الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة 65-69
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (65)
مشاهدٌ أخرى من الشارع الإسرائيلي
كثيرةٌ هي المشاهد التي يستطيع المهتمون رصدها في الشارع الإسرائيلي تجاه الانتفاضة الفلسطينية، وهي مشاهد في أكثرها معبرة وصادقة، وتكشف عن عمق وحقيقة الكيان الصهيوني، وتسبر غور المواطنين الإسرائيليين، لأنها في أغلبها ردود فعلٍ طبيعية، وبعضها فطرية، تنسجم مع الطبيعة اليهودية، وتتناغم مع أخلاقهم وقيمهم الموروثة والقديمة، فلا يستطيعون إخفاءها ولا يتمكنون من تغييرها، أو محاولة تحسينها وتجميلها أو التلطيف منها، ومنها ردات الفعل الإنسانية، التي تظهر ضعفهم، وتكشف عن ألمهم، وتبرز ترددهم وخوفهم، وتميط اللثام عن هالة القوة الزائفة التي يدعون، وستار التفوق الذي يشيعون، وادعاءات الوجود والبقاء كونهم الأقوى والأصلح بين الجميع في المنطقة.
والصور القبيحة البئيسة عن الكيان الصهيوني التي نذكر ليست هي كل شئ، بل هي جزءٌ مما نرصدٌ، وقليلٌ مما نكتب ونسجل، وهي بعض ما ينشرون ويكشفون، وهي أكثر من قدرة المقال على استيعابها أو الإحاطة بها، كما أن صورهم السيئة لا تتوقف ولا تنتهي، بل ما زالت ترد تباعاً وتتجدد، وتظهر بالتدريج يوماً بعد آخر، إذ أنهم كلما ازداد مأزقهم وتعمقت أزمتهم، فإنهم يظهرون ما كانوا يحاولون إخفاءه، ويبدون ما تفرضه عليهم الأحداث من ردودِ فعلٍ وتصرفاتٍ تعبر عن حقيقتهم، علماً أنهم يفضحون أنفسهم أحياناً، ويسلطون الضوء على عيوبهم، ويكتبون عن مخازيهم، ويدعون وسائل الإعلام تصورهم، ولا يخفون صور الفزع البكاء والعويل والنحيب، والهستيريا والجنون والهوس، والهلع والفزع والصراخ.
فهذا ضابطٌ كبير في المخابرات الصهيونية، ممن كان يشرف على عمليات قمع الفلسطينيين، وحاول بالقوة إخماد انتفاضتهم والقضاء على جذوة مقاومتهم، وآذى الفلسطينيين وعذبهم، واعتدى عليهم وأساء معاملتهم، تنقل وسائل إعلام العدو أنه انتحر حزناً على شقيقته التي قضت طعناً بسكين فلسطينيٍ، فبعد أن بكاها بحرقةٍ وأسى، وكتب عنها بلوعةٍ وحزن، أقدم على الانتحار لعجزه عن حمايتها ومنع الفلسطينيين من الوصول إليها، وهو الذي كان يتبجح أمامها بالقوة، ويختال بما ارتكب من جرائم، وما دري هذا الضابط أن هذا الشعب سيذيقهم من ذات الكأس، وسيجرعهم الموت مراً كما يذيقهم العدو لأبنائه.
وتورد الصحف الإسرائيلية يومياً نقلاً عن تقارير طبية وشرطية حوادث انتحارٍ بطرقٍ مختلفةٍ، وأخرى عن قصص مستوطنين آثروا البقاء في بيوتهم وعدم مغادرة مستوطناتهم، وتورد تقارير كثيرة عن نزوع المستوطنين إلى السفر وقضاء عطلٍ طويلةٍ في الخارج، تاركين بيوتهم ووظائفهم، وأحلامهم التي بنوها في غير أرضهم، ومشاريعهم التي عمروها ونفذوها في غير أوطانهم.
وجنودٌ إسرائيليون يسبقون المستوطنين قبل عبورهم إلى الشوارع المشتركة مع الفلسطينيين، أو أثناء دخولهم إلى المستوطنات، ويتموضعون فوق البنايات العالية، حيث يتمركز فوقها قناصةٌ محترفون، يقومون بحماية المستوطنين، ويطلقون النار بكثافةٍ على جانبي الطرق لمنع الفلسطينيين من الاقتراب منها، حتى لو لم يكن هناك مستوطنون يعبرون الشوارع أو يمرون فيها، وفي أحيانٍ كثيرة يقومون بطرد سكان البنايات التي يعتلونها، ويطلبون منهم مغادرتها لبعض الوقت الذي يحددونه لهم، وإذا حاول الفلسطينيون وأصحاب البيوت المحتلة العودة إليها أو الدفاع عنها وإخراج المستوطنين منها، فإنهم يقتلون أو يعتقلون أو يطردون بقوة السلاح.
