سيكولوجيا الجالية المقيمة بالخارج
إن تخصيص يوم وطني للجالية المقيمة بالخارج يعتبر التفاتة مهمة من شأنها أن تجعل هذه الجالية تشعر بدف الوطن واحتضانه لها ، ومن شأنها أيضا أن تجعل عموم المواطنين يلتفتون إلى هذه الجالية ، ويحسون بالأواصر التي تربطهم بها .ومن شان هذا اليوم كذاك أن يجعل الطرفين معا عموم المواطنين والجالية المقيمة في الخارج يصحح كل منهما نظرته للآخر نظرا لما يعتري أحيانا العلاقة بينهما من توتر قد يكون سببه سوء التفاهم الحاصل عن تجاذب ثقافي بين ثقافة الوطن الأم وثقافات دول الإقامة بالخارج . ومعلوم أن الإنسان محكوم بالتأثير الثقافي للبيئة التي تحتضنه ويعيش فيها . ويمكن تصنيف الجالية المغربية المقيمة بالخارج حسب ثقافات دول الإقامة . ولا بد من معرفة خصائص هذه الثقافات لفهم سيكولوجيا الجالية المقيمة بالخارج .
ومع وجود قواسم مشتركة بين أفراد الجالية المقيمة بالخارج باعتبار الاغتراب والارتباط العاطفي بالوطن إلا أن التأثر بثقافات البلدان المستقبلة لهم يميز بينهم ويؤثر في سيكولوجيتهم . ومعلوم أن الجالية عبارة عن أجيال مختلفة قد يسميها البعض أو يصنفونها تصنيفا متتاليا حسب الأعمار ، وحسب مسقط الرأس ، وحسب طريقة الهجرة ، وحسب الأنشطة الاقتصادية المتداولة ، وحسب اعتبارات أخرى ...ومهما تكن التصنيفات المعتمدة ومهما تكن الاعتبارات المأخوذة بعين الاعتبار فيها فإن للجالية المقيمة في الخارج سيكولوجيا متميزة عن سيكولوجيا عموم المواطنين . وما يميز هذه الجالية هو الارتباط العاطفي العميق بأرض الوطن ، ذلك أن غالبيتها تزور الوطن باستمرار، وهو ما يؤكد ارتباطها بوطنها الأم باستثناء أقلية قطعت صلتها به بصفة نهائية . والارتباط العاطفي بالوطن تتولد عنه سيكولوجيا خاصة يطبعها الحنين والشوق، وهو ما لا يحس به عموم المواطنين الذين يعيشون في حضن الوطن باستمرار والذين لم يذوقوا مرارة الاغتراب والبعد عن الوطن .ويأخذ ارتباط الجالية العاطفي بالوطن الأم شكلين : ارتباط بالأرض وبالمواطنين على حد سواء ، وارتباط بالأرض دون الارتباط بالمواطنين ، وبيان ذلك أن بعض أفراد الجالية يعبرون عن هذا الارتباط العاطفي من خلال عبارات الإشادة بالوطن والمواطنين على حد سواء ، في حين يعبر البعض الآخر عن تعلقهم بالوطن مع التحفظ على المواطنين ، وهذا الصنف الأخير يصدر في موقفه هذا عما عاشه من تجارب مر بها أفقدته الثقة بالمواطنين وإن لم تفقده الثقة بالوطن إذ يعتبر الوطن في نظرهم أجمل وطن في الدنيا لولا سوء المعاملة التي يلقونها من الموطنين ومن الدولة على حد سواء . فكم من مغترب كافح وكابد وعانى من أجل اقتناء بيت يأويه في وطنه الأم ، وبعد تجهيزه وتأثيثه يتعرض للسطو والسرقة والنهب من طرف اللصوص والفئات المتسكعة التي تسرق من أجل الإنفاق على العربدة والسكر والتخدير والفساد ، و لهذا يشعر المغتربون ضحايا النهب والسلب بخيانة المواطنين لهم وتقصير الدولة في حمايتهم مع أنهم يسدون خيرا لوطنهم الأم بما يجلبونه إليه من عملة صعبة تنفس من كربه