الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة 38-43
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (38)
إرادة الفلسطينيين وعجز الاحتلال
يخطئ الاحتلال الإسرائيلي عندما يظن أن الشعب الفلسطيني قد أُعدم وسائل المقاومة والنضال، وأنه بات عاجزاً عن اجتراح وسائل جديدة وطرقاً مختلفة ليواجه صلفه، ويتحدى إجراءاته، ويتصدى لسياساته، وينتصر على التحديات التي يضعها، والصعاب التي يفرضها.
أو أنه يأس نتيجة الاحتياطات الأمنية الإسرائيلية، والإجراءات العقابية، ومحاولات التحصين والعزل التي يطبقها العدو في مناطقه، والتي جعلت من كيانه غيتواً أمنياً معزولاً، محصناً بالجدران والبوابات والأسلاك الشائكة، والبوابات الاليكترونية وكاميرات المراقبة وأجهزة التنصت والتسجيل والتصوير، وعمليات التفتيش والتدقيق التي يمارسها على المواطنين الفلسطينيين، والتي تبدو في أكثرها مذلة ومهينة، وقاسية وصعبة، أمام عشرات الحواجز الأمنية التي ينصبها بين المدن والبلدات الفلسطينية، وعلى مداخل وبوابات مدنه ومستوطناته، حيث يوقف أمامها الفلسطينيين في طوابير كبيرة، ينتظرون الساعات الطويلة، قبل أن يسمح لبعضهم بالدخول، ويمنع كثيراً غيرهم من المرور، ولو كانوا مرضى أو نساءً، أو رجالاً وأطفالاً، بحجة الاحتياطات الأمنية، والإجراءات الاحترازية.
يعتقد الكيان الصهيوني أنه بإجراءاته هذه سيمنع الفلسطينيين من القيام بأي عملياتٍ مقاومة ضده، لاستعادة الحقوق، أو رداً على الانتهاكات والخروقات، أو انتقاماً من أعمال القتل والمصادرة، وصداً لسياسات الإغلاق والمصادرة، والاجتياح والاعتداء، وأنه بذلك سيكون حراً في تنفيذ سياساته، وسيمضي قدماً في قمع الفلسطينيين والاعتداء عليهم، وأنه سيكون واثقاً من أحداً لن يقوَ على صده أو منعه، وأنه اتخذ من الإجراءات الاحتياطية، والخطوات الاحترازية ما من شأنه إحباط أي محاولة فلسطينية للمقاومة أو الهجوم، وأن استعداداته باتت قادرة على إجهاض أي عمليةٍ قبل وقوعها، إذ أن أجهزته الأمنية حاضرة وساهرة، ويقظة ومنتبهة، وتعمل ليلاً ونهاراً، تستقصي وتجمع المعلومات، وتتجسس وتراقب وتتابع، وتتنبأ وتتوقع، مما سيجعل من الصعب على أي فلسطيني اختراق التحصينات، أو تجاوز العقبات.
فقد نجحت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالتعاون والتنسيق مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية في جمع السلاح من أيدي الفلسطينيين، وجردتهم من أي سلاحٍ غير شرعي استناداً إلى اتفاقية أوسلو، التي تجيز لأجهزة السلطة الرسمية فقط حمل واقتناء الأسلحة المسموحة والمبينة الأنواع، والمعروفة القدرات والمميزات، فلم يعد في أيدي الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية أسلحة نارية، تمكنهم من المقاومة أو القيام بأعمالٍ عسكرية تهدد الكيان وتضر أمنه، وتلحق به خسائر في الأرواح والممتلكات.
كما أغلقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مناطقها على السكان الفلسطينيين، ومنعت دخولهم إليها، وعقدت تنقلهم، وأصبح جميع حملة الهوية الخضراء، وهم سكان الضفة الغربية، ممنوعين من الدخول إلى مناطق الكيان الصهيوني، فالحواجز المنتشرة تمنعهم، والإجراءات الأمنية تحد من أعدادهم، والتجهيزات والمعدات الموجودة بحوزة الأجهزة الأمنية تستطيع أن تكشف نسبياً عن كثيرٍ من الأسلحة والممنوعات، والتصاريح المسموحة لبعضهم قليلة، ومن الصعب الحصول عليها، وقد يخضع بعضهم للمساومة والابتزاز، خاصة ذوو الحاجات وأصحاب الضرورة الملحة.
كما قامت المخابرات الإسرائيلية باعتقال المئات من المطلوبين والنشطاء والمشتبه بهم، من مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية، ممن تظن أن لهم ميولاً للمقاومة، وعندهم رغباتٌ واضحة في تنفيذ عملياتٍ عسكرية، وأنهم يخططون ويستعدون، ويتدربون ويتأهلون، ويتصلون ويتواصلون، وتصلهم مساعداتٌ وأموالٌ، ولديهم مراجع وعندهم مهمات، وساعدها في ذلك قيام أجهزة أمن السلطة باعتقال آخرين ومحاكمتهم بتهمٍ مختلفة، الأمر الذي أدى إلى نضوب في العناصر المقاومة، وانحسار في قدراتها الميدانية على الأرض، وتراجع في أدائها العام.
كما نفذ العدو الإسرائيلي بحق المقاومين وذويهم إجراءاتٍ عقابية وانتقامية قاسيةً جداً، فهدم بيوتهم، ورحل أسرهم، وحكم على المنفذين بأحكامٍ بالسجن قاسية، وغرّم أسر الأطفال وراشقي الحجارة غراماتٍ مالية عاليةً جداً، وتتبع المحرضين والحاضنين، والداعمين والممولين، وضيق عليهم، فأغلق مؤسساتهم، وصادر أموالهم، ومنعهم من مزاولة أعمالهم، وفرض على السلطة الفلسطينية أن تنوب عنه في ملاحقة ومراقبة المطلوبين والمشتبه بهم.
ظن الإسرائيليون أن إجراءاتهم قد نجحت، وأن سياستهم المعتمدة آتت ثمارها المرجوة، وأن المقاومة قد يأست فعلاً، وأن رجالها قد أحبطوا، نتيجة الإجراءات الأمنية القاسية المتبعة، أو بسبب الإخفاقات المتكررة، والفشل الذي منيت به مجموعاتهم العسكرية، ما جعل قادة أجهزة المخابرات الإسرائيلية يعتقدون أن الضفة الغربية أصبحت منطقة آمنة، خالية من السلاح، ولا وجود فيها لمجموعاتٍ مقاومة، ورفعوا تقاريرهم إلى قيادتهم السياسية ليطمئنوهم أن سكان الضفة الغربية باتوا تحت السيطرة، وأن عناصر الخطر وفتائل التفجير قد نزعت كلها.
الفلسطينيون الذين قاوموا بالحجر والمدية والسكين، وبالمعول والفأس وقضبان الحديد، ثم زنروا أجسادهم بالمتفجرات، وفجروا أنفسهم وسط الصهاينة، واستطاعوا أن يعملوا كمائن، وأن يزرعوا العبوات، وأن يلقوا القنابل، ثم نجحوا في الاشتباك مع الجنود الإسرائيليين، وأوقعوا في صفوفهم خسائر عديدة، وتمكنوا من أسر جنودٍ ومستوطنين، ونجحوا في إخفائهم والابتعاد بهم، وعجز الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية عن الإمساك بهم، أو تحريرهم من أيدي خاطفيهم.