الإسرائيليون لا يشعرون بالفخر إذ أن جيشهم يواجه شبان الانتفاضة، كما لا يشعرون بالاطمئنان إلى قوة جيشهم، وبسالة جنودهم، ويقظة حكومتهم، بل إن القلق يساورهم، والخوف يسكنهم، والذعر يسيطر عليهم، وكثيرٌ منهم قد تعرض لصدماتٍ نفسيةٍ لهول ما رأي، وشدة وقسوة ما سمع وعرف، وهذا وزيرٌ صهيوني يؤكد ذلك ويجمع الأموال من أثرياء اليهود حول العالم، لتنظيم رحلاتٍ ترفيهيةٍ لأكثر من 2500 مستوطن إسرائيلي تعرضوا لأزماتٍ نفسية، ويشكون من أمراض مستعصيةٍ وسلوكياتٍ غريبةٍ، وحالات اكتئابٍ وحزن، ويدخلون في حالات صمتٍ واعتزالٍ عن المجتمع والمحيط، وهو ما فسره كثيرٌ من الأطباء وعلماء النفس الإسرائيليين، أنها صدماتٌ نفسيةٌ قاسية قد ألمت بهم، وسيطرت عليهم، وتحكمت في سلوكياتهم، حتى أصبح عددٌ كبيرٌ منهم عاطلا وعالةً، لا يستطيع أن ينفع نفسه فضلاً عن نفع وخدمة مجتمعه.
ولهذا يوصي الأطباء النفسيون الإسرائيليون وعلماء الاجتماع حكومتهم بمنع وسائل الإعلام المختلفة من نشر صور عمليات الطعن والدهس، ومشاهد ملاحقة الفلسطينيين لضحاياهم وطعنهم، فضلاً عن صور الدماء والمستوطنين المطروحين أرضاً، أو صور الجنود الإسرائيليين وهم يلاحقون الفلسطينيين ويؤذونهم ، ويضربون أطفالاً صغاراً أو يعتدون على نساء، فهذه صور تضر كثيراً بنفسيات المواطنين الإسرائيليين البالغين، ولا يدفعهم ذلك إلى الاطمئنان إلى قوة جيشهم، ولكن علماء النفس والأطباء الإسرائيليون يحذرون من أثر هذه المشاهد السلبي على الأطفال والنساء وصغار السن، ويحذرون من أن آثارها تبقى لفترة طويلة، ومن الصعب عليهم نسيانها في المستقبل، حيث تبقى في الذاكرة تلاحقهم على هيئة أحلامٍ مزعجةٍ وكوابيس مخيفة.
أما مراكز الشرطة الإسرائيلية فقد أصيبت بالخبل والجنون، وشكا الضباط فيها من كثرة البلاغات الكاذبة التي تصلهم، إذ أن هواتفهم لا تتوقف عن الرنين في مختلف المراكز، وجميع المكالمات التي تصلهم متشابهة إلى حدٍ كبيرٍ، فهي في أغلبها تخبر عن وجود شبانٍ فلسطينيين بالقرب منهم، وتحذر من وقوع خطرٍ وشيك، وبعضهم يشهد أنه رأى في أيديهم سكيناً أو أداةً حادة، وغيرهم يدعي أنه لاحقوه وطاردوه، ولكنه تمكن من الإفلات منهم، ولا تملك الشرطة إلا أن تصدقهم وأن تتابع شكواهم حتى يتأكد لها صدقهم أو أنه فقط يتراءى لهم نتيجة الخوف والفزع.
أما إن تبين للعائلة أن هاتف ابنهم أو ابنتهم مغلقٌ أو أنهم لا يردون عليه لسببٍ أو لآخر، فإنهم لا يتوقفون عن الاتصال بالشرطة، أو الذهاب إلى حيث كان أولادهم، فضلاً عن متابعة الأخبار وتعقب بلاغات الشرطة وبيانات المستشفيات.
ترى هل يستطيع الإسرائيليون أن يبقوا على هذا الحال، وأن تستمر حياتهم على هذا المنوال، وأن يكملوا مسيرتهم ويحافظوا على مستقبلهم، وهم يعيشون في ظل الخوف والقلق، والجنون والهوس، والهجرة والرحيل والهروب والفرار، وأيضاً في ظل عمليات القتل والظلم والاعتقال والاعتداء، أم أنهم يراهنون أن هذا الشعب سيكل وسيتعب، وأنه سيمل وسييأس، وسينسى وسيهمل، إنهم إن فكروا كذلك فإنهم سيكونون حمقى، إذ لو أنهم استخدموا عقلهم، وعادوا إلى وعيهم ورشدهم، إن كانوا يعقلون، فإنهم سيدركون أن هذا الشعب الذي يضحي بزهرة أبنائه أبداً لن يفرط ولن يستسلم، ولن بخضع ولن يذل ولن يلين.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (66)
الشهداء الجرحى والمعوقين المصابين
ليس المصابُ الجلل والرزء الكبير في عدد الشهداء الذين ناهزوا المائة والثلاثين شهيداً، الذين ارتقوا خلال السبعين يوماً الماضية من عمر الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، وجلهم من الشباب الواعد المتميز المستنير، وفيهم عددٌ غير قليلٍ من الأطفال والشابات والمسنين، ممن قرروا بأنفسهم الانخراط في صفوف المقاومة، والقيام بعمليات طعنٍ أو دهسٍ للجنود الإسرائيليين، وكان أغلبهم يعلم أنه قد لا ينجو من عمليته، وأنه غالباً سيلقى ربه شهيداً، ولكنهم على الرغم من هذا الاعتقاد، فإنهم كانوا يمضون قدماً في عملياتهم، لأن غايتهم كانت الشهادة، وليس من يخاف من أمنيته، ويخشى من رغبته.
