يا معشر المنبطحين: القدس ليست لهم
جاء الصائل إلى المنزل فأخرج منه صاحبه عنوة، وجعل يُمنِّيه بأنه سوف يمنحه غرفة بالبيت، فصار المالك الأصلي يُناضل من أجل الحصول على هذا الوعد، يحاوره تارة، ويلجأ إلى الآخرين للتوسط تارة أخرى، حتى صار المالك يُناضل من أجل الغرفة، وجعلها غايته، ونسي أنه كان يملك البيت (كُلّه) يوما ما.
وهو ما حدث في النظرة العربية لدى الكثيرين من أبناء الأمة تجاه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حيث صار النضال حول أمر السيادة المشتركة، بحيث يكون للفلسطينيين حقّ مشترك مع اليهود، وليس حول إنهاء الاحتلال وإعادة الأرض لأصحابها.
* لقد أسهم في ترويج هذه الفكرة، أن بعض أبناء الأمة المُتنكّبين، يزعمون أن لليهود حقا في فلسطين، اعتمادا على القول المزعوم بأقدمية السكنى، وعلى نصوص توراتية تُظهر اليهود أنهم ورثة العهد الإبراهيمي.
* وممن تبنى هذه النظرة د. حسن صبري الخولي في كتاب "سياسة الاستعمار والصّهْيَونيَّة تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين" ، حيث توافق مع هذه النظرة في السيادة المشتركة وأن للطرفين حقا مشتركا في فلسطين، فقال بعد سرد نصوص توراتية يستدلّ بها اليهود لإثبات حقهم المزعوم: "ونحن نسلم بما جاء في التوراة، على أساس أنه كتاب مقدَّس من عند الله، ولكننا لا نستطيع أن نُجاري اليهود في تفسيرهم التعسُّفي؛ لأن العهد الإلهي ليس موجَّها إلى اليهود وحدَهم، وإنما هو وعدٌ لإبراهيم وذريته: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، يتساوى في ذلك الحق إسحاق جدُّ اليهود، وإسماعيل جدُّ العرب، وعلى ذلك فالحقُّ في فلسطين ليس مقصورا على اليهود، وإنما هو لذرية إبراهيم على الإطلاق، ومن هذه الذريَّة العرب واليهود".
* ومن العار أن نناقش تلك المسألة من أجل أن بعض بني جلدتنا يقتنعون بهذه المزاعم، لكن لا مناص من اللجوء إلى ذلك بعد ما وجدتّ بعض قُرّائي يتعاطون مع ضلالة: (أن لا حلّ لفضّ النزاع العربي الصهيوني إلا بدفن الرؤوس في الرمال وتفضيل الانبطاح على النضال) – تكريسا لعبارة موبوءة تُشير إلى: (أحقية اليهود بأرض فلسطين).
وابتداء نقول: أين كانت دعوى اليهود في أنّ لهم حقا في فلسطين في العهود السابقة؟
لماذا لم تبرز هذه الدعوى إلا حديثا؟
لماذا لم يدَّعِ اليهود بأن فلسطين هي أرض الميعاد إلا في التاريخ الحديث؟
لماذا حاول تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية إقامة وطن قومي لليهود أولا في موزمبيق ثم الكنغو البلجيكية؟
لماذا رُشّحت الأرجنتين مرة، وقبرص مرة أخرى، وسيناء ثم أوغندا، لتكون وطنا قوميا لليهود طالما أن لهم حقا طبيعيا في فلسطين؟
* لقد كان اليهود لا يرغبون في الهجرة من البلاد التي استقرّوا فيها وتنفذوا في أروقتها السياسية ومؤسساتها الاقتصادية، بل إن حاخامات اليهود أصدروا بيانا في مؤتمر لهم عُقد بمدينة "فيلادلفيا" بأمريكا في أواخر القرن الـ 19، قالوا فيه: إن الرسالة الروحيَّة التي يحملها اليهود تتنافى مع إقامة وحدة سياسيَّة يهوديَّة منفصلة.
وذكر الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "القدس قضية كل مسلم" أن هرتزل إزاء هذا الإعراض من قِبل الحاخامات، قد اتجه لتحويل القضية إلى دينية لإلهاب عواطف الجماهير اليهود، ورأى أن فلسطين هي المكان الوحيد الذي يناسب دعوته، لأن لهم مقدسات دينية بها، فاحتضن المؤتمر اليهودي العالمي فكرة الوطن اليهودي في فلسطين عام 1905 بعد وفاة هرتزل بسنة.
* ما سبق، يؤكد أن هذه المزاعم الصهيونية من دعوى حق الاستيطان في فلسطين هي اتجاه حديث الولادة، أراد الصهاينة أن يحولوا من خلاله اليهودية إلى قومية.
والثابت تاريخيا أن أول من سكن فلسطين هم "اليبوسيون" وهم من العرب الأوائل، وقد ورد ذكر ذلك في ألواح (تل العمارنة) بالمتحف المصري، وسكنها كذلك الكنعانيون العرب، وذلك كله قبل أن يدخلها إبراهيم عليه السلام بقرون.
* وأما استناد البعض على بعض النصوص التوراتية التي جاء فيها وعد الله لإبراهيم بأن هذه الأرض له ولذريته من بعده، فنحن نسأل المُتنكبين المُنبطحين: إذا كان إسماعيل (أبو العرب) وإسحاق (والد إسرائيل) هما ابني إبراهيم، فما الذي يُعين (أحقية) أحدهما بهذه الأرض؟
هل (الأحقية) تلك للذين ساروا على ملّته الحنفية السمحة وحملوا راية الإسلام التي رفعها هو من قبل.. أم (الأحقية) لأولئك الذين حرّفوا كتب السماء، وقتلوا رسل الله وزعموا بحقهم ارتكاب الموبقات والفواحش؟
* أيها المنتسبون للإسلام ويُفترض أن تسيروا وفق الفكرة الإسلامية:
(إن بني إبراهيم حقا هم أهل الإسلام وليس الذين نسبوا لله الولد والقبائح)..
والقرآن يقول: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاما قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، فهؤلاء لا يُصيبهم العهد بتملك هذه الأرض، ولا يستحقون هذه الإرث الإبراهيمي لأنهم لم يلتزموا بذلك العهد.
* ومن جهة أخرى، كانت الحكمة من الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس، وعدم العروج به مباشرة من مكة إلى السماء، هي الدلالة على تسلّم الأمة المحمدية لمفاتيح الأقصى والأرض المقدسة، خاصة وأنه قد صلى بالأنبياء جميعا، فإن (الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
* فانتقلت الزعامة الدينية لتلك الأرض إلى المسلمين، بعد أن تخلى اليهود عن القيام بحقها بظلمهم ومعاداتهم أنبياء الله ورسله.
وتلك ردود مختصرة على شُبهة يُروّجها بعض بني قومي من المُنبطحين عن أحقية اليهود بأرض فلسطين، من شأنها أن تفتح لديهم مجال البحث والتنقيب، حتى لا تكون هذه النظرة وأصحابها (وبالا) وعبئا تتحمّله القضية الفلسطينية التي تحتاج إلى كل داعم مخلص لدينه وأُمّته..