اليوم يجترحون في انتفاضتهم الثالثة وسائل للمقاومة جديدة، وسبلاً للغضب والثورة مختلفة، أرعبت الإسرائيليين وأخافتهم، وأربكتهم وأقلقتهم، فانفضوا من الشوارع، وابتعدوا عن الأرصفة والممرات، وتوقفوا عن التجمع والتجمهر، وامتنعوا عن الجلوس في المقاهي والاستراحات العامة، المطلة على الشوارع والطرقات السريعة، ولم يعودوا يستخدمون " الأوتو ستوب"، فلا يركبون سيارةً عابرة، ولا يقبلون بمساعدةٍ تعرض عليهم، لتقلهم إلى أماكن عملهم، أو منها إلى بيوتهم، وأصبحت كل سيارةٍ أو حافلة تسير بسرعةٍ، مقبلةً أو مدبرة، وكل جرافةٍ أو دراجة، وأي آليةٍ متحركة أخرى، يقودها فلسطيني، عربي الوجه والسحنة، وكأنها تهم بدهسهم، وتنوي قتلهم وسحق أجسادهم.
أصبح كل فلسطيني في عيون الإسرائيليين مشروع مقاوم، واحتمال استشهادي، فقد يحمل سكيناً أو مدية، أو يخفي مسدساً أو قنبلة، أو يبدي استعداداً للانقضاض بنفسه، والعراك بجسده، والاشتباك بيديه، ثأراً وانتقاماً مما يرتكبه الإسرائيليون بحقهم.
الفلسطينيون لن يعدموا وسيلةً للمقاومة، ولن يشكوا عجزاً عن المواجهة، ولن يتوقفوا عن التفكير والإبداع، بل سيقاتلون بكل ما يملكون، وبما يقع تحت أيديهم ويتوفر لهم، ولن يدخروا عن المعركة شوكةً ولا إبرة، ولا سكيناً ولا مدية، ولا سيارةً ولا عربة، ولا دعاءً ولا كلمة، ولا حرفاً ولا طلقة، ولا صاروخاً ولا قنبلة، وستمضي انتفاضتهم، وستتواصل مسيرتهم، وسيتحقق نصرهم، ولم يكون إلا ما كتب الله لهم، نصراً عزيزاً أو شهادةً كريمة.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (39)
البسالة الشعبية الفلسطينية وغياب القيادة الميدانية
هل من المنطق السليم العاقل والواعي، والوطني المخلص المسؤول، أن تترك الانتفاضة دون قيادة تنظمها وتخطط لها، ودون مرجعيةٍ وطنيةٍ تحميها وتدافع عنها، ودون إطارٍ وطنيٍ جامعٍ موحدٍ ومتفقٍ عليه ومتجانسٍ يصونها ويحفظها، ويردفها ويدعمها، ويتحدث باسمها ويستثمر إنجازاتها، ويعبر عن حاجاتها ويتصدى لتحقيق مطالبها، ويضمن استمرارها ويحقق نجاحها ويسعى إلى سلامتها، فهذه من البديهيات التي علمتنا إياها الانتفاضتان السابقتان، وهي من سنن النجاح ونواميس النظام، التي تلتزم بها الثورات، وتحافظ عليها الشعوب خلال مسيرة نضالها وسنوات مقاومتها، فقد كانت في الانتفاضات التي سبقت قيادة موحدة وإن لم تلتزم بعض القوى بها، إلا أن التنسيق كان يكملها، والتنظيم كان يوحدها ويعوض النقص الذي لحق بها.
ليس من المنطق أبداً أن تبقى الانتفاضة هكذا هملاً، لا رأس لها ولا رئيس، ولا قائد لها ولا مسير لفعلها، ولها أكثر من خطاب وعندها أكثر من فلسفة، تتخبط وتتعثر بخطى بعضها وفعاليات قواها، التي لا يجمعها إطار ولا توحدها هيئة، وإنما تحركها همم الشباب، وعزائم الرجال، وتضحيات النساء، وتسير بقوة الدفع الذاتي الشعبي المخلص، بعيداً عن الخطط البعيدة المدى والمشاريع ذات الجدوى الوطنية، إذ من يخطط لهم ويفكر عنهم، ومن ييسر أمرهم ويستطلع لهم، ولكن الحقيقة المرة أنه لا يوجد من ينير دربهم، أو ييسر عملهم، ويستطلع لهم، ويزودهم بالمعلومات والبيانات، ويحذرهم من الأخطاء والسقطات، والعثرات والزلات، فقد شغلهم تكريس الخلاف وتعميق الانقسام، وتحقيق المصالح عما هو أحق وأوجب.
تعلم القوى والأحزاب الفلسطينية وهي كثيرة، أن الشعب مهما كان قوياً فهو في حاجةٍ إلى قائدٍ ومسيرٍ، وأنه مهما كان باسلاً وشجاعاً فإنه يبقى في حاجةٍ إلى هيئةٍ توجهه وتشرف عليه، وإن لم يكن هذا هو دورهم والمهمة الملقاة على عاتقهم، فما هي مهمتهم، وما هو دورهم، أتراهم يفكرون فقط في تجيير المكتسبات، وتبني الشهداء والعمليات، والتغني بالانتصارات والإنجازات، وتجييرها سياسياً لصالحهم، وتوظيفها حزبياً وفئوياً بما يخدم أهدافهم الخاصة وغاياتهم الضيقة المحدودة.
القوى والفصائل الفلسطينية تعلم أن العدو الإسرائيلي فرحٌ لعجزهم عن استيعاب الانتفاضة، ومسايرة الشعب والمشي معه، إذ أن الشعب قد سبقهم وتجاوزهم، وإن كان قد انتظرهم علهم يلحقون ويعوضون، لكنهم ارتكسوا وانشغلوا فلم يعد فيهم أملٌ ولا منهم رجاء أن يدركوا ما فاتهم، ويعوضوا ما قد سبقهم، وهذا ما يدركه العدو ويعلمه، وما يسعى إلى تكريسه واستمراره، إذ أن من صالحه أن تبقى الانتفاضة عمياء لا عيون لها، وتائهة لا دليل لها، وفوضى لا منظم لها، وعنفاً لا سياسة مرجوة منها.
إن أكثر ما يلفت النظر في انتفاضة القدس الثانية أنها انتفاضةٌ شعبيةٌ عفويةٌ، يقودها الشباب وتحركها العاطفة، ويدفعها الصدقُ ويبلغها الإخلاصُ والتفاني، والتجردُ والتوكلُ، أمانيها التي انطلقت من أجلها، ويحقق لها الأهداف التي وضعتها لنفسها، ولولا بركةُ الأرض وصدقُ الشعب ونبلُ الغاية وطهرُ الهدف ما كان لهذه الانتفاضة أن تمضي، وأن تشق طريقها رغم الصعاب، وأن تتصدى للتحديات وتغالبها وتحاول الانتصار عليها، مع أن الظروف تعاكسها ولا تساعدها، والمحيط حولها يلتهب ويشتعل، وبغيرها من همومه ينشغل، إلا أن شعب الانتفاضة العظيم قرر أن ينهض وينتفض، ويثور وينعتق، طالباً حريته، وساعياً لاستعادة حقوقه، وضمان أمنه ومستقبله، وإن تأخرت قيادته، وتراجعت فصائله.
