ابن الهيثم وألف عام على تأسيس علم البصريات الهندسية والفيزيائية
شهد مركز تحقيق التراث العربي بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا ظهر الثلاثاء 8 ديسمبر الجاري حفل إحياء ذكرى أبي علي الحسن بن الحسن بن الهيثم الذي كرمته "اليونسكو" والأمم المتحدة فوضعت اسمه على شرف "العام الدولي للضوء وتقنياته 2015م"، بمناسبة مرور ألف سنة على تأليفه لكتاب "المناظر" الذي أسس به علم "البصريات الهندسية والفيزيائية".
أدار الاحتفال الدكتور أنس عطية الفقي، المشرف العام على متطلبات جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا ومدير تحقيق التراث العربي بها، وقدم الشكر لمحاضر الاحتفالية الدكتور أحمد فؤاد باشا أستاذ الفيزياء ورائد تاريخ العلوم في الوطن العربي.
كما شكر الحضور الكريم من عمداء كليات الجامعة ومسؤوليها وعلى رأسهم خالد الطوخي رئيس مجلس أمناء الجامعة، ود. محمد العزازي رئيس الجامعة، ود. محمد نصار مستشار وزير التعليم العالي.
وخص بالشكر العالم الجليل د. حسين نصار، ود. عامر النجار، والأستاذ حسن عبد الحفيظ أبو الخير.
وقال: يسر جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا أن تستضيف د. أحمد فؤاد باشا نائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق، عضو مجمع اللغة العربية، ورائد تأريخ العلوم في الشرق الأوسط، ليحدثنا عن الحسن بن الهيثم في العام الدولي للضوء، ولنشارك منظمة اليونسكو ومكتبة الاسكندرية في احتفالها بهذا العام العالمي الذي يحمل اسم العالم المسلم الحسن بن الهيثم رائد علم البصريات في العالم كله.
وقال د. أحمد فؤاد باشا: أريد أن أوجه رسالة إلى من يعنيه الأمر، فالمناسبة هي الاحتفال الدولي بعالم عربي مسلم اسمه الحسن بن الهيثم، والدول كلها ممثلة في اليونسكو والأمم المتحدة أخذت قراراً في عام 2013م بأن يكون العام 2015م هو العام الدولي للضوء وتقنياته وأن يكون على شرف مؤسس هذا العلم "الحسن بن الهيثم"، وهذه أول صلة بين هذا الاحتفال والدعوة العامة العالمية للمشاركة فيه، وقد بدأت معظم الدول في إقامة سلسلة من الاحتفالات استهلتها باريس بمحاضرة للدكتور أحمد زويل.
وهنا ملمح مهم، هو أن الألفية الثانية في القرن العاشر بدأت بالحسن بن الهيثم وانتهت في 1999 بحصول حفيده أحمد زويل على جائزة نوبل في العلوم، وكأن هذه الألفية في هذا الفرع من العلوم مخصصة للعرب وللحضارة الإسلامية.
الملمح الثاني، أنه في مثل هذا الشهر وتحديداً في يوم 21 ديسمبر 1939م أي منذ 76 سنة عقد في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة احتفال مهيب نظمته الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية بمناسبة مرور 900 سنة على وفاة الحسن بن الهيثم ودفنه بالقاهرة.
ومعي من حسن الحظ نص هذا الاحتفال والمحاضرات التي ألقيت فيه، وهو مطبوع في العام 1939م.
"احتفلت الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية فعقدت اجتماعاً تخليدياً بصالة الاحتفالات الكبرى بجامعة فؤاد الأول بالجيزة في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الخميس 21 ديسمبر 1939م وقد شرف الاجتماع حضرة صاحب السمو الأمير محمد عبد المنعم رئيس شرف الجمعية، وصاحب الفضيلة وكيل شيخ الجامع الأزهر وصاحب المعالي القائم بأعمال المفوضية العربية في السعودية وحضر الاجتماع جمهور كبير من العلماء والأدباء في القاهرة من أساتذة الجامعة والأزهر ووزارة الأوقاف والهيئات العلمية والأدبية الأخرى وكذلك عدد من الشرقيين النازلين بالقاهرة وجمهور كبير من طلبة الجامعة والأزهر والمدارس الثانوية، وقد وردت لصاحب السمو الأمير محمد عبد المنعم الرئيس الفخري للاجتماع برقية من شخصية معروفة تهنئه بهذا الاجتماع وقد كان مقرراً أن يلقي بكلمة الافتتاح صاحب السعادة أحمد لطفي السيد باشا ولكنه اعتذر بعدم مقدرته على مغادرة منزله، وافتتح الاجتماع حضرة صاحب العزة مصطفى عبد الرازق بك وزير الأوقاف السابق، وتكلم عن الناحية الفلسفية لابن الهيثم وتبعه حضرة الدكتور محمد علي حجاب مدير مكتبة جامعة فؤاد الأول ثم تكلم حضرة صاحب العزة مصطفى نظيف بك، وتلاه حضرة الدكتور محمد رضا ندرة مدير مرصد حلوان فتكلم عن أعمال ابن الهيثم في الفلك، ثم تكلم صاحب العزة د. علي مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم، واختتم الاجتماع حضرة الدكتور محمد محمود غالي وتكلم عن الهندسة وانفض في تمام الساعة الثامنة مساءً".
