انتفاضة تجدد انتفاضة
في مساء يوم الثامن من شهر ديسمبر كانون أول من العام 1987م. وعلى إثر جريمة دهس عمالنا في مخيم جباليا بغزة من قبل شاحنه يقودها سائق صهيوني ،اندلعت الشرارة التي أوقدت نار الانتفاضة تحت أقدام العدو المحتل .
إنها (الانتفاضة الأولى) داخل الوطن المحتل ، بعد خروج القوات الفلسطينية من بيروت في العام 1982م.
وهي(انتفاضة الحجارة) تعبيراً عن السلاح الذي أشهره الفلسطيني الأعزل في وجه الجيش الصهيوني وقياداته الإرهابية التاريخية من أمثال شامير وبيريز ورابين .
وهي (انتفاضة المساجد) عنواناً للمكان الذي كانت تنطلق منه جماهير شعبنا في فعاليات الاشتباك ضد حواجز وآليات وجنود الاحتلال .
إنها إذن الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة انتفاضة المساجد ، ولا مشاحة في الاسم.
لم يكن في حسابات العدو الصهيوني يومها أنه سيصبح في مواجهة غير مسبوقة أمام الشعب الفلسطيني، ستستمر لعدة سنوات وستتطور تدريجياً ونوعياً مع الأيام والسنين، فكل المعطيات لديه كانت تعطيه المزيد من الاطمئنان والثقة لنجاحه وانتصاره في معركته ضد الشعب الفلسطيني.
إن قراءة العدو الصهيوني للبيئة السياسية الإقليمية آنذاك كانت تؤشر إلى أنه أمام فرصة تاريخية سانحة لتذويب الهوية الوطنية الفلسطينية وتمييع عناوين القضية الفلسطينية وثوابتها عبر تسويق مشروع التعايش السلمي بين الشعبين الصهيوني اليهودي والعربي الفلسطيني.
فالبندقية والأداة العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينة لم تعد تشكل تهديداً لأمن الكيان الصهيوني عبر حدود دول الطوق وقد خرجت من المعركة نهائياً في صيف عام 1982م على إثر حصار الجيش الصهيوني للقوات الفلسطينية في العاصمة العربية بيروت بقيادة الإرهابي شارون وأصبحت منفية مشتتة بين دول عربية عديدة بعيداً عن الوطن.
فيما اتخذت القيادة المتنفذة لمنظمة التحريرالفلسطينية من العاصمة التونسية مقراً لها ودخلت طوراً جديداً من العمل السياسي والدبلوماسي أهلها لامتلاك لياقة عالية في التعاطي الإيجابي مع مشاريع التسوية، بعيداً عن امتلاك أدوات القوة العسكرية الميدانية .
وفي المقابل فتح العدو الصهيوني سوق العمل في مشاريعه الاقتصادية والتنموية داخل الوطن المحتل، وقدم إغراءات كبيرة لمئات الآلاف من العمال الفلسطينيين، في عملية تذويب وتمييع وتجنيد طالت العديد من أبناء شعبنا.
فيما بدأت قيادات ونخب وقوى فلسطينية تتجرأ وتبادر بطرح أفكار تخترق الثابت الوطني ، وتساهم في بلورة تصورات حول الحل السلمي للصراع ضد العدو.
كما بدأت خلال الفترة نفسها عملية العزل التدريجي للقضية الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي، وساهم القرارالفلسطيني الرسمي في تسهيل تخلي الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي آنذاك عن القيام بمسؤولياتهما القومية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية، وأصبح تمثيل القضية فلسطينياً منفرداً، فيما أصبح سقف الموقف القومي والإسلامي يختزل في الشعار “نقبل بما يقبل به الفلسطينيون ” .
وفي الوقت الذي خرجت فيه أكبر دولة عربية من معادلة الصراع والكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني من خلال اتفاقات السلام والتطبيع معه ، كانت الجامعة العربية تصيغ مبادرات سلام عربية ، تتلقفها الأمم المتحدة والقوى الدولية الكبرى لتعيد تصديرها للمنطقة كمشاريع سلام للقضية الفلسطينية .
كل هذه المعطيات وغيرها كانت كفيلة بتضليل العدو الصهيوني حينما لم يستطع اكتشاف وقراءة الحقيقة الفلسطينية الأصيلة لهذا الشعب العظيم: فهو شعب لا يقبل الاحتلال مهما طال، شعب يقاوم الاحتلال بكل الأدوات المتاحة مهما اختلت موازين القوة لصالح العدو، شعب يتشبت بأرض الوطن لا يفرط فيها، ينتمي لأمة عظيمة، يعتز بهويته الحضارية وقيمها النبيلة .
إن البيئة السياسية التي يراهن عليها العدو في تمرير أهدافه وبرامجه ومواقفه، في حالة حراك دائم لا تتوقف عن تحولاتها ولو كانت بطيئة، كما أن موازين القوة لا يستطيع طرف احتكارها لصالحه إلى الأبد، وإن ما تشهده فلسطين هذه الأيام من تحولات شعبية ضد العدو الصهيوني ومعادلاته التي فرضها على شعبنا، تؤكد أننا نجدد الانتفاضة الأولى بانتفاضة ثالثة …اسمها هذه المرة انتفاضة القدس ستؤسس لمرحلة قادمة لن تقل تحولاتها وتداعياتها على الجميع عن التحولات والتداعيات التي فرضتها الانتفاضات السابقة، وإن غدا لناظره لقريب.
وسوم: العدد 646