مضى شهران على بداية الأحداث في الضفة الغربية، التي آلت بعد أيامٍ قليلةٍ من اندلاعها إلى انتفاضةٍ شعبية، وخلفت قرابة التسعين شهيداً، وأكثر من ألف معتقل، ومثلهم أكثر من الجرحى والمصابين، وعشرات البيوت المدمرة ومناطق كثيرة محاصرة ومغلقة، وما زال الشعب ماضٍ في انتفاضته، ومصرٌ على ثورته، وثابتٌ على مواقفه، ومتطلعٌ إلى أهدافه، وهو يقدم ولا يبخل، ويخوض ولا يتردد، وينفذ ولا يخاف، ويواجه ولا يجبن، ولا ينتظر من غبر الله مثوبةً، ومن غير شعبه وأمته رضا، ولا يتوقع من أحدٍ أجراً أو مقابل، أو رفعةً في الحياة وذكراً بين الناس، إنما همه أن يرفع الظلم والجور، وأن يحقق النصر وبنجز العودة، وأن يطهر مقدساته، ويفتح أبواب مساجده والأقصى أمام المصلين.
عجيبٌ أمر هذه القيادة وهذه القوى الفلسطينية جميعها، كأنها عمياء لا ترى، أو بلهاء لا تعي، أو مضطربة فلا تحسن التفكير، ولا تنتهز الفرص ولا تقتنص المكرمات، فقد أكرمها الله بهذا الشعب، وتفضل عليها بهذا الجيل، القوي الشجاع المضحي المبادر الهمام المقدام، الذي تفتخر به الأمم، وتتيه بروعته الشعوب، وتتغنى ببطولته الأجيال، فما يقدمه أكثر مما نتصور، وأعظم مما نتخيل، إذ أن من بيوتهم وأسرهم من قدمت أكثر من شهيدٍ ومعتقلٍ وجريحٍ، فالشقيق يلحق بشقيقه، ويصر على الثأر له والانتقام من أجله، وكذا الأخت والأم، والأب والابن، يلحقون بالشهداء ويسيرون على دربهم، ويكونون مثلهم وينالهم فضل من سبقهم، ولكن قيادةً عاجزةً عن المواكبة، وخائفة من المتابعة، أحرى لها ألا تكون، وأفضل لها أن تنسحب، وأشرف لها أن تعترف وتقر بعجزها، وتطلب من غيرها القادر أن يتقدم ويمضي، ليحمل الراية ويقود المسيرة.
رغم ذلك فإن قيادةً للانتفاضة لم تتشكل بعد، ورؤيةً مشتركة لم تتبلور، وطريقاً واضحاً لم يرسم، وأهدافاً مشتركة لم تطرح، وغاياتٍ مأمولة لم تحدد، وما زالت القوى والفصائل الفلسطينية مضطربة ومرتبكة، لا تعرف ماذا تفعل ولا كيف تواجه، تنتظر طارئاً يقع أو تتوقع حدثاً ليس من صنعها، يدفعها أو يغير من حالها، رغم أن كثيرين يقولون دعوا الانتفاضة تمضي على بركة الله وبتوفيقه، ولا تتدخلوا فيها فتفسدوها، ولا تخططوا لها فتخذلوها، ولا تساعدوها فتخونوها، ولا تستغلوا إنجازتها فتحرفوها عن حقيقتها النقية، وجوهرها الصافي الواضح والصريح.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (40)
وداعاً للكارلو ستاف وأهلاً بالكلاشينكوف
يبدو أن المخابرات الإسرائيلية فرحة بما اكتشفت، وسعيدة بما أعلنت، فقد ضبطت في حوزة فلسطيني من سكان الخليل بندقية كارلوستاف، وأذاعت الخبر ونشرت صورة البندقية، وكأنها قد وجدت ثكنةَ سلاحٍ أو مخزن ذخيرة، أو أنها ألقت القبض على فرقةٍ عسكريةٍ أو خليةٍ مسلحةٍ، وتريد من العالم كله أن يشاهد ماذا يملك الفلسطينيون وماذا يحمل المتظاهرون معهم، وأنهم يكذبون ولا يصدقون عندما يدعون أن مظاهراتهم سليمة، وأن انتفاضتهم غير مسلحة، وأن احتجاجاتهم ليست مدنية، بل إنها مظاهراتٌ مسلحة، وعملياتٌ عنفيةٌ منظمة، وعناصرها يحملون الأسلحة الرشاشة التي تشكل خطراً على حياة الإسرائيليين، وقد أوقعت في صفوفهم العديد من الضحايا.
هذا ما يروجه العدو الإسرائيلي اليوم، وهو ما تركز عليه وسائل إعلامهم وما يقوله الناطقون باسمهم، ليبرروا للعالم جرائمهم التي يرتكبونها في حق الفلسطينيين، وأنهم ليس كما يقال عنهم ويشاع، أنهم يبادرون إلى قتل الفلسطينيين دون سبب، أو أنهم يتعمدون قتلهم وتلفيق التهم لهم، ويدعون أنهم يحملون أسلحةً أو سكاكين وآلاتٍ حادة، بل إنهم يلجأون إلى استخدام الأسلحة النارية، ويسمحون لمستوطنيهم بإطلاق النار، في حال تعرضهم للخطر، أو عند إحساسهم بوجود عناصر مريبة فعلاً، وتتصرف بطريقةٍ مشبوهة.
الفلسطينيون ليسوا عاجزين عن استخدام الأسلحة النارية، ولا يترددون في إخراجها واستخدامها إن رأوا لذلك ضرورة وفيها مصلحة، ولا شك أنه يوجد عندهم بعض الأسلحة التي يقاومون بها، رغم الحملات الأمنية المحمومة التي تقوم بها المخابرات الإسرائيلية ضد المقاومين، لسحب سلاحهم، وإحباط عملياتهم، وتفكيك شبكاتهم، واعتقال أو قتل عناصرهم، فضلاً عن تعاون الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع مخابرات العدو بموجب تفاهمات دايتون، والتي نجحت في إحباط عشرات العمليات التي خططت لها المقاومة، وأفشلتها نتيجة عمليات الاعتقال المبكرة، التي تتم على قاعدة التنسيق وتبادل المعلومات.
الفلسطينيون قادرون على استخدام السلاح في انتفاضتهم الثالثة، لكنهم قرروا منذ الأيام الأولى لاندلاعها أنهم لن يعسكروها حكمةً لا خوفاً، ولن يستخدموا فيها الأسلحة النارية تكتيكاً لا جبناً، ولن يعطوا العدو المتربص بهم المبرر والذريعة لاستخدام أقصى ما لديه من قوة لقمع الانتفاضة ووضع حدٍ لها، ويعلمون أن عسكرتها لدى العدو حلمٌ ومخرجٌ من الأزمة التي وقع فيها بسياساته، فهو وإن لم يكن قادراً على إنهاء الانتفاضة والقضاء على فعالياتها، فإنه لا يخفي رغبته في عسكرتها ليتمكن من استخدام القوة المفرطة، وكل ما لديه من أسلحة لإيقاع أكبر عددٍ ممكن من القتلى في صفوف الفلسطينيين، نتيجة تفوقه في العتاد والجنود، اعتقاداً منه أن القوة المفرطة الموجعة والمؤلمة، من شأنها أن تحبط الفلسطينيين، وأن تزيد من درجة اليأس والقنوط لديهم، بسبب كثرة ضحاياهم وقلة عدد القتلى في الجانب الآخر.
لكن أصواتاً فلسطينيةً أخرى نجلها ونقدرها، ونقدمها ونحترمها، وفيها من الحكمة والرزانة ورجاحة العقل ما يجعلها تتقدم ونصغي إليها، ترى أنه لا غنى عن المقاومة المسلحة، واستخدام الأسلحة المختلفة التي توجع العدو وتؤلمه، وتضغط عليه وتؤثر فيه، وقد استخدمت الكثير منها وعندها الجديد والمبتكر أيضاً، والمصنع والمهرب وما هو من بين الأيادي ومن إنتاج الأرض.