الاقتصادية . وتتميز سيكولوجيا هذه الفئة ضحية النهب والسلب بالتذمر وخيبة الأمل وفقدان الثقة في عموم المواطنين بل إبغاضهم وفي الدولة أيضا . وكم من مغترب وضع ثقته العمياء في قرابته، فجعل منزله الذي أنفق على تشييده الغالي والنفيس وعانى من أجل ذلك الأمرين رهن إشارتهم، فلما عاد ليستمتع بعطلته السنوية في منزله بأرض الوطن، تنكرت له القرابة وطالبته بمبالغ طائلة لتخلي له منزله، وقد كانت تسكنه مجانا أو ربما تتقاضى أجرا لحراسته في غياب صاحبه خارج أرض الوطن، الشيء الذي يجعل هذا المغترب ضحية الثقة في القرابة يفقد صوابه ويكفر بروابط القرابة والمواطنة وربما تخلص من منزله بالبيع بغبن ليرحل إلى الأبد حيث يقيم بالخارج ، ويترتب عن ذلك سيكولوجيا خاصة يميزها الشعور بمرارة الغدر والخيانة ، وما يتولد عنهما من بغض وكراهية للوطن والمواطنين . ومما يلاحظ بالنسبة لسيكولوجيا فئات من الجالية المقيمة بالخارج نوع من التمزق بين انتماءين الانتماء للوطن والانتماء للبلد الأجنبي المستقبل خصوصا عند الذين يحملون الجنسية المزدوجة، ولا يكتفون بمجرد الحصول على شواهد أو بطاقات الإقامة. وهذه الازدواجية في الانتماء تجعل البعض يعاني مما يمكن تسميته بالانفصام ، وهو شعور يؤثر في سيكولوجيتهم ويأخذ أشكالا مختلفة، فهو تارة شعور بالاستعلاء على المواطنين والنظر إليهم نظرة احتقار ودونية ،وربما يكون ذلك من المخلفات النفسية التي يشعر بها المغتربون من خلال معاملة مواطني الدول الأجنبية التي تستقبلهم وهي معاملة استعلاء ، فتنتقل إليهم عدوى تلك المعاملة المنحرفة ،فيمارسونها على مواطنيهم في وطنهم الأم بوعي أو بدون وعي . وقد تبدأ معاملة الاستعلاء بالأقارب ثم تنتقل إلى عموم المواطنين بعد ذلك . ومن الأمور الملاحظة لدى بعض أفراد الجالية المقيمة في الخارج الشك في أبناء البلد والريبة من كل تعامل معهم بحيث يشكون في كل العروض المقدمة لهم اقتصاديا ويعبرون عن تخوفهم من الوقوع ضحايا الابتزاز، وهو ما يولد لديهم سيكولوجيا خاصة تتميز بالشك والريب وفقدان الثقة. ومما يلاحظ أيضا لدى بعض أفراد هذه الجالية شعورهم بأن قرابتهم وعموم المواطنين يطمعون في ما يجلبونه من أموال ومقتنيات، وهو ما يولد لديهم سيكولوجيا خاصة أيضا تحملهم على التخفي وإخفاء تواريخ عودتهم إلى أرض الوطن ، والدخول إلى منازلهم بأرض الوطن في ساعات متأخرة من الليل لتلافي عيون الطامعين فيهم والتي تترقب عودتهم وتترقب ما يحملونه معهم ، و قد يخفون ما يحضرون حتى عن أقرب المقربين منهم . ومما يلاحظ أيضا لدي بعض أفراد الجالية طغيان سكولوجيا إظهار التباهي على القرابة وعموم المواطنين من خلال استعراض ما يركبونه من مراكب وسيارات ، وما تجره هذه المراكب والسيارات مما يركب برا وبحرا ، ومن خلال إشهار آخر الموضات المنتشرة في بلاد المهجر لباسا وهنداما وطريقة تصفيف الشعر ... إلى غير ذلك من التقاليع المجلوبة من الخارج عن وعي ودون وعي واستلابا .