الاستخفاف بالأمانة مغامرة وخيمة العواقب
الأمانة لغة نقيض الخيانة ، وهي حفظ العهد وصيانته مهما كانت طبيعته . والأمانة العظمى أو الكبرى في دين الله عز وجل هو هذا الدين نفسه الذي هو عبارة عن علاقة بين الخالق سبحانه وتعالى والإنسان المخلوق . وهذه العلاقة هي علاقة عبودية. والعبودية تقتضي خضوع العبيد لمعبودهم . والخضوع عبارة عن طاعة . والطاعة عبارة عن ائتمار بالأوامر وانتهاء عن النواهي ، وهي الدين . والدين سماه الخالق سبحانه وتعالى الإسلام . والإسلام معناه اللغوي الاستسلام لله تعالى بالعبادة والطاعة . ولقد قلد الله عز وجل الإنسان أمانة الدين . والمستأمن على الأمانة وهي وديعة أو من يقلدها مسؤول ومحاسب عنها بالضرورة .والغاية من خلق الإنسان في هذه الحياة هي اختباره فيما استأمن عليه . ولما كان الدين عبارة عن منهاج حياة يغطي كل جوانبها ، وهو في نفس الوقت أكبر وأعظم أمانة ، فإن كل ما في هذه الحياة أمانات متفرعة عن الأمانة الكبرى أو العظمى . ولما أراد الله عز وجل أن ينبه الإنسان إلى جسامة الأمانة التي قلده إياها قارن بين موقفه منها وبين موقف مخلوقات أكبر وأعظم منه والتي أبت حمل هذه الأمانة إشفاقا منها في حين حملها الإنسان مع أنه مخلوق ضعيف، فقال سبحانه في محكم التنزيل وهو أصدق القائلين : (( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )). ومعلوم أن الظلم عبارة عن سوء تقدير العواقب ، وهو وضع الأمور في غير ما وضعت له ، ولا يحصل ذلك إلا بسبب الجهل ، لهذا وصف الإنسان بالظلم والجهل بصيغتي المبالغة . ومن المؤكد أن الإنسان الظلوم الجهول يستخف بالأمانة لا محالة . ولا يستطيع الإنسان أن يتملص من مسؤولية خيانة أمانة الدين التي قلده إياها خالقه سبحانه وتعالى مصداقا لقوله عز من قائل : (( وإذ أخذ رب من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا لغافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون )) فبموجب هذا النص القرآني يشهد كل إنسان على نفسه بأنه مخلوق لله تعالى ، وهذا يعني أنه قد قطع على نفسه عهدا بطاعته ، و قلد أمانة الدين قبل خوض غمار الحياة ،وهو ما يؤكده الحديث النبوي الشريف المفسر لهذا النص القرآني حين سئل عنه فقال : " إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ،قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال :خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة ، وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار" وهذا الحديث يؤكد أن الله عز وجل قد أشهد ذرية آدم على أنفسهم ،وأخذ منهم عهدا على ذلك . ويؤكد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " فالميلاد على الفطرة معناه الثبات على العهد مع الله عز وجل بعبادته وطاعته والإسلام أوالاستسلام له، وذلك هو تقلد أمانة الدين العظمى التي تتفرع عنها باقي الأمانات ، والدليل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الذكر لا الحصر وهو يوصي خيرا بالنساء : " اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله " . ولقد حذر الله عز وجل عباده المؤمنين من تضييع هذه الأمانة التي بضياعها تضيع باقي الأمانات المادية والمعنوية فقال : (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )) . ومما جاء في سبب نزول هذا النص القرآني أن صحابيا من الذين شهدوا بدرا وهو حاطب بن أبي بلتعة خاف على أهله وقد خلفهم بمكة وهاجر إلى المدينة فأراد استرضاء كفار قريش، فأرسل إليهم كتابا يحذرهم فيه بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، أطلعه الله عز وجل رسوله على ما فعل حاطب الذي قال فيه بعد أن هم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بضرب عنقه : " دعه فإنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم " . ولما كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن تحذير الله عز وجل من خيانته وخيانة رسوله وخيانة الأمانات يشمل كل المؤمنين في كل عصر ومصر . ومعلوم أن خيانة الله والرسول هي خيانة الأمانة العظمى وهي الإسلام والتي تتفرع عنها كل الأمانات.وبيان تحذير الله عز وجل من خيانته وخيانة رسوله وخيانة الأمانات حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله تبارك وتعالى الناس يوم القيامة ، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة ، فيأتون آدم صلوات الله عليه فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنة ، فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ؟ لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله ، قال : فيأتون إبراهيم ، فيقول إبراهيم :لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلا من وراء وراء ، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليما ، فيأتون موسى فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه ، فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك ، فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا ، فيمر أولكم كالبرق ، قلت : بأبي وأمي أي شيء كمر البرق ؟ قال : ألم تروا يمر ويرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح ، ثم كمر الطير ، وشد الرجال بهم أعمالهم ، ونبيكم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيىء الرجل لا يستطيع السير إلا زحفا ، وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به ، فمخدوش ناج ، ومكردس في النار . والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفا " والحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مر الرجل فوق الصراط مر البرق .
وبقي أن نقول للذين يستخفون بالأمانة العظمى وهي أمانة الله ورسوله وما يتفرع عنها من أمانات مادية ومعنوية ، وهي أمانات العباد، هل استحضرتم يوم عرضكم على الصراط وعلى جانبيها الأمانة والرحم يقاضيانكم أمام رب العزة جل جلاله ، فيكون جزاء خيانة الأمانات وقطع الأرحام الخدش بالكلاليب المعلقة على حافتي الصراط والكردسة في النار التي قعرها سبعين خريفا ؟
وسوم: العدد 632