وهي ترفض منطق الانتصار بالشهادة، والصمود بالاعتقال، والثبات بالجرح والألم، رغم أن هذه المعاني هي ما يتميز بها شعبنا ويكبر بها، لكنهم لا يقبلون بمنطق الرضا بالصفع دون الرد، ولا يؤمنون بأن العين لا تقاوم المخرز، بل يرون أن الانتصار يلزمه إثخانٌ في صفوف العدو، وسفكٌ لدمائه بذات الدرجة التي يسفك فيها دماء شعبنا، وكما يخيفنا فإن عليه أن يخاف، وكما يفقدنا الأمن ويحرمنا من السلامة، فإنه يجب أن يذوق من نفس الكأس الذي يجرعنا منه، فلا يأمن على حياته، ولا يسلم شعبه ومستوطنوه من الثأر والانتقام، عيناً بعينٍ، وسناً بسنٍ.
ربما يمثل هذا الرأي قطاعاً كبيراً من أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وهو يروق لأمتنا العربية والإسلامية أيضاً، بل يؤيدونه ويفضلونه أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، إذ لا يرون في المقاومة السلمية خيراً، ولا يأملون منها شيئاً، فتراهم يؤيدون السكين والمدية، والفأس والمعول والحديدة، ويحرضون على الدهس والصدم والقتل، ولكنهم يصرون على كافة أشكال المقاومة الأخرى، فهم يريدون أن يشفوا غليلهم، وأن يبردوا قلوبهم، وأن يروا في العدو يوماً أسوداً، فيه يشكون ويبكون، ويشربون من نفس الكأس المر الذي اعتاد أن يذيقه لشعبنا، وإلا فإن دماء الشهداء تذهب هدراً، ويموت الأهل من عجزهم كمداً، ويصمت الرجال قهراً، وتتحسر النساء على أولادهن، ويلبسن السواد مدى عمرهن، ويقبلن بالحداد علامةً لأيامهن.
إنها مسيرة مقاومة ومرحلة تحرر، طويلةٌ ومؤلمة، وقاسية وموجعة، وفيها ضحايا وخسائر، ومحنٌ وابتلاءات، فلا ينبغي أن يستسلم الشعب فيها لما يخطط له، ويقبل بأن يساق إلى المذبح دون مقاومة، فينقاد مسكيناً ويستسلم خانعاً ويقتل ذليلاً، بل ينبغي أن يرفض ويقاوم، ويصد ويواجه، وإلا كيف سيكون في صفوفه أبطالٌ ورجالٌ وشجعان، فهؤلاء لا يتشكلون إلا في الميدان، ولا تبرز أسماؤهم إلا على الأرض، ولا يحفظ الشعب ذكرهم إلا بمقدار ما أوجعوا العدو وآلموه، وآذوه وقتلوه.
ربما يفرح العدو بصيده الذي ظنه ثميناً، وقد يوظفه لصالحه زمناً، وقد يستغله لدى الغرب وغيرهم تشويهاً واتهاماً، وقد يجعله مبرراً للقتل وسبباً للجريمة، لكنه يخطئ إن ظن أن الفلسطينيين سيحزنون بما اكتشف، وسيغمون بما عرف، وسيسقط في أيديهم بما سلب، بل سيعلم ولو بعد حين أن بندقية هذا الشعب ستبقى مشرعة، وأن سلاحه سيبقى عامراً، وأنه لن يتخلى عن البندقية وغيرها، بل سيعدد في سلاحه، وسينوع في أدوات نضاله وأشكال مقاومته حتى يحقق النصر الذي إليه يتطلع، ويعيد الأرض التي بها يتمسك، ويستعيد الأقصى الذي فيه يتعبد، والقدس التي بها يتميز.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (41)
الطردة يفرض حضر التجوال على الفالوجة
شابٌ فلسطيني واحدٌ صادقُ اللهجة، واثقُ الخطوة، حادُ النظرة، قويُ الإرادة، صامدٌ على أرضه، متمسكٌ بثوابته، حريصٌ على مقدساته، غيورٌ على شعبه، ومصممٌ على منهجه، أعزلٌ إلا من سكينٍ، ومجردٌ إلا من صدق إرادته وعمق إيمانه بحقه، ينجح وحيداً في إرباك العدو الإسرائيلي وإشغال أجهزته الأمنية وقواه العسكرية، وطواقم البلدية والخدمة المدينة، وعناصر الإسعاف والدفاع المدني، ويجبر السلطات الإسرائيلية على الطلب من مواطنيهم عدم الخروج من المنازل أو التجول في الشوارع والطرقات، وعدم فتح أبواب بيوتهم لأي طارقٍ إلا بعد التأكد من شخصيته وهويته، ثم أصدرت الجهات المختصة أوامرها بتعطيل المدارس والجامعات، ومنع التلاميذ والطلاب من الخروج إلى مدارسهم وجامعاتهم، مخافة أن يتمكن المقاوم الفلسطيني الشاب الحر الطليق من الاستفراد بأحدهم وطعنه.
حالة استنفارٍ كبيرةٍ وتوترٍ شديدٍ سادت مدينة كريات جات الإسرائيلية، التي تحولت خلال فترةٍ قصيرةٍ إلى ثكنةٍ عسكرية، تغص بالجنود والضباط وعناصر الشرطة وسيارات الإسعاف والدفاع المدني، الذين جاؤوا على أهبة الاستعداد وبكامل الجاهزية لمواجهة أي طارئ، وكأنهم يواجهون جيشاً معادياً، أو مجموعةً عسكريةً كبيرة، لا مجرد شابٍ ثائرٍ، وفلسطينيٍ غاضبٍ، خرج لينتقم لشعبه، ويثأر لأهله، لكنه الجبن الإسرائيلي والخوف الذي جبلوا عليه ونشأوا فيه، ذلك أنهم يعرفون أنهم ظالمين ومعتدين، وقتلة ومجرمين، ويعلمون أن حالهم هذا القائم على الظلم والاغتصاب لن يدوم ولن يستمر مهما طال الزمن وتأخر الحسم، ومهما بلغت قوتهم وعلا شأنهم وتعاظم سلاحهم وازداد تفوقاً وفتكاً.
إنه محمد شاكر الطردة، الفلسطيني ابن بلدة تفوح قضاء الخليل، الذي استطاع وحده أن يدخل العدو الإسرائيلي في دوامة قلقٍ واضطراب، وحيرةٍ وخوف، بعد أن نجح بمفرده في طعن عددٍ من المستوطنين، ثم لاذ بالفرار ونجح في التواري عن الأنظار والاختباء بعيداً عن العيون، الأمر الذي أخاف الإسرائيليين أكثر، وجعلهم يتربصون خيفةً وقلقاً، ويلتفتون يمنةً ويسرةً، مخافة أن يطلع عليهم بسكينه، ويكمل ما بدأه فيهم طعناً ومحاولةً للقتل، وهم يعلمون أنه سيكون أكثر جرأة وأكثر اندفاعاً، وأشد رغبةً في الطعن ومحاولة إصابة أكبر عددٍ ممكنٍ منهم، لعلمه أنه سيقتل، وأنهم لن يتركوه وشأنه، ولم يكتفوا باعتقاله، بل سيجهزون عليه كحال كل الشهداء الذين سبقوه ونفذوا عملياتٍ تشبه ما قام به.
