الاتفاق الأمريكي ـ التركي وانتصار استراتيجية أوباما…تأطير القوى الإقليمية وحصار الحرب السورية
القدس العربي
لم تدم الفرحة التي قابل بها الكثير من السوريين الإعلانعن اتفاق تركي ـ أمريكي، إذ سرعان ما انكشفتمحدوديته، وخلوه من أي التزامات أمريكية، روّج لها الأتراك،تخص المأساة السورية.
إلا أن المعاني التي يحملها الاتفاق ضمن المشهد الإقليميتتجاوز الشمال السوري، وربما تحدد مصير الإقليم فيالسنوات المقبلة، فما تم التوافق عليه يؤكد من جهة أن مايعني واشنطن في سوريا هو فقط محاربة «داعش»،ويشير من جهة أخرى إلى أن الاستراتيجية الأمريكية فيالمنطقة عموماً، وفي سوريا على وجه الخصوص، تشارفعلى الاكتمال لجهة تحييد الأزمة السورية، وإعادة ترتيبالمنطقة لمرحلة ما بعد «الربيع العربي».
لكلٍّ حصته من الحرب ولأمريكا ضبط النيران
عندما وقع الانفجار المباغت لثورات «الربيع العربي»، لمتكن لدى الإدارة الأمريكية أي استراتيجيات واضحة للتعاملمع هذا المنعطف التاريخي المفاجئ، لذلك اقتصرت فيمتابعتها على بعض الدعوات الشعاراتية العامة للديمقراطيةوحرية التعبير، ولم تكن لدى باراك أوباما، الذي فاز فيالانتخابات بخطابات معادية للحرب، ومهتمة بتضميد الجراحالتي خلفتها الغوغائية العسكرية لسلفه جورج بوش الابن،ومعنية بالتوجه إلى الداخل لدعم وتنشيط الاقتصادالأمريكي، لم تكن لدى هذا الرئيس رغبة باعتماد أسلوبسلفه العسكري، وكانت ليبيا الاستثناء الوحيد الذي وقعبتوافق، وربما إلحاح، أوروبي ـ عربي، لكن ما أن تم إسقاطالقذافي، حتى سارعت واشنطن إلى الانسحاب من المشهدالعسكري، في إطار اختيار استراتيجي بالابتعاد عنالانفجارات، ومن ثم الفوضى، التي خلقها الصراع المريربين زخم ثوري خارج الأطر الحزبية والتنظيرية، وبيناستبداد متجذر عسكرياً وأمنياً واقتصادياً. التراجع الكبيرللحضور الأمريكي، وسعي إدارة أوباما الحثيث لتجنب أيانخراط عسكري جديد، خلّف فراغاً قلقاً في الإقليم. قلقاستطاعت الإدارة الأمريكية تنظيمه، بدون أن تعالجه، منخلال سلسلة من التفاهمات المنفصلة مع القوى الإقليمية،وهو ما ضمن لواشنطن أن تحول دون انفجار صراعاتمباشرة بين هذه القوى، جاعلة همها ضبط شرر الحرائقبدون إطفائها، فتركت للقوى الإقليمية أن تحمي نفسها مندومينو الفوضى من خلال حروب تشغلها بدون أن تكسراستقرارها.
في هذا السياق يمكن إدراج الاتفاق الأمريكي ـ التركي،وقبله الاتفاق الأمريكي ـ الإيراني، وكذلك التفاهماتالأمريكية السعودية، إضافة إلى التفاهم مع مصر، الذيبدأت بموجبه واشنطن استعادة علاقاتها السابقة معالقاهرة، بدون أن نغفل بالطبع التنسيق والتفاهم المستمربين واشنطن وتل أبيب. ويبدو أن أوباما استطاع أن يفرزالمشهد المعقد والمتشابك للصراعات في الإقليم، موزعاً حصةمن الحرب والاستنزاف على كل طرف، بما يضمن إشغالهفي المدى القريب والمتوسط.