ومن الملاحظ لدى بعض أفراد الجالية المقيمة بالخارج أيضا سيكولوجيا تخطئة القرابة وعموم المواطنين في معتقداتهم وأفكارهم، وهي سيكولوجيا التعالي على الغير وازدرائه واحتقاره وتسفيه قناعاته حيث ينقل بعضهم معتقدات دينية سائدة في بلاد المهجر، وهي بدورها دخيلة على تلك البلاد كما هو الشأن بالنسبة لبعض المعتقدات الدينية التي يتلقاها المغتربون في مساجد أو مراكز للعبادة وقد اقتنعوا بأنها عين الصواب ، وعادوا إلى أرض الوطن للتبشير بها والتشكيك في المعتقدات الدينية الموجودة فيه ، وهذه السيكولوجيا تتسم بالردة والتنكر لمعتقدات الوطن والمواطنين، وهي لا تخلو من تعال وغرور واحتقار للغير وتزكية للنفس . وقد لا يبالي بعض أفراد الجالية بمستوياتهم العلمية والثقافية المتواضعة ، ولا يلقون لها بالا وهم يقومون بحملات إشهارية لما جلبوه معهم من الخارج من سقط المعتقدات والأفكار الدخيلة على الوطن ، ويمنعهم غرورهم من الاعتراف بالمستويات العلمية والثقافية لمن يناقشهم في دخيل معتقداتهم ، وتتسم ثقافتهم بالتعصب الأعمى لما يعتقدون أنه الصواب والحق الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه .ومما يلاحظ لدى بعض أفراد الجالية أيضا سيكولوجيا الانعزال والارتياب من كل أنواع العلاقات سواء الرحمية أو علاقة الجوار أو غيرها فيرفضون التواصل مع الغير ، وربما يكون ذلك بفعل العلاقات السائدة في بلاد المهجر خصوصا في المدن العملاقة حيث يضرب الاغتراب بأطنابه ، فينقلها المغتربون كما تنقل عدوى الأمراض إلى أوطانهم الأم ، وقد لا يتردد البعض في الإشادة بالانعزال واعتباره من مظاهر التحضر والمدنية . ومما يلاحظ أيضا لدى بعض أفراد الجالية عقدة الانبهار بلغات بلاد المهجر والتي تتولد عنها سيكولوجيا الاستلاب اللغوي والثقافي فيحجمون عن التحدث بلغة وطنهم الأم ، ويمنعون أبناءهم من ذلك ، ويأنفون من لغتهم الأم بل يعتبرون الحديث بها معرة ومنقصة ، ومنهم من يحرص على الكشف عن استلابه اللغوي في الأماكن العمومية ، ويرفع بذلك عقيرته وهو يخاطب أبناءه وأفراد عائلته ، ويعتبر ذلك نوعا من الامتياز يرفعه فوق أبناء وطنه . ولا يخلو كثير من أفراد الجالية من الاتزان في سيكولوجيتهم بحيث لم تؤثر إقامتهم في البلاد الأجنبية سلبيا فيهم بل ينقلون إلى وطنهم الأم إيجابيات بلدان إقامتهم ويتجنبون سلبياتها ، وهم أكثر اعتزازا وتشبثا بقيم وطنهم الأم الدينية والخلقية خلاف غيرهم من المغتربين الذين تأزمت سيكولوجياتهم السلبية وأفرزت نماذج بشرية غاية في التعقيد . وأخيرا نأمل أن يفتح المختصون ملف المغتربين من أجل صيانتهم من كل ما يؤثر سلبا على سيكولوجيتهم ، ويكون اليوم الوطني للجالية المقيمة في الخارج فرصة لتقوية أواصرهم بوطنهم وبمواطنيهم ، وفرصة أيضا لتغيير بعض المواطنين من نظرتهم السلبية لهذه الجالية التي هي رحم وقرابة ولحمة وطنية وفرصة لحسن معاملتها ومعاشرتهم والإحسان إليها والصبر على سلوكات بعضهم والتماس العذر لهم بسبب ظروف الاغتراب عن الوطن والبعد عن أحضانه مع الاعتراف لهم بما يسدونه لوطنهم من خدمات جليلة مادية ومعنوية.
وسوم: العدد 628