لهذا كان الإسرائيليون يشعرون أنهم في مواجهةِ أسدٍ هصورٍ، ونسرٍ جارحٍ، وصقرٍ يرقبهم من مكمنه، وأنه سينال يقيناً من كل من يقابله ويجده في طريقه، ولن تخيفه قوة، ولن تمنعه إرادة، إذ كيف سيصدون رجلاً يقبل على الشهادة بنفسه، وينوي المواجهة وهو يعلم أنه سيقتل، الأمر الذي يجعله يفكر جاداً ألا يقتل بدمٍ باردٍ، وألا يسلم نفسه لعدوه رخيصاً بلا ثمن، وسهلاً بلا غرمٍ أو مقاومة، قبل أن يثخن فيهم غاية ما يستطيع.
خلت الشوارع فعلاً، وران على المدينة صمتٌ شديدٌ، وسكن أرجاءها الخوف، وبدأ السكان في الاتصال ببعضهم، يطمئنون على أنفسهم ومن غاب من أبنائهم، ويطلبون ممن هو خارج المدينة ألا يعود إليها، بينما كان محمد في المدينة، لم يغادرها بعد، ولم يتمكن من الابتعاد كثيراً عن مكان الحادثة، بل كان يتربص ويترقب، وفي نيته مواصلة ما بدأ، واستكمال ما خرج من أجله، ولكن حالة الاستنفار كانت كبيرةً جداً، وعدد الجنود وعناصر الأمن والشرطة الذين يجوبون المناطق، ويبحثون ويفتشون عن منفذ عملية الطعن كان كبيراً، وكانوا في حالة جهوزيةٍ عالية، يحملون بنادقهم ومسدساتهم، وأيديهم على الزناد، الكل يتطلع ويتفحص المكان، وأخيراً تمكنوا من الوصول إليه بينما كان في حديقة أحد المنازل، واقفاً يحمل سكينه متأهباً، ينوي المهاجمة ولا يتطلع إلى الفرار.
شعر العدو الإسرائيلي أنه قد حقق نصراً، وأفشل مخططاً، وأنه تمكن من إحباط عمليةٍ عسكريةٍ نوعيةٍ كان سيقوم بها الفريق محمد شاكر الطردة، وطنوا أنهم باعتقالهم له سينامون ليلهم الطويل، وستذهب عنهم كوابيسهم وأحلام ليلهم المزعجة، ورعبهم الدائم في ساعات النهار، وأن أحداً لن يأتي من بعده، ولن يتم ما بدأ غيره، ولن يستكمل المسيرة سواه، وما علموا أن الراية لا تسقط، والسكين كما البندقية لا تقع من يد فلسطينيٍ أبدا، بل يسلم الراية مقاومٌ إلى مقاومٍ، ويحمل السكين شابٌ إثر شابٍ أو فتاة، وتمضي المسيرة، وتتواصل المقاومة، ويعلن الفلسطينيون أن أرضهم أعز عندهم من المهج والأرواح، وأن قدسهم أمانةٌ عندهم في كتاب الله، لا يفرطون فيها ولا يتنازلون عنها، ولا يتأخرون في حمايتها والدفاع عنها.
كريات جات التي استهدفها الطردة بسكينة، مدينةٌ فلسطينية عريقةٌ في المقاومة، وتاريخها ساطعٌ في الصمود والثبات، إنها بلدة عراق المنشية، أو مدينة الفالوجة الشهيرة، التي بات اسمها علمٌ، يطلق على مدنٍ كثيرةٍ، وشوارع ومدارس وميادين عربية عديدة، ذلك أنها المدينة الفلسطينية التي كانت أكثر من صمدت في حرب عام 1948، ولم تسقط في يد الإسرائيليين، الذين لم يتمكنوا من دخولها عنوةً بقوة السلاح وإرهاب العصابات المسلحة، بل بقي فيها المقاتلون العرب والفلسطينيون، صامدون يقاومون، يقاتلون بشراسةٍ ويرفضون الخضوع والاستسلام، حتى غدت هذه المدينة اسماً لكل مقاومةٍ، ورديفةً لكل صمودٍ وثباتٍ في وجه الاحتلال، الذي اكتوى بها قديماً، وتألم فيها وبكى اليوم جديداً.
شكراً لك محمد الطردة، واعلم أن سجنك لن يطول، وقيدك لن يدوم، وحريتك وغيرك لا محالة ستكون، وأنك في أغلالك وخلف الأسلاك والقضبان في السجون والمعتقلات ستبقى تخيفهم، فقد أعدت وصل ما انقطع، وأحييت فينا ذاكرةً عزيزةً وأياماً مجيدة، وأثبت للعدو الإسرائيلي أن هذه المدينة كانت لنا وستبقى لنا، وسنعود إليها طال الزمن أم قصر، وستخلو شوارعها منهم، وستعود بيوتها لنا كما كانت، نسكنها ونعمرها، ونصبغها بصبغتنا العربية والإسلامية، وسنعمر مساجدها، ونحي دور العبادة فيها، وسيصدح في سمائها من جديد نداء الله أكبر من فوق مآذنها، وبصوت أهلها وسكانها الفلسطينيين، العرب المسلمين الأماجد.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (42)
يوم الاثنين الدامي
يوم الاثنين الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين ثاني يومٌ دامي بحقٍ، وأليمٌ بلا شك، وأسودٌ بلا ريبٍ، رغم أن فيه مع الحزنِ فرحةً، ومعه بعض السعادة، وفيه مع الألم شيئٌ من الأمل، ولكنه يبقى يوماً من أيام الانتفاضة المجيدةِ مشهوداً، وتاريخاً محفوظاً، ففيه ما يميزه ويجعله عن باقي الأيام مختلفاً، وعن سواه مغايراً، فهو يوم الشهداء الأطفال بامتياز، ويوم المقاومين الصغار بحق، فالذين سقطوا وجرحوا واعتقلوا، والذين نفذوا وطعنوا، كانوا جميعاً من الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم السادسة عشر.
وقد توزعت الأحداث في هذا اليوم فشملت القدس حيث الإجراءات الأمنية الإسرائيلية قد بلغت فيها ذروتها، ولكن هالة الأمن التي كانت سلطات الاحتلال تدعيها في مدينة القدس ومحيطها قد تمزقت وتبددت بفعل فتاتين فلسطينيين صغيرتين، إذ وصلتا إلى قلب القدس، وإلى أكثر أماكنها أمناً وحساسية، وامتد يوم الفلسطينيين الدامي إلى مدينة رام الله وشمالاً إلى نابلس، وإن كان الكثير من النشطاء والمنفذين يأتون من محافظة ومدينة الخليل إلى كل المدن والبلدات الفلسطينية.
إذ في هذا اليوم قتل في شارع 443 جنوب غرب رام الله مستوطنٌ يهودي وأصيبت أخرى بجروح، عندما قام شابٌ من مدينة رام الله بطعنهما، فقتل الأول وأصاب الثانية وهي مجندة في جيش الاحتلال بجراحٍ خطيرة، وترك المستوطنين يتخبطون في دم قتيلهم وحيرة مستقبلهم، ولكن فرحة نجاحه في طعنهما لم تكتمل، إذ تكالب عليه المستوطنون، وأطلقوا عليه النار من كل مكانٍ فقتلوه، وأبقوه على الأرض ملقىً، ولم يسمحوا للإسعاف الفلسطيني بالاقتراب منه، علماً أن الشاب قد نجح بعد طعنهما بالفرار بعيداً عن مكان الحادثة.