وفق هذه الرؤية، يبدو الاتفاق الأمريكي ـ التركي بمثابةختام لسلسلة التفاهمات تلك. اتفاق يرضى بموجبه أردوغان،الذي يسعى إلى الانتصار الانتخابي، وجمع أكبر قدر منالسلطات في يده، بأن يصطف خلف الولايات المتحدة فيحربها الهادئة ضد «داعش»، فيما تُمنح أنقرة حصتها منالحرب ضد مسلحي وناشطي حزب العمال الكردستاني فيتركيا وسوريا والعراق معاً. وعلى المنوال ذاته نجد إيرانالباحثة عن استعادة قوامها الاقتصادي بعد الاتفاق النووي،مشغولة بالعراق حصتها الأثمن والأخطر، الذي يعيش حرباًمستمرة، بينما تكمل دعمها الاقتصادي والعسكريوالسياسي لنظام الأسد، للحيلولة دون انقلاب سوريا عليها،بعد أن أدركت استحالة استعادتها إلى الموقع القديم. فيماتغرق السعودية، وبعض دول الخليج من ورائها، في مستنقعالحرب اليمنية. الحرب التي ثبت منذ يومها الأول أنها صعبةومعقدة، لكنها أظهرت أيضاً وجود اعتراف أمريكي، بلإيراني أيضاً، بأن اليمن منطقة نفوذ سعودية، ولعل الأصحأن نقول إنها حصة السعودية من حروب المنطقة. وهي حصةمكلفة ومنهِكة يصعب معها توقع تحرك سعودي «حازم» فيالملف السوري. أما مصر المنهكة اقتصادياً وسياسياًواجتماعياً، فهي مشغولة بحربين، واحدة في شرقها(سيناء)، وأخرى في غربها (ليبيا)، وتبدو عاجزة عن لعبأي دور محوري في الإقليم.
إسرائيل أيضاً لا تبدو خارج المعادلة الأمريكية الجديدة،صحيح أن الضمانات الأمريكية لأمن وسلامة إسرائيلثابتة، إلا أن التغييرات العنيفة التي تحدث حولها، والمخاطرالتي تعيشها حدودها، أمام فوضى السلاح التي تحيط بها،تتركها في حالة مستمرة من التأهب، وتحول دون قدرتهاعلى التحرك بأي اتجاه سوى المراوحة في المكان، واجترارالخطابات القديمة. فيما يمثل الاتفاق النووي مع إيران المزيدمن التقييد لحضورها في المنطقة، خاصة أن خطر أذرعإيران لم ينته بعد، رغم غرق حزب الله في دماء السوريين،في الوقت الذي سُحبت منها الورقة، التي طالما هددت بها،بضرب الصناعة النووية الإيرانية، فالاتفاق العالمي، بزخمهورعايته من قبل الدول الست الكبرى، بل تسابق هذه الدولعلى نيل نصيبها من الكعكة، أغلق هذا الاحتمال، في المدىالمنظور على الأقل.
سوريا حلبة حرب مسوّرة بالمصدّات
منذ ما قبل الاتفاق النووي مع إيران، ظهرت تصريحاتأمريكية واضحة تتحدث عن الخشية من الانهيار المفاجئلنظام الأسد، وعدم الرغبة بسيناريو كهذا، أو الاستعداد له،فهو يهدد بإدخال المنطقة في المزيد من الفوضى المدمرة، وقديفسح المجال لامتداد سيطرة «داعش» أو «جبهة النصرة»على مقاليد الحكم في سوريا. لم يُعر الأمريكيون أهميةطبعاً لدورهم في وصول سوريا إلى هذا المأزق، إذ جلّ مايعني واشنطن أن سياستها الثابتة في حصر الأزمةالسورية وتحييدها عن بقية الملفات، توشك أن تكمل فصولها.فبعد أن ركزت جهودها في منع أي جهة مسلحة داخلسورية من امتلاك التفوق النوعي، ما يعني منع إمكانيةالحسم لصالح أي طرف، تكاد تنجح اليوم في حصر الأزمةفي حدود داخل الحدود السورية، من خلال بناء أشرطةحدودية عسكرية، وربما مدنية لاستيعاب أزمة اللاجئين التيباتت تقلق دول الجوار وأوروبا، ما يقي هذه الدول منالانفجار السوري، ويمنع «داعش» من التمدد خارج عمقالجغرافيا السورية ـ العراقية.