واسمحوا لي أن أقرأ فقرة من كلمة الدكتور مصطفى عبد الرازق أول المتحدثين الذي قال: تحتفل القاهرة الليلة بهذه الساحة الجامعية الكبرى بذكرى وفاة ابن الهيثم وقد شهدت القاهرة منذ تسع من مئات السنين تشييع جنازته في غير احتفال من قبة كان يقيم فيها على باب الجامع الأزهر إلى قبر يجهل التاريخ موضعه من تلك القبور التي يقول فيها شيخ المعرة:
رب لحدٍ قد صار لحداً مراراً... ضاحكٍ من تزاحم الأضداد.
أنتقل بسرعة إلى اليوم وقد علمت في الأسبوع الماضي فقط وأنا ألقي محاضرة مماثلة في جامعة القاهرة من عميد كلية الآثار الدكتور محمد حمزة الحداد أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية، أنه تعرف مما ورد في كتب المزارات على قبر الحسن بن الهيثم في حوش حديث بالقرافة الصغرى بجوار قبر الصحابي الجليل عقبة بن عامر، جنوبي قبة الإمام الشافعي بمصر القديمة.
وقد رأيت من واجبي أن أسجل هذه المعلومة المهمة، عسى أن تكون دافعاً وحافزاً للمعنيين بقضايا الآثار والسياحة وتحقيق التراث على أن ينفضوا الغبار عن قبر الحسن بن الهيثم، الذي ظل مجهولاً طوال ما يقرب من ألف عام حتى كاد يطويه النسيان.
إذا فعلنا، نستطيع أن نرد الجميل لليونسكو التي تعرفنا بأهلنا وأجدادنا ونعلن للعالم أجمع اكتشاف مقبرة الحسن بن الهيثم الذي لم يكن عالماً عادياً وكأنه كان منذوراً للاكتشافات الكبرى التي نفعت الإنسانية.
الملمح الثالث، أنه في عام 1999م اتصل بي أحد الأصدقاء رحمه الله وقال سأهديك هدية كبيرة، وكانت هديته عبارة عن مقالة لمفكر معاصر اسمه ريتشرد تورز يجب فيها على سؤال طرحته النيويورك تايمز في نهاية العام 1999م حول أحسن فكرة ليس في عام 1999 وليس في القرن العشرين فقط ولكن في الألف سنة الماضية (الألفية الثانية).
شرح لنا ريتشرد في مقالته كيف أن انشتين هو أول من تبادر إلى ذهنه باعتباره مخترع النسبية ثم ورد إلى ذهنه نيوتن الذي خرج بفكرة الجاذبية ثم ورد على ذهنه آخرون لكنه توقف أثناء ذلك وقال إن أحسن فكرة هي التي دلت كل هؤلاء على طريق التقدم والاختراع وهي المنهج العلمي التجريبي الذي قال به عالم عربي مغمور في القرن العاشر الميلادي اسمه الحسن بن الهيثم.
أقول: شكراً لك يا ريتشرد لكنك لم تقل الحقيقة كاملة وهي أن الحسن بن الهيثم لم يكن وحده هو مؤسس المنهج التجريبي فعندنا فيض وغزارة وحضارتنا ملأى لا تعتمد على عالم واحد بل عندنا عشرات العلماء الذين أبدعوا من الأفكار ما تستفيد منه الإنسانية حتى الآن.
خذ البيروني في علم الفلك والجبر والهمداني في القرن الثاني الهجري عندما سأله الناس: تقولون إن الأرض تدور.. فلم لا نتساقط من عليها؟ فقال لهم في كتاب اسمه "الجوهرتين" إن الأرض أشبه بحجر المغناطيس تجذب قواه الحديد من كل جانب وطرف.
وهذا مثال جميل لظاهرة الجاذبية نتعلمه من الهمداني.
إذن، لدينا علماء تكلموا في كل فروع المعرفة، تكلموا في علم الشفرة الذي نظنه علم معاصر، لكنهم كانوا يسمونه علم "التعمية"، ومن هنا فإن تراثنا العلمي التطبيقي هو خير ما نواجه به تحديات العصر الذي نعيشه.
أبنائي الشبان والشابات: ليس كل ما فات مات، ولولا ابن الهيثم ما ظهر زويل، ولو كان الأمر بيدي لجعلت جائزة نوبل يتقاسمها الحسن بن الهيثم مع أحمد زويل، لأن قوانين الليزر ما هي إلا قوانين ضوء في الأساس.
وعندما أطلق اسم ابن الهيثم على فوهة تقع في الجانب الشرقي المرئي للقمر من الأرض، وفي المقابل أطلق اسم أينشتين على فوهة أخرى تقع في الجانب الغربي، كان ذلك إشارة ذكية إلى الموطن الأصلي لأشهر عالمين في الشرق والغرب.
فابن الهيثم هو من وضع الأساس التجريبي للفيزياء في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، وأينشتين هو الذي أسهم في تأسيس الفيزياء الحديثة مع بدايات القرن العشرين، ومعجزة الضوء كانت الموضوع المحوري لأبحاث الإثنين.
وفي عام 2006م ظهر كتاب بعنوان "ابن الهيثم العالم الأول" من تأليف "برادلي ستيفنز"، وفيه يترجم لابن الهيثم باعتباره أول عالم حقيقي في تاريخ الحضارة الإنسانية، لأنه أسس وطبق المنهج التجريبي الاستقرائي الذي يعول عليه في الاستدلال على الحقائق العلمية، واستخلاص أي نتائج مرجعية.
وظهور كتاب "المناظر" الذي تحتفل اليونسكو بمرور ألف عام على تأليف ابن الهيثم له ونشره، كان في مرحلة الشيخوخة المتأخرة للحسن بن الهيثم بعد عام 1029م.
هذا العمل الموسوعي الضخم، كتاب "المناظر" وأجزائه السبع، قد احتاج من مؤلفه وقتاً ليس بالقصير، كانت فيه فسحة لتصميم آلات، وإجراء تجارب، وإعداد براهين هندسية على المسائل الكثيرة التي عرض لها المؤلف في كتابه.
ومن هنا نرجح أن ابن الهيثم بدأ يتخذ الأهبة لتأليف الكتاب مع بدايات فترة اعتكافه بمنزله في القاهرة من عام 401هـ/1011م حتى وفاة الحاكم بأمر الله في عام 411هـ/1021م، وذلك جنباً إلى جنب مع اشتغاله بنسخ الكتب التي كان يتعيش منها.
وأغلب الظن، فيما نرى، أنه استكمل جمع الكتاب وتنقيحه بعد خروجه من عزلته، عقب وفاة الحاكم بأمر الله.
ولعله انتهى من تأليفه قبيل وفاته ببضع سنين، لأن كثيرين من معاصريه والذين جاءوا بعده لم يسمعوا عن هذا الكتاب إلا بعد فترة من الزمن.
وأشار د. أحمد فؤاد باشا إلى أن الحسن بن الهيثم عرف في الغرب، منذ العصور الوسطى، باسم "الهازن"، نسبة إلى اسمه "الحسن"، بفضل أعماله في الرياضيات والفلك والأرصاد والإلهيات، والعلوم الفيزيائية، وخاصة علم المناظر (البصريات).
ويبدو أن الدور التنويري لابن الهيثم في الغرب، من خلال كتابه "المناظر"، قد حظي باهتمام كبير في فجر حركة التنوير الغربي.
فقد ألهمت رسالته في "قوس قزح" الشاعر الفرنسي "جان دو مون" أن يكتب في حوالي عام 1270م بعض أبيات من الشعر في الجزء الذي نظمه استكمالاً لما بدأه زميله "جيوم اللوريسي" بعنوان "رومانسية الوردة" الذي ظل ينظمه مدة 40 سنة، وفعل مثله "جان دو مون" فمكث في استكمال الرواية مدة 40 سنة أخرى، وذكر في الجزء الذي نظمه قصة كتاب "المناظر" لابن الهيثم.
ودعا د. أحمد فؤاد باشا الهيئات والمؤسسات المعنية إلى تحقيق موسوعة "المناظر" لابن الهيثم، التي بدأ تحقيقها بالفعل الدكتور عبد الحميد صبره عام 1982م ووصل إلى الجزء الخامس، لكن وافاه الأجل عام 2013م رحمه الله، وبقي جزءان.
لقد وضع ابن الهيثم في علم البصريات 6 مسائل لا تزال حتى الآن تحير كبار العلماء.
وأختم بعبارة كتبها ابن الهيثم في مذكراته: "إذا وجدت كلاماً حسناً لغيرك فلا تنسبه إلى نفسك، واكتف باستفادتك منه، فإن الولد يلحق بأبيه والكلام لصاحبه.
وإن نسبت الكلام الحسن الذي لغيرك إلى نفسك نسب غيرك نقصانه ورذائله إليك.
وأنا ما مدت لي الحياة باذل جهدي ومستفرغ قوتي في مثل ذلك متوخياً منه أموراً ثلاثة:
أحدها إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد مماتي، والآخر أني جعلت ذلك ارتياضاً لي بهذه الأمور في إثبات ما تصوره وأتقنه فكري من تلك العلوم.
والثالث أني صيرته ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الهرم. وأخيراً يقول ابن الهيثم: وانتهيت إلى إيثار الحق وطلب العلم واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئاً أجود ولا أشد قربة إلى الله تعالى من هذين الأمرين".
وسوم: العدد 646