وفي الخليل التي لا تتوقف عن الغليان، ولا تهدأ فيها الانتفاضة، ولا يتوقف أبناؤها عن تصدير الثورة، ونقل الجذوة وحمل المشعل إلى مختلف مدن الضفة الغربية، فقد تمكن أفراد من جيش العدو من توقيف مواطنةٍ فلسطينيةٍ قرب الحرم الإبراهيمي جنوبي المدينة، ولكنه أخفى المرأة ولم يعلن عن حالتها شئ، ولم يبين ما هو وضعها ولماذا اعتقلها، وقد أبقى حالتها غامضة، ولم يعلن عن المكان الذي نقلها إليه، الأمر الذي قد يدفعه لقتلها والادعاء بأنها كانت تحمل سكيناً وتهم بطعنٍ جنودٍ أو مستوطنين إسرائيليين.
أما في مدينة القدس، وبالقرب من محطة القطار عند سوق محنيه يهودا، فقد كانت الخسارة كبيرة والمصيبة موجعة، عندما قام المستوطنون بإطلاق النار على فتاتين فلسطينيتين قاصرتين، إحداهما في الرابعة عشر من عمرها، بينما لم تتم الثانية عامها السادس عشر، وهما من عائلةٍ واحدةٍ، حيث قتل الإسرائيليون الطفلة الثانية عن قربٍ، وجاء غيرهم وأطلق عليها النار من جديدٍ بعد مقتلها، بينما أصيبت الصغرى بجراحٍ ونقلت من مكان الحادث تحت الحراسة المشددة إلى مستشفى إسرائيلي.
لكن الفتاتين الصغيرتين الغاضبتين الحانقتين الثائرتين الغيورتين، كانتا تحملان مقصاً، وقد جاءتا به من بيتهما، بزيهما المدرسي الذي يتميز به التلاميذ، ونجحتا في طعن أربعة صهاينة، وإن كانت جراح ثلاثة منهم بسيطة، فإن جراح الرابع وصفت بأنها خطيرة، وقد نقلت وسائل الإعلام المختلفة صوراً لصهيونيٍ شابٍ، يدوس بقدمه يد الفتاة الشهيدة، ويحاول الضغط عليها كمن يريد سحقها.
أما في حوارة جنوب مدينة نابلس، فقد انبرى للشهادة طفلٌ فلسطيني آخر، لم ينهِ بعد عامه السادس عشر، وأصيب معه شابٌ في الثامنة عشر من عمره، وكانت سلطات الاحتلال قد أوقفتهما على حاجز حوارة العسكري، إلا أن الجنود الإسرائيليين على الحاجز اشتبها فيهما، وأطلقا النار باتجاههما ما أدى إلى استشهاد الطفل ذي الستة عشر عاماً، وإصابة الآخر بجراح، نقل على إثرها إلى المستشفى.
يحزن الفلسطينيون ومعهم الكثير من أبناء الأمة العربية والإسلامية على الفلسطينيين الذين يسقطون في هذه الانتفاضة على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وجلهم من الأطفال والشباب اليافع، ويزدادون حزناً وألماً عندما لا يتمكن المنفذون من قتل أو إلحاق الأذى الشديد بالجنود والمستوطنين الإسرائيليين، وتكون النتيجة استشهاد المنفذين ونجاة الإسرائيليين، إذ بلغ عدد شهداء الانتفاضة منذ مطلع أكتوبر الماضي حتى اليوم الاثنين أكثر من تسعين شهيداً، بينما لم يصل عدد القتلى الإسرائيليين إلى عشرين قتيلاً.
علق كاتبٌ إسرائيلي على أحداث يوم الاثنين واصفاً إياه باليوم الأسود الإسرائيلي، وأنه ليس أسوداً على الفلسطينيين، الذين يناضلون من أجل قضيتهم، وينتفضون لاستعادة أرضهم وحقوقهم، ومن الطبيعي لشعبٍ يقاوم أن يسقط منها قتلى وتلحق به خسائر، والفلسطينيون يقتلون على مدى عمر حكومات الليكود وكاديما من قبل دون أسبابٍ موجبة لذلك، ولا مبررات ومسوغاتٍ أمنية تجيز قتلهم ولا تفضل عليه اعتقالهم.
وهو أسودٌ بالنسبة للإسرائيليين، إذ كشف هذا اليوم عن سوء خلقهم، وتردي قيمهم، وافتقارهم إلى القيم الإنسانية، وبين أنهم لا يحترمون أصول وقواعد القتال والاشتباك، ولا منطلقات التعامل مع الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، فهم يقتلون الميت، ويجهزون على الجريح، ويعدمون البريء، ويعتدون على الفلسطينيين ثم يطالبونهم بالقبول بهم، والتفاوض معهم، والاستجابة إلى شروطهم، وتفهم حاجاتهم ومصالحهم.
ربما صدق هذا الإسرائيلي من حيث لم يكن يقصد الصدق، ولكنه قال الحقيقة التي قد تغيب عن بال الكثيرين، فالفلسطينيون لا يفرقون بين أيامهم، ولا يصفون يوماً بأنه أسودٌ وآخر بأنه أبيض، بل يعتبرون كل أيامهم متشابهة ما بقي الاحتلال، وهي واحدة ما استمرت الانتفاضة في فعالياتها وعملياتها، وهم لا يوقفون مقاومتهم ولا يمتنعون عن تقديم الشهداء، ولا يستعظمون تضحياتهم أمام هدفهم الكبير.
كما أن الأيام كلها تعري الإسرائيليين وتكشف عن دونية أخلاقهم، وتردي قيمهم، وتفضح ممارسات جيشهم الذي يدعي المناقبية العالية، والتمسك بالقيم الإنسانية الرفيعة، وتكشف أيضاً عن سلوكيات شعبهم، وأخلاق مستوطنيهم، والدرك السحيق الذي وصلوا إليه، وتكذب دعواهم بأنهم يحبون السلام ويسعون إليه، وهم في حقيقتهم قتلة ومجرمون، ومعتدون وظالمون، وغاصبون ومحتلون، مما يجعل مستقبلهم مجهولاً، وتاريخهم على مدى الأيام دامياً، لا يجلب لهم إلا الحروب، ولا يورث لهم إلا المهالك.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (43)
اقتلوا الإسرائيليين حيث ثقفتموهم
نعم إنها دعوة صريحةُ وواضحة، ومباشرةٌ ومقصودة، ولا غموض فيها والتواء، ولا سرية فيها ولا إخفاء لها، ولا خوف منها ولا إنكار لها، ولا تردد فيها ولا ندم عليها، ولا انتقاء منهم ولا اصطفاء بينهم، فهم جميعاً سواء لا فرق بينهم ولا خيار فيهم، إنها دعوةٌ مباحةٌ ومشروعةٌ لقتل الإسرائيليين أينما ثقفوا وحيثما وجدوا، وملاحقتهم أينما ذهبوا، ومطاردتهم أينما حلوا، والتضييق عليهم حيث نستطيع ونتمكن، فقد والله أوجعونا وآذونا، وألمونا وأحزنونا، وبالغوا في الإساءة إلينا، فلا تأخذنا بهم رحمة، ولا تقعدنا عنهم رأفة، ولا نقصر عن عملٍ نستطيعه، أو مقاومةٍ نقدر عليها، أو إيذاءٍ نقوى عليه، فإنهم والله يستحقون القتل، ولا يسـتأهلون الحياة، ولا يحق لهم البقاء بيننا والعيش معنا، فهم ليسوا كالبشر وإن بدو مثلهم، ولا ينتمون إلى الإنسانية وإن ادعو أنهم من سلالة الإنسان، وأنهم يتصفون بالإنسانية، ويتحلون بأخلاقها وقيمها.