تركت الولايات المتحدة إذن لتركيا أن تجهز مناطق «آمنة»في الشمال السوري، تطرد منها «داعش»، وتحد منطموحات حزب العمال الكردستان، بالاستناد إلى الفصائلالسورية المسلحة الموالية لتركيا. وتركت للأردن وإسرائيل أنينظما الجنوب السوري بهدوء، وليس من المستبعد أن يتمالتوافق على منطقة «آمنة» تتحكم بها الأردن، بتنسيقمباشر مع إسرائيل والولايات المتحدة، منطقة هي بالأحرىشريط حدودي لدرء الخطر، وكما في الجبهات الأخرىسيكون العبء الأثقل عسكرياً على المعارضة السوريةالمرتبطة والمرهونة بالدعم الأردني. فيما تُرك لحزب الله أنيمهد بدوره شريطه الحدودي مع سوريا، لكنه مازال عاجزاًعن احتلال هذا الشريط داخل الأراضي السورية، ومازالتخساراته كبيرة ومباشرة، نظراً لانشغال بقايا جيش النظامبمناطق أشد حساسية بالنسبة إليه في دمشق والساحل،وليس من المتوقع أن يستتب للحزب الأمر في «الشريطالحدودي»، لكن انشغاله المستمر في هذه الحرب المفتوحة،يجعل منه طرفاً مفيداً في المعادلة الأمريكية، ويسبب لهالمزيد من الضعف والتآكل، وهو ما يرضي إسرائيل بدونشك.
بهذا الشكل يمكن القول إن إدارة باراك أوباما تمكنت منتوظيف جميع القوى الإقليمية في حربها ضد تنظيم «الدولةالإسلامية» وأشباهه، بأقل التكاليف، وبدون أن تترك لأيجهة إمكانية استثمار هذه الحرب لصالح صعودها النوعيعلى حساب القوى الأخرى. ولعل النظر إلى خريطة المنطقةكفيل بشرح المشهد، حيث سُحب من العراق وسوريا أيصفات سيادية، أو قدرات فاعلة، وتحولا إلى ساحة صراعمع تنظيم «الدولة الإسلامية» بأدوات إيرانية في الشرقوالغرب، وأدوات تركية في الشمال، وأدوات أردنية خليجيةفي الجنوب، بينما تحولت جميع الفصائل المسلحة داخلهذه الجغرافيا إلى توابع، بما في ذلك البيشمركة المدعومةغربياً، ووحدات حماية الشعب الكردية، التي تبحث اليوم عنظهر تستند إليه بعد تخلي واشنطن عنها.
هذه المعمعة السورية تجد فيها الولايات المتحدة فرصةلتطبيق «حل سياسي» يعتمد مبدأ المحاصصة بين النظاموالمعارضات السورية. فالدمار الرهيب الذي سحق سوريا،وتوازنات القوى المسلحة داخلها التي تقارب الدرجة صفر،جعل عودة هذا البلد إلى استقراره، تحت نفوذ قوة إقليميةواحدة، أمراً مستحيلاً في المدى القريب والمتوسط. وبالتاليلم يعد هناك خطر، بالنسبة إلى أمريكا وإسرائيل أولاً،وبالنسبة إلى بقية القوى الإقليمية ثانياً، بأن تصحو دمشقعلى نظام حكم جديد قوي ومتماسك وحليف لأحد الأطرافالفاعلة، بقول آخر: لم يعد هناك خطر من دولة سورية جديدةتقلب التوازنات بين الخصوم الإقليميين، وهو ما يرضي بلاشك هؤلاء الخصوم، بعد اقتناعهم أن أياً منهم لن يستطيعالانتصار بمفرده.
المحاصصة التي قد تتوافق عليها القوى الإقليمية بضغطومواكبة من قبل القوى الدولية، التي قد تبلغ نمطاً من أنماطالتقسيم، لن تنهي بأي حال الحرب السورية، ناهيك عنافتقادها لأبسط مفردات العدالة، بيد أن حلاً يضمن رحيلالأسد على ما يحمله من رمزية، ويتوقف فيه القصفبالبراميل والصواريخ، سيحدّ من عمليات اللجوء، وربما يدفعبالكثير من اللاجئين في «المناطق الآمنة» ودول الجوار إلىالعودة، وهو ما قد يسمح لسوريا باستعادة شعبها،واستعادة هذا الشعب لدوره، بعد أن أجبره صراع البقاءعلى الرحيل أو الاحتماء بالحراب الشاردة.
٭ كاتب فلسطيني
وسوم: العدد 628