
فـي  ظل عرشك بارد iiالنسمات
البرق المضيء وواسع الخطوات
دار  الـنـعـيم وموئل iiالسادات

- اللهم هذه ليلتك المباركة أهلّتْ علينا ، فاقبلنا فيها ، واعتق رقابنا من النار ، واجعلنا في عبادك الصالحين ..... يا رب العالمين .