إنها استجابةٌ لنداءِ أطفالنا، وصرخات فتياتنا، ودعوات أمهاتنا، وأماني رجالنا، وحسرات الراحلين ومنتهى آمال السابقين، إنها أمنية الأحياء ووصية الأموات والشهداء، إنها العهد والبيعة، والوصية والوعد، والعهد والميثاق، فلا نخيب رجاءهم، ولا نحسر نفوسهم، ولا نبكي عيونهم وندمي قلوبهم، ولا نتركهم لمصيرهم ونتخلى عنهم لقدرهم، ولا ندعهم وحيدين في مواجهة هذا العدو اللعين والخصم الماكر الرجيم، فإنه ينوي البطش بهم والقضاء عليهم، ويتطلع إلى طردهم وإخراجهم، وحبسهم وحصارهم، وتعذيبهم والتضييق عليهم.
أفلا ترون أنه يتعمد قتل كل عابرٍ ومار، وكل ماشٍ وراكب، وصغيرٍ وكبير، وامرأةٍ ورجل، وكل برئٍ ومتهم، وعاديٍ ومشتبه به، ويطلق النار على من يمشي مسبلاً يديه ومن يضعهما في جيبه، ومن يطوح بيديه ومن يحمل بهما حقيبةً أو أي شئٍ آخر، أو يدهسهم لمجرد الرغبة في الدهس، والحاجة إلى سفك الدم والقتل، وإن هم قتلوهم وغالباً ما يفعلون، فإنهم يتعاورون في إطلاق الأعيرة النارية القاتلة، فيطلقون النار على المقاومين والمواطنين عن قربٍ ومن كل مكانٍ، وهم يعلمون أن الكثير من الضحايا هم أطفالٌ لم تتجاوز أعمارهم السادسة عشر، ومنهم دون ذلك بكثير، وأغلبهم لا يشكل عليهم خطراً، ولا يحمل في يديه ما يجرح أو يؤذي، ومع ذلك فإن على الأرصفة وفي الشوارع عشرات الشهداء، الذين يعدمون في أماكنهم، ويتركون لساعاتٍ دون أن يقوَ أحدٌ على الاقتراب منهم ونقلهم، أو تقديم المساعدة لهم.
وإن كنا نؤمن بما قاله عبد الله بن الزبير وقد صلب بعد مقتله على باب الكعبة المشرفة، وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها، فبدورنا لا يؤلمنا ما يصيب شهداءنا وما يلحق بهم، فهم مكرمون بالشهادة، ومقدرون بالمقاومة، ومكانتهم عالية بما قدموا وما عزموا على القيام به، ودرجتهم عند الله وبين الناس رفيعة، ولكن تسوؤنا أفعال العدو البشعة المهينة، التي تدل على نفوسٍ عفنةٍ مريضةٍ، وأحقادٍ قديمةٍ موروثة، فهذا يلقي على الشهيد شرائح من لحم الخنزير، وذاك يدوس بقدمه جسد الشهيدة، ويقف على كفها وهي على الأرض مسجاةٌ تنزف دماً، تئن أو تفارق الحياة، وآخرون يجرون الشهيد جراً ويسحلونه على الأرض، ويضعون بالقرب منه سكيناً أو قطعة حديدٍ حادةٍ أو مدببةٍ، ليبرروا فعلهم الخسيس وعملهم الدنيء الباطل.
مخطئٌ من كان قادراً على الانتقام من الإسرائيليين وتأخر، أو كان قادراً على الثأر منهم وقصر، فمن استطاع قتلهم فليفعل، ومن استطاع جرحهم وإصابتهم فليفعل، ومن لم يقوَ إلا على إيذائهم فلا يحزن، بل يعجل ولا يتأخر، ومن كان في يده حجراً فليقذفهم به، أو فليلقمه في أفواههم، ومن كان بيده سكينٌ أو خنجرٌ فليطعنهم به وليغرسه في صدورهم ولا يتردد، فهؤلاء مجرمون وقتلة، ومغتصبون ومردة، قتالهم واجب، وحربهم فرض، ومقاومتهم ميدان تنافسٍ ومضمار سباقٍ، وساحةٌ للنزال وإثبات للذات وضمان للمستقبل، وهنيئاً لمن كان له فضل السبق أو بعض السهم، أو القليل من العطاء أو الكثير من الجهاد والمقاومة، فهذا مقامٌ ينبغي فيه تقديم كل شئٍ لنصل إلى ما نريد، ونحقق ما تصبو إليه نفوسنا، فطوبى لمن بذل النفس أو الدم، ولمن أعطى الروح قبل الجسد، ولمن ضحى بالمال والولد، ولكل من ضحى بنفسه ثأراً وانتقاماً،
ومجرمٌ من ينبري للدفاع عنهم وحمايتهم، أو يبرر فعلهم ويتفهم دوافعهم، أو يوافق على جرائمهم ويصدق روايتهم، أو يساعدهم ويساندهم، أو يناصرهم ويواليهم، ويعمل عملهم ويكمل دورهم، ويحاصر مثلهم ويعاقب نيابةً عنهم، أو يقوم مقامهم في الحراسة والرقابة، وفي التضييق والملاحقة، أو يمتنع عن تقديم العون والمساعدة، والنصرة والمساندة، للفلسطينيين الذين هم في حاجةٍ إلى العلاج والرعاية والاستشفاء والدواء والغذاء, ولوازم الصمود وعوامل البقاء.
وخائنٌ للدين والوطن من يوشي بالمقاومين أو يحبط أعمالهم ويبطل عملياتهم، ويتعاون مع العدو عليهم، ويقبل بالتنسيق ضدهم، لاعتقالهم أو قتلهم، أو لإحباط عملياتهم وإفشال مقاومتهم وإخماد انتفاضهم والسيطرة عليهم، وتمكين العدو ومخابراته منهم، أفلا يرى الموشون المتعاونون، والمنسقون المغفلون، ما يفعله العدو بشعبنا، وما يرتكبه في حق أبنائنا وأطفالنا، فهو يقتل بلا هوادة، ويبطش بلا رحمة، ويمضي بلا توقف، ويؤذي شهداءنا متعمداً، ويسيئ إليهم قصداً.
نحن غاضبون وحزنى، ومكلومين وقد نبكي، ولكننا سنمضي على هذا الدرب، وسنكمل المشوار الذي بدأنا، والانتفاضة التي بها انطلقنا، وسنعمل في رقاب العدو سيوفنا ما استطعنا، وسنثخن فيهم ما تمكنا، وسنقتلهم أينما ثقفوا، وسنخرجهم بالقوة من حيث أخرجونا، وسنستعيد أرضنا ووطننا، وسنعمر بلادنا وسنسكن بيوتنا، ونعود إلى ديارنا وقرانا، فهذا وعد الله لنا، وعهده معه، ولن يخذلنا الله عهده، وسيوفينا وعده، فإن وعده الصدق وقوله الحق، وحكمه العدل.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (44)
الهوس الأمني والبلاغات الكاذبة
الحقيقةُ التي لا يستطيعُ أن ينكرها أحد، أنه رغم القوة والتفوق، والجيش والسلاح والطيران، والدعم والإسناد والرعاية، والسيطرة والنفوذ والسلطة، والحماية والدفاع والقدرة على الهجوم، ووسائل الرقابة والتفتيش والتجسس، والتطور المهول في عالم الاتصالات والتواصل والمتابعة، فإن المجتمع الإسرائيلي خائفٌ في حقيقته، ومهزوزٌ من داخله، وغير متأكدٍ من مستقبله، وغير واثقٍ من أمنه، وهو قلقٌ على وجوده، ومضطربٌ في سلوكه، وتائهٌ في مساراته، ولا يدري أي الطرق تنجيه، وأي السبل تنقذه مما هو فيه، وهو يتهم قيادته، ويشك في حكومته، ولم يعد يجد الأمن في ظل جيشه، وبات يعيش كوابيساً في النهار وهواجس في الليل، ويصحو على خبرٍ ويبيت على آخر، ولا يعرف ماذا سيكون في غده.