لكن المصيبة الكبرى التي ينوء بها الوطن، ويعيا عن تحملها الشعب، ويشكو منها ومن مراراتها المواطنون الفلسطينيون، ويتحسبون من مضاعفاتها وتداعياتها، فهي جرحى ومصابو الانتفاضة، الذين يقترب عددهم بسرعةٍ من الخمسة عشر ألف جريحٍ في القدس والضفة والأرض المحتلة عام 48 وقطاع غزة، وما زال العدد في ازديادٍ مضطردٍ، فلا يمضي يومٌ دون أن يلتحق بذهبية الجرحى عشراتُ الفلسطينيين من الجنسين ومن كل الأعمار والفئات، ومن مختلف المدن والبلدات والمخيمات والقرى، كما لا يمضي يومٌ دون أن يستشهد أحد الجرحى ويلحق بركب الشهداء ولكن بعد مكابدةٍ ومعاناةٍ وألمٍ.
لكن إصابات الفلسطينيين ليست سهلة، وجراحهم ليست بسيطة، فهي في أغلبها خطرةٌ، وفي أماكن حساسة من الجسد، إذ يبدو أن جنود الاحتلال الإسرائيلي لديهم تعليمات مشددة وواضحة وصريحة، بضرورة إطلاق النار على الجزء العلوي من أجساد المتظاهرين والنشطاء الفلسطينيين، فمن يقتل منهم فهو المراد والمقصود، ولا بأس في كثرة عدد الشهداء، ومن لم يقتل فلتكن إصابته حرجه، وجرحه خطير، ومما زاد في احتمالية سقوط أعدادٍ مضاعفة من الشهداء والجرحى، موافقةُ الحكومة الإسرائيلية لمستوطنيها على إطلاق النار على كل من يشتبهون فيه، أو يظنون أنه ينوي القيام بطعن أحدهم.
لكن الإصابات الكثيرة التي بلغت الآلاف أخطر من القتل بكثير، وأشد ألماً ووجعاً من الشهادة، وأكثر حسرةً ولوعةً من الفقد، إذ أن الكثير من الجرحى قد أصيبوا بطلقاتٍ مباشرة فأصابت الجزء العلوي من الجسد، ومنهم من استقرت الطلقات في أجسادهم ولم تخرج، وكثيرٌ منهم مصابٌ في الصدر أو في الظهر قرب أو في العمود الفقري، وبعضهم قد تهتكت رئتاه أو أمعاؤه، وآخرون أصيبوا في رؤوسهم فدخلوا في غيبوبةٍ طويلةٍ قد لا يفيقون منها، وبعضهم يصنف في عداد "الموتى سريرياً"، وغيرهم مهددٌ بالشلل الجزئي أو الكلي، فضلاً عن مئاتٍ من الجرحى قد بترت أطرافهم، وتعطلت أعضاؤهم، وفقدوا بعض حواسهم، مما جعلهم يصنفون إلى الأبد ضمن المعوقين الذين يحتاجون إلى العون والمساعدة مدى الحياة.
ومما يزيد من عمق مأساة الجرحى والمصابين في قطاع غزة، حالةُ الحصار الشديد المفروض على سكانه، الذين يمنعون من السفر، ولا يسمح لهم بمغادرة القطاع إلى مشافي الأرض المحتلة عام 48، بقصد العلاج أو إجراء عملياتٍ جراحية، هذا بالإضافة إلى منع إدخال الأدوية والعقاقير الطبية، الأمر الذي يزيد من احتمالات الوفاة بسبب الإصابة، خاصةً إذا أضفنا إلى معاناتهم الشديدة، نقصَ الدواء والعلاج وتراجع مستوى الخدمة في المستشفيات، والانقطاع المتكرر للكهرباء، الذي يتسبب في تعطيل الكثير من العمليات الجراحية، ويزيد من معاناة من يخضعون للعلاج عبر الأجهزة الكهربائية، التي تتوقف كلياً نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، نظراً إلى توقف محطة الكهرباء الرئيسة في القطاع، أو نتيجة لنفاذ وقود المولدات الخاصة بالمستشفيات.
الجرحى والمصابون يزيدون في عمق الجرح الفلسطيني ومعاناة الشعب، الذي يدرك أن علاجهم في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها في ظل الاحتلال أمرٌ عسيرٌ وصعبٌ، فضلاً عن قيام العدو في بعض الأحيان باختطاف بعض الجرحى من على أسرة المستشفيات، وسوقهم إلى سجونه ومعتقلاته، حيث لا علاج ولا رعاية، ولا ظروف صحية مناسبة، ولما كانت أعداد الجرحى بالآلاف فإن أعداد الأسر التي تعاني وتشقى هي بالآلاف أيضاً، خاصةً إذا علمنا درجة الفقر التي يعيشون، وقلة ذات اليد التي يملكون، وحالة العوز الهائلة التي تحول بينهم وبين شراء أو توفير الأدوية اللازمة لهم، أو إجراء العمليات المطلوبة لشفائهم.
يشعر الأهل بالكثير من الحزن والأسى واللوعة والغضب، نتيجة رؤيتهم لأبنائهم وهم يعذبون أمامهم، ويذوون كالشمعة أمام ناظريهم، ويموتون بين أيديهم يوماً بعد آخر، بينما لا يستطيعون تقديم العون لهم، أو التسرية عنهم وتخفيف آلامهم، إذ أن أمرهم متروكٌ بين يدي الله سبحانه وتعالى ورعايته، وهم قد سلموا أمرهم لله، ويزيد في حجم المعاناة وجود الوالدين الذين يراقبون أبناءهم أمامهم وبعضهم يحتضر، أو وجود الأطفال وهم ينظرون إلى آبائهم بعيونٍ ملأى بالدعاء والتوسل والرجاء، فيسألون الله أن يعيد إليهم والدهم سليماً معافى، وألا يحرمهم منه بعد طول الصبر والمعاناة، ولكن الكثير من الجرحى يستشهدون، وبعضهم يطول بقاؤه في المستشفى في ظل حالاتٍ ميئوسٍ منها طبياً، ولا يرجى شفاؤها بعلاجٍ أو دواء.