أضفت الانتفاضة الفلسطينية على الحياة الإسرائيلية شكلاً آخر، قد يكون وقعه شديداً، وأثره قاسياً، وإضافته غير مقبولة، إذ لا يكاد يمر يومٌ واحدٌ على الإسرائيليين في كل المدن والبلدات والمستوطنات دون إنذارٍ بقرب وقوع حادث، أو خبرٍ عن هجومٍ أو اعتداء، أو سماع طلقاتٍ ناريةٍ في أكثر من مكانٍ، أو مشاهدة عربيٍ يحمل سكيناً، أو آخر يتجول بسيارته بحثاً عن هدفٍ، تتلوها نداءاتٌ عبر وسائل الإعلام، ورسائلٌ قصيرةٌ توزع عبر الهواتف النقالة، وأخرى تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي، كلها تحذر وتخوف، وتنذر وتبلغ، وتدعو المواطنين إلى التزام بيوتهم، وعدم التجوال في الشوارع، ولا التوقف على الطرقات، ولا الموافقة على نقل أو توصيل أحدٍ على الطريق، أو ركوبِ سياراتٍ مجهولة السائق.
لعل الجميع يصغي إلى الأخبار، ويصدق الأنباء ولو كانت كاذبة، وقد كثرت هذه الحوادث وازدادت في ظل الانتفاضة الأخيرة، حيث بدأت تصل إلى سلطات الاحتلال آلاف المكالمات اليومية، من عامة المستوطنين والزوار، الذين ينقلون مشاهداتهم في الحافلات وسيارات النقل، وشكوكهم في المرافق العامة والمحطات والتعاونيات الكبيرة، وريبتهم في سائقي السيارات، والواقفين في المحطات أو على الشوارع العامة، وظنونهم وخوفهم من كثيرٍ من المارة، ممن يشبهون الفلسطينيين شكلاً، أو يتماثلون معهم في لون البشرة وشكل الهيئة، علماً أن أغلب بلاغاتهم كاذبة، وجل ظنونهم واهية، ومن النادر أن تكون حقيقية، لكنهم يتوجسون ويخافون، ويتهيأ لهم ما يرون، ويحلفون على ما يشهدون عليه، رغم أنهم يتخيلون ويتصورون.
تلعب الإشاعة دورٌ كبيرٌ في شيوع الرواية وانتشار البلاغ أياً كان صادقاً أو كاذباً بين الإسرائيليين، الذين يصدقون كل نبأ، ويستجيبون لكل إشاعة، وكأنهم كما قال الله فيهم، يحسبون كل صيحةٍ عليهم، هم العدو فاحذرهم، لكن طبيعتهم الخائفة، وظروفهم المريبة التي يعرفونها، تجعلهم يخافون من جرة الحبل ويظنونها أفعى، ويصدقون كل خبرٍ ولو كان ناقله كاذباً، فلولا أنهم يعرفون أنهم ظالمون ومجرمون، وأنهم يعتدون ويسيئون، لما كان هذا حالهم، ولما سكن الخوف قلوبهم، ولا هيمن الجزع على نفوسهم.
كما يصغي المواطنون إلى الأخبار والأنباء التي تنقلها وسائل الإعلام ومؤسسات الاحتلال الأمنية والعسكرية، فإن سلطات الاحتلال تصغي أيضاً إلى كل بلاغٍ، وتصدق كل شاهدٍ، وتسمع لكل راوٍ، ولا تهمل أي بلاغٍ، ولا تستخف بأي معلومة، ولا تتردد في التعامل الجاد والمسؤول مع ما يصلها من بلاغاتٍ وتحذيراتٍ، فتستجيب الشرطة إلى البلاغات، وتتعامل معها بجديةٍ كبيرة، وتعاقب موظفي الطوارئ الذين يعملون في مقاسم الطوارئ، الذين يهملون الاتصالات الهاتفية، ويصنفون بعضها بأنها لهو وعبث، وأنها صبيانية وغير جادة، وأنها لا تعكس خطراً حقيقياً، وإنما هي نتيجة الضغط النفسي والتوتر العصبي.
ولعل تصرف السلطات الإسرائيلية الحاد والجازم، مع موظفة المقسم التي ردت على مكالمة الشبان الإسرائيليين الثلاثة الذين خطفوا في مدينة الخليل منتصف العام 2014، التي لم تتعاطَ معهم بجديةٍ، ولم تول مكالمتهم الاهتمام المطلوب، بل استهترت بها ولم تبلغ مرؤوسيها بها، قبل أن يتبين لها وللشرطة أنهم تعرضوا فعلاً للخطف والقتل على أيدي شابين فلسطينيين، وأن أحدهم قد استخدم هاتفه واتصل بالطوارئ، قبل أن يتمكن الخاطفون من السيطرة عليهم وقتلهم، وقد شكلت هذه الحادثة إضافة جديدة إلى طريقة تعامل سلطات الاحتلال الإسرائيلية، العسكرية والأمنية، مع أي بلاغاتٍ تصلها، ومعاقبة كل من يهمل بلاغاً أو يستهتر به، أو يتأخر في إبلاغ المعنيين بالأمر، الذين يحاسبون أيضاً في حال إهمالهم وتقصيرهم.
لكن الأمر المعيب والمشين، أن يأتي الإنذار والتحذير إلى الجانب الإسرائيلي من جهات فلسطينيةٍ، ترصد الشعب وتتابع الشباب والنشطاء، وتعرف الحضور والغياب، والميول والاتجاهات، والنزعات والرغبات، والانتماء والتنظيم، فتبلغ العدو الإسرائيلي عبر مكاتب التنسيق الأمني المشتركة، وتحذره من إمكانية قيام مجموعاتٍ فلسطينية بعمليات خطفٍ أو قنصٍ أو غير ذلك، فيأخذ العدو حذره، ويتأهب لمواجهة التحذير والتصدي له إن كان حقيقة، أو الاستفادة منه في توجيه ضرباتٍ أمنية وإجراء اعتقالاتٍ إداريةٍ، في الوقت الذي يعمم الخبر على مواطنيه حسب منطقة الاستهداف المتوقعة.
البلاغات الأمنية الكاذبة والصادقة مكلفةٌ جداً على الشعب الفلسطيني، فالعدو الذي اعتاد أن يصدق كل بلاغ، وألا يكذب أي تحذير، وألا يستخف بأي احتمالٍ أياً كانت درجة مصداقيته، فإنه يقوم إثر البلاغات التي تصله بحملاتٍ أمنيةٍ واسعةٍ، فيداهم ويجتاح، ويقتحم ويعتقل، ويستدعي ويحذر، ويحاصر ويفرض حظر التجوال، وأحياناً يبادر بالقصف والقتل والاغتيال، ويبرر لنفسه ما يقوم به من اعتداءاتٍ ومظالم، بحجة أنه يصد خطراً، ويحبط عملاً، ويمنع المقاومين من استكمال مخططاتهم، وتنفيذ عملياتهم، ولكن الحقيقة أنه مهووسٌ وخائف، وقلقٌ وجبان، ولو كان درعه الحديدُ، وبيته القلعة الحصين، فإن بيته يبقى دائماً بيت العنكبوت، لا يقي ولا يحمي،و لا يصد ولا يصمد، ولا يبقى ولا يثبت.
وسوم: العدد 643