الشهداء الذين نعتز بهم ونفتخر، ونزهو بهم وتسمو أسماؤنا بذكرهم، ويتشرف كافة الفلسطينيين أن يكون في بيوتهم شهداء، فالبيت الذي فيه شهيدٌ بيتٌ شريفٌ مميزٌ ومقدمٌ، يقدم أهله في الدنيا ويرفع ذكرهم، ويشفع لهم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، ويزاحم بهم في جنان الخلد الأنبياء والصديقين وغيره من الشهداء، ويتنافس على المنازل العليا فيها مع خيرة الشهداء، فشهادة أحد أبنائهم لهم شهادة تقدير وعرفانٍ.
لذا فإن حزنهم على الغياب يتضائل أمام إحساسهم بالشرف والنبل، والمكانة والقدر والقيمة، التي يمنحها لهم الشهيد، ولهذا نرى المعزين مهنئين ومباركين، يلتمسون البركة بدل أن يحاولوا مواساة العائلات والتخفيف والتسرية عنها، وكم من بيوت الشهداء تحولت إلى صالات فرح، ومنازلهم إلى سرداقات احتفالٍ ومهرجانات نصر، توزع فيها الحلوى، ويشرب العصير، وتلقى الكلمات الوطنية والحماسية، التي تنز فخراً وتتندى عزاً وشرفاً، لكن جرح الجرحى والمصابين يجرح كل يومٍ، ويفتح بألامه من جديد، وينزف دمه بغزارةٍ من الوريد، وتبقى الدموع تذرف عليهم حزناً أنهم لا يستطيعون النهوض على أرجلهم من جديد.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (67)
موشيه يعالون يهدد ويتوعد ويطمح ويتطلع
ما زال موشيه يعالون يحمل بندقيته ويتنقل بها، ويلبس بزته العسكرية ويتبختر بها، ويراكم ماضيه ويعدد إنجازاته ويفاخر بها، ويحلم أن يحقق وهو وزيراً للدفاع ما عجز عن تحقيقه عندما كان رئيساً للأركان، وقبلها ضابطاً كبيراً في جيش العدوان، إذ أن أحلامه ما زالت كبيرة، وأطماعه كثيرة، وعينه على ما هو أكبر من وزارة الدفاع، وهو وإن بدا أنه يحب بزته العسكرية، ويحرص على أن يلبسها من حينٍ إلى آخر، فهو يتطلع إلى خلعها والتخلي عنها، ليلبس بدلاً عنها بدلةً رسمية مدنية، يكون فيها زعيماً لحزب الليكود ومنه رئيساً للحكومة الإسرائيلية، ولا يهمه أن يطيح بصديقه الذي جاء به وزيراً، وعينه في هذا المنصب الرفيع، بل إن همه الأكبر أن يحل محله، وأن يجلس في مكانه، رئيساً للحكومة الإسرائيلية، بكامل الصلاحيات التي تجعل منه وزيراً لكل الوزارات، وآمراً على كل الوزراء.
أما بنيامين نتنياهو المطمئن إلى نفسه، والواثق في قدراته، والمتطلع إلى ولايةٍ خامسة وسادسةٍ وربما أكثر، فهو لا يشعر بخوفٍ من يعالون، ولا يرى فيه منافساً له، ويعتقد أنه دون موشيه موفاز وأقل منه، لذا فهو يفوضه حيناً ببعض صلاحياته، وينقل إليه في حال مرضه كل صلاحياته، وهو مطمئنٌ إليه أنه سيكون عليها أميناً، وسينفذ ذات السياسة التي كان سينفذها لولا المرض أو أثناء الغياب، وسيساعده في القضاء على الانتفاضة التي تقض مضاجعه، وتقلقه على مستقبله، وهو ذات الهدف الذي يتطلع إليه يعالون ويطمح أن يلعبه.
لهذا فقد عزم يعالون أن ينفذ خطته القديمة الجديدة في منهجه العسكري، الهادفة إلى فرض الهدوء على الضفة الغربية، وإخماد الانتفاضة ومحاربة نشطائها، فقرر القيام بأوسع عملية اعتقال في صفوف الفلسطينيين في الضفة الغربية، ممن تصنفهم مخابراته بأنهم نشطاء وفاعلون، وخاصةً أولئك الذين ينتمون إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وأصدر أوامره بالفعل بمنع دخول الفلسطينيين إلى المدن والبلدات الإسرائيلية، ومنع اقترابهم أو مرروهم من أمام المستوطنات، أو الوقوف بالقرب من بواباتها، وأمر بسحب بطاقات المهمات بمختلف فئاتها من الفلسطينيين، وتقليل التصاريح الممنوحة للزيارة إلى قطاع غزة أو منه إلى الضفة الغربية.
كما وضع خطةً واسعة تقضي بإبعاد نشطاء الانتفاضة إلى قطاع غزة، أياً كان عددهم وعمرهم وجنسهم، فمن يثبت في حقه أنه يحرض على العنف ويدعو له، فإن سلطاته قادرة على حملهم وإلقائهم خلف الأسلاك الشائكة في قطاع غزة، وهو يفضل هذا الإجراء ويشجع عليه، ويرى أن خلعهم من الضفة الغربية وطرحهم بعيداً عنها، يريح كيانه كما يرتاح الجسد بعد خلع الضرس الفاسد، وهو علاجٌ ينهي الألم كلياً ولا يسكنه مؤقتاً، ويرى أن على حكومته أن تلجأ إليه لتضمن مستقبلها.
وأمر يعالون أجهزته الأمنية بمداهمة أماكن عمل ومبيت العمال الفلسطينيين، الذين يعملون في الأرض المحتلة عام 48، واعتقالهم والتحقيق معهم، والتعامل معهم وفق حالاتهم، وذلك باعتقال المخالفين الذين يعملون دون تصاريح خاصة وإحالتهم إلى القضاء العسكري، ونقل حملة التصاريح إلى مناطقهم في الضفة الغربية، بعد سحب البطاقات منهم، لمنعهم من العودة مرةً أخرى، كما يدعو يعالون إلى فرض حظر التجوال والحصار لفتراتٍ طويلةٍ على القرى والبلدات التي توصف بأنها خطيرة، ويشارك أبناؤها في فعاليات الانتفاضة.
وقد بدأ بالتعاون مع رئيس أركان جيشه أيزنكوت بتصنيف المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية إلى مستوياتٍ أمنيةٍ حسب خطورتها وكثافة العمليات العسكرية فيها، أو تلك التي ينطلق منها منفذو عمليات الطعن، على أن يُفرض حصارٌ مشدد على المناطق المصنفة بأنها خطرة، وأن يتم رفع عدد الوحدات العسكرية العاملة فيها، وبناءً عليه فقد تم إسناد جنوده في محافظة الخليل بلواء كاملٍ بكل تجهيزاته وقدراته، وهي المنطقة التي صنفها بالأكثر خطورةً، وبناءً على ذلك فقد سحب تراخيص أكثر من 1200 مواطنٍ فلسطيني من سكان الخليل، كانوا يتمتعون بتصاريح تخولهم التنقل عبر بعض الحواجز.
بهذا يكون موشيه يعالون قد نصب نفسه عدواً للانتفاضة، ومقاوماً لها، وساعياً لإخمادها والسيطرة عليها، وهو لا يرى وسيلةً مجديةً غير العنف لإنهائها، وعلى الرغم من كل القمع الذي تمارسه حكومته ضد الفلسطينيين، إلا أنه يوجه النقد لها ويتهمها بالتقصير والعجز، ويدعوها لممارسة المزيد من القوة ضد كل من يشارك في الانتفاضة، وإلا فهو يحذر من أنها قد تستمر لسنواتٍ طويلةٍ كالانتفاضات السابقة، وهذا أمرٌ يضر بأمن إسرائيل، ويعرض اقتصادها للتدهور، فضلاً عن أن استمرار العنف في المناطق سيؤدي إلى خلخلة سكانية كبيرة في البلاد نتيجة السفر الطويل الأمد والهجرة المعاكسة.
ومن المعروف عن موشيه يعالون عندما كان رئيساً لأركان جيش العدوان، أنه كان صاحب نظرية "كي الوعي"، وذلك باستخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين، لتحدث صدمةً نفسيةً وتغييراً داخلياً كبيراً في طريقة تفكيرهم، تجبرهم على التفكير في اتجاهاتٍ أخرى غير تلك التي كانت تسيطر عليهم، وهو اليوم في منصبه وزيراً للدفاع يدعو إلى استخدام القوة المفرطة وفق نفس النظرية، للوصول إلى الأهداف المرجوة، وإلا فإن جهود الحكومة سيكون محكوماً عليها بالفشل والعجز والتردد.
هذه هي طبيعة موشيه يعالون المتطلع إلى الأعلى، والطامح إلى المجد، والساعي إلى المركز الأكبر، والحالم بكرسي الملك وصولجان الحكم، وقد وجد ضالته في الانتفاضة الفلسطينية، إذ أنها بوابته الواسعة لكسب المزيد من المؤيدين، واستمالة المناصرين له، وهو يعلم أن الشارع الإسرائيلي اليومَ شارعٌ متطرفٌ متشددٌ، وأن الأفكار التي تسود فيه هي أفكار العنف والتطرف والعنصرية، ولهذا فقد التقط الراية ورفعها، ولم يتأخر في التصريح عن مواقفه وبيان سياسته، وهو في ذلك بين أملٍ في إنهاء الانتفاضة ووضعِ حدٍ لها، وغابةٍ أكبر في أن يكون له اسمٌ كبيرٌ وحضورٌ لافت، وكأنها بالنسبة له مرحلة دعايةٍ انتخابية، وفرصة مواتية لإظهار الأفكار وعرض المشاريع، وهو في هذا لا ينافق ولا يداهن، ولا يخدع ولا يتظاهر، إذ أنه يؤمن بهذه الأفكار ويدعو لها، وهو الذي ينفذها ويشرف عليها.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (68)
جيل الانتفاضة روحٌ جديدةٌ ونسيجٌ مختلفٌ
ظاهرة أبطال انتفاضة القدس الثالثة تسترعي الانتباه، وتثير الفضول، وتفرض نفسها على مراكز الدراسات ومؤسسات القرار، فقد باتت محل دراسة واهتمام العدو قبل الصديق، فالفلسطينيون والغربيون والإسرائيليون يدرسونها، والمستقلون المحايدون، والمؤيدون المنحازون، والأعداء والخصوم يحاولون فهمها، والكل أمامها مندهشٌ ومستغرب، وبعضهم مصدومٌ ومستنكر، لكنهم يجمعون على أنها ظاهرةٌ غريبةٌ نادرة، تستحق الدراسة والبحث، والتأمل والفهم، إذ فيها ما يوجب التوقف والتأني، والدراسة والتمحيص، أما الحكم عليها ظاهرياً، والتسرع في وصفها شكلياً، فإنه تعسفٌ وعجلةٌ، وظلمٌ وإساءة.
العدو الصهيوني بمختلف مؤسساته الأمنية والعسكرية والنفسية والاجتماعية والإعلامية، هو أكثر من عكف على دراسة مواصفات جيل الانتفاضة الثالثة، وعرف ما يميزهم عن غيرهم، وما الذي اختلف فيهم وعندهم عمن سبقهم حتى غدوا على هذا الشكل المريع المخيف، ذلك أنه الأكثر تضرراً من هذا الجيل، وقد ظن أنه قد رباه على عينه، وأنه قد أخلص تربيته، وأحسن توجيهه وتعليمه، إذ أنشأه على تعاليم أوسلو، وعلمه أسس هذه الاتفاقية التي أراد بها أن يستنيخ الفلسطينيين وأن يستنوق رجالهم، وأن ينهي روح المقاومة فيهم، ويرضيهم بواقعٍ يفرضه عليهم، ويقضي على كل ثورةٍ في نفوسهم كامنة، أو في مفاهيمهم باقية، وقد أشرف بنفسه على متابعة هذا الجيل، واستقدم حليفته الولايات المتحدة الأمريكية، التي جاءت بخبرائها وفنييها، وأساتذتها ومدربيها، لتكون أمينةً على هذا النشئ، لئلا ينحرف أو يضل، حتى بات الجنرال دايتون هو رمز المرحلة، وعنوان الجيل الذي سموه جيل دايتون.
خلص الإسرائيليون في دراستهم لظاهرة جيل الانتفاضة الجديد إلى أنهم يختلفون عن سواهم، فهم يتمتعون بروحٍ جهاديةٍ عاليةٍ، وعندهم ميول للمقاومة كبيرة، وهم على استعدادٍ عالي للتضحية، ولا يترددون في الإقدام على أي عملٍ أياً كان، وهم على يقينٍ بأنهم سيدفعون فيه بالمقابل حياتهم، وأنهم بعد تنفيذ خطتهم لن يكونوا في الغالب على قيد الحياة، وشواهدهم على ذلك كثيرة، إذ ما نجا من القتل على أيدي جنود الاحتلال ومستوطنيه أحدٌ ممن طعن أو قرر الطعن أو الدهس.
وتبين لهم قطعاً أن هذا الجيل جيلٌ شابٌ قويٌ، دون العشرين وحتى أواسطه، يقل عن ذلك ولا يزيد إلا قليلاً، وهو جيلٌ طموحٌ واثقٌ، مؤمنٌ متعلم، واعيٌ ومتدبر، لا يقدم على ما يقوم به يأساً أو قنوطاً، ولا ضيقاً أو إحباطاً، إنما يقبل على ما يقوم به وكله أملٌ وثقةٌ ويقين، واستبشارٌ وسعادة وفرح، تبدو عليه قبل تنفيذه لمخططه وهو يودع والديه، ويسلم على أصحابه، ويستودع ما أحب في حياته.
وهو جيلٌ جمع الجنسين معاً، فما كانوا ذكراناً متحمسين، وشباناً يتطلعون إلى الرفعة والمجد، أو إلى الشهرة والذكر، بل كان منهم إناثٌ لا يقلن عن الذكور حميةً وحماسةً، وجرأة وشجاعة، وهن فضلاً عن أنهم صغيرات السن، وما زلن في ربيع العمر الناهد، فهن جميلاتٌ مميزاتٌ، ورشيقاتٌ مائساتٌ، لا ينقص جمالهن قدٌ ولا خصرٌ، ولا انسياب شعرٍ أو طولُ هُدُب، ولا عذوبة لفظٍ ولا نعومة صوتٍ، بل كن جميعاً كإشراقة الشمس وبهاء القمر، وجاذبية النجوم اللامعة.
وكلاهما من الجنسين كانوا عزباً، لم يسبق لهم الزواج، ولم يتركوا خلفهم زوجةً ولا ولداً، ولم يقل أحدهم أني ما استمتعت في هذه الحياة بشئ، وما ذقت نعيمها بعد، ولم أدخل دنيا كما دخلها غيري، فآثر التأخر عن اللحاق بركب المقاومة رغبةً في نعيم الدنيا ومتعة الحياة فيها، بل على العكس من ذلك، إذ كانوا خفافاً وانطلقوا من بيوتهم غير متثاقلين إلى الأرض، وغير ناظرين إلى شئٍ غير حرية بلادهم، وطهارة أوطانهم، وراحة شعبهم من بعدهم، وما في قلوبهم غير الرضى، ولا شئ يتراءى أمام عيونهم غير الجنة ومن سبقهم إليها من الأنبياء والصديقين والشهداء.
وخلص الإسرائيليون في دراستهم إلى أن دوافع الفلسطينيين الذين نفذوا عملياتهم ضد أهدافٍ إسرائيليةٍ، كانت دوافعٌ قوميةٌ ودينيةٌ، وأنها كانت بقصد الثأر والانتقام منهم، لما ارتكبوه من جرائم واعتداءاتٍ في حق الفلسطينيين وأرضهم، ومسجدهم ومقدساتهم، وثأراً لشهداء آخرين قتلهم جيش الاحتلال، أي أنهم كانوا يعرفون ما يريدون، وكانوا يخططون لما يريدون.
ورأى الإسرائيليون أن المقاومين الفلسطينون لم يخرجوا من مدينةٍ واحدة، ولا ينتمون إلى مخيمٍ معينٍ أو بلدةٍ بعينها، بل هم مزيجٌ من كل المناطق الفلسطينية، وأخلاطٌ من كل المجتمع، بما يسقط نظرية الرفاهية التي تحاول الحكومة الاستظلال بها أو الاحتماء تحتها، فقد جاء منفذو عمليات الدهس والطعن من القدس ذات المكانة الدينية والوطنية، ومن رام الله ونابلس وبيت لحم، حيث يوصف أهلها ببعض الرخاء وبالكثير من الرفاهية بالمقارنة مع غيرهم من سكان المناطق، وإن كان أكثر المقاومين كانوا من محافظة الخليل، التي بدت وكأنها خزان الانتفاضة الكبير، ومعينها المتجدد الذي لا ينضب.
غضب الإسرائيليون من خلاصتهم التي خرجوا بها، وانزعجوا من دراستهم التي كانت هذه نتائجها، وقلقوا على أنفسهم جداً عندما علموا أن هذه هي خواتيمها، وأن هؤلاء هم رجالها ونساؤها، وأنهم روحٌ جديدةٌ تسري، ونسيجٌ مختلف لا يشبه إلا نفسه، ونورٌ من بين ظلامهم ينبعث، وضياءٌ من وسط ليلهم يشتعل، وصبحٌ بعد طول ليلهم ينبلج، وبيده ينسج خيوط نصره، ويرسم معالم غده.
لا شك أنهم عن غيرهم مختلفون، وعن سواهم متميزون، ومن بين أقرانهم يعرفون، وعلى الجميع يتقدمون، وقبل الكل يذكرون، يتقدمون الصفوف، ويقودون المسيرة، ويحدون الركب، ويرفعون الراية، ويهبون للنداء، ويسرعون للواجب، ويستجيبون للحق، بهم نفخر ونزهو، ومعهم نطمئن وإليهم نركن، وفيهم نثق وعليهم نعتمد، فهم شامةٌ وعلامةٌ، وميزةٌ وخاصية، وطفرةٌ وثورةٌ، وهم لا يشبهون سواهم ممن سبقهم سوى في انتمائهم لفلسطين وحبهم لها، واستعدادهم وجاهزيتهم للتضحية في سبيلها، والدفاع عنها بأقصى ما يستطيعون، وأنفس ما يملكون، فهم امتدادٌ لشعبٍ، ولفرعٌ لأصلٍ، يحملون الإيمان، ويعملون بإخلاص، ويقدمون بتجردٍ، ولا ينتظرون من غير الحق ثواباً، ومن غير شعبهم وأمتهم تقديراً ووفاءً.
الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (69)
الإسرائيليون يتذمرون والشرطة تشكو حكومتها
يعتقد قطاعٌ كبيرٌ من الإسرائيليين أنهم يتعرضون إلى غزوةٍ فلسطينيةٍ منظمةٍ ومستمرة، وأن الفلسطينيين يهاجمونهم في بلداتهم، ويقتحمون عليهم مناطق سكناهم، ويقاتلونهم في "عقر بيوتهم"، وأنهم يذهبون إليهم ويبحثون عنهم، ويقومون بمهاجمتهم في أماكن يفترض أنها آمنة، وأنها تتمتع بحماية ورعاية جيش الدولة وجهاز شرطتها، ولكن صافرات الإنذار التي يكرهون سماع صوتها باتت تمزق صمتهم، وترعب أهلهم، وتطلق من حينٍ لآخرَ، بناءً على شهادة مستوطن أو شكوى جندي بوجود فلسطينيٍ يحمل سكيناً، أو يقود سيارةً مشبوهةً، أو يتجول في شوارع المدينة ويبدو عليه أمارات غريبة.
يكتب مدونٌ إسرائيليٌ أن نشطاء فلسطينيون يهاجمون ضحاياهم ويطعنونهم في محطات الحافلات في وسط المدن والبلدات، وفي المحطات المركزية التي تتمتع بالحماية، وتخضع للرقابة والتصوير، وفيها بواباتٌ كهربائية، ومعابر إليكترونية، وهم يدخلون إلى المستوطنات الحصينة، والبلدات المحمية، ذات الأسيجة والأسوار العالية والأسلاك الشائكة، ويدخلون إلى المصانع والمعامل والمقاهي والمطاعم، ويصلون إلى كل مكانٍ يظنه الإسرائيليون آمناً، إذ دخلوا كنيساً يهودياً وهاجموا المصلين، واختلطوا مع الجنود وسلبوهم سلاحهم، ودخلوا الأسواق المركزية وهاجموا المتسوقين والمتجولين، إنهم ينجحون في الوصول إلى أي مكانٍ يريدونه، رغم ادعاءات الحماية والحراسة والمراقبة وعمليات التفتيش والتدقيق، لكنهم دوماً ينجحون في شطب صفة الأمان المفترضة عن الأماكن التي يقتحمونها، ويستبدلونها بصفة الخوف والرعب التي باتت في كثيرٍ من الأماكن معهودة.
ويبدي الإسرائيليون قلقهم الشديد من أن أغلب عمليات الطعن والدهس تتم في مدنٍ كبيرة، كالقدس وتل أبيب وأسدود وحولون والخضيرة والعفولة والنقب وكريات جات، وعلى أبواب المستوطنات الخصينة كعتصيون وإيتمار وبيت إيل وكريات ملاخي، وهي مدن ومستوطنات بالنسبة للإسرائيليين نقية وغير مختلطة، ولا وجود فيها لفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي تخضع لكل أشكال الحماية والمراقبة، ومع ذلك فقد تكررت العمليات الأمنية فيها، ووصل الفلسطينيون إليها، ونجحوا في تنفيذ ما يريدون رغم الحامية التي يتبجح بها المسؤولون ويقولون عنها أنها كافية وحصينة.
يعترف الإسرائيليون أن الفلسطينيين شجعانٌ ومغامرون، إذ يستطيعون الوصول إلى كل هذه الأماكن التي تتمتع بكل أشكال الحراسة، وبعضهم يظن أن "الجن" يساعدونهم في الوصول، أو أن عندهم قبعات الإخفاء التي بواسطتها لا يستطيع أن يراهم أو يحس بهم أحد، وإلا كيف يصلون إلى الأماكن التي يريدون، وهم يختلفون عن المستوطنين الإسرائيليين في ملبسهم وشكلهم، ولسانهم ولونهم، فضلاً عن الفتيات المحجبات اللاتي يدل لباسهن على أنهن عربٌ ومسلماتٌ، ويتواجدن في أماكن ومراكز لا ينبغي أن يَكن هن وغيرهن فيه، ولكن السؤال المنطقي الذي يتبادر إلى الذهن فوراً، هو كيف وصل النشطاء الفلسطينيون إلى هذا المكان، وليس لماذا هم هنا في هذا المكان أو في غيره، لأن الإجابة على السؤال الثاني معروفة يقيناً، إنهم هنا لمهاجمة الجنود والمستوطنين وطعنهم أو دهسهم.
أما جهاز الشرطة ورجاله، فإن الخلاف قد دب بينهم، والمشاكل قد كثرت عندهم، فقد قدم أكثر من مسؤولٍ في جهاز الشرطة استقالته، طالباً إعفاءه من العمل، بعد عن عجز عن توفير الحماية وضمان السلامة للمستوطنين في منطقته، وبات بعضهم أحياناً عاجزاً عن تحقيق الأمن لنفسه وأفراد أسرته، وقد ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن ضابطاً في الأمن الداخلي، من المولجين حماية السكان، قد قتلت شقيقته طعناً بسكين فلسطين، قد أتبعها نفسه منتحراً، بعد أن بدا لعدة أيامٍ كئيباً ومنعزلاً، وغيره كثير ممن تعلن الدوائر الرسمية عن وفاتهم في حوادث طرقٍ، أو نتيجة أمراضٍ مستعصية، وغير ذلك من الأسباب التي تخفي وراءها الآثار النفسية للانتفاضة على المواطنين الإسرائيليين.
وهذا قائد شرطة الخليل يسرائيل تال يقول بعد مضي شهر واحد على الانتفاضة "لم نذق طعم النوم منذ شهرٍ تقريباً بسبب العمليات في هذه المدينة المستحيلة، ولا أدري إن كان يوجد تهدئة في الأفق"، ولكن شكوى هذا الضابط لم تعد شكوى خاصة أو حالةً فردية، وليست فقط بسبب ودوده في مدينة الخليل التي لا تهدأ ولا تنام، ولا تكف عن الثورة ولا عن عمليات القنص والطعن والدهس، وابتعاث رجالها وأبنائها إلى كل مكان، بل بات قطاعٌ كبير من العاملين في جهاز الشرطة يشكون مثله، ويسألون حكومة كيانهم عن المرحلة القادمة، وخاتمة الأحداث، والتصور الذي تراه الحكومة للخروج من هذا المأزق التي وضعت فيها نفسها وشعبها نتيجة سياستها الحمقاء وقراراتها الخرقاء.
الشرطة الإسرائيلية وضباطٌ كبار متقاعدون من السلك العسكري والأمني، يراهنون على أن الخروج من هذا المأزق وتجاوز الأزمة، ليس باستخدام القوة فقط، وليس عن طريق العنف، فالحل ليس في الأوامر الصادرة عن رئيس الحكومة أو رئاسة الأركان، أو دعوات قادة الأحزاب اليمينية والتكتلات القومية، فكلهم يسمح باستخدام القوة، ويعطي حملة البنادق تصاريح مفتوحة باستخدامها وإطلاق النار، ولو أدت إلى القتل أو الإصابة، ويعتقدون أن القتل يسكت الفلسطينيين ويخرسهم، أو ينقص عددهم ويخفض صوتهم.
هذه ليست هي الطريقة المثلى للحل، ولا هي السبيل الأنسب للنجاة، إنها كمن ساخت أقدامه في الوحل أو الرمال، فكلما حاول الخروج من مستنقع الوحل أو حقل الرمال، ساخت أقدامه أكثر، وغرق أكثر، وكذا هو المنهج العسكري المتبع، الذي يقوم على العنف وحده، ويتجنب الحلول السياسية والقرارات العقلانية، التي من شأن غيابها أن تزيد في دوامة العنف، وتعقد الحل، وتجعل الحياة بعد ذلك في البلاد مستحيلة.
لا شك أن الانتفاضة الفلسطينية قد أدخلت الإسرائيليين في دوامةٍ صعبة، وفرضت عليهم مفرداتٍ جديدة، وأجبرتهم على التفكير في اتجاهاتٍ أخرى، وهي تحمل كل يومٍ جديداً مفاجئاً، وتخلق تفاعلاتٍ غير متوقعة، تدفعهم للسؤال عن المصير والمآل، والمستقبل والخاتمة، وعن نتيجة عنفهم الأعمى وقسوتهم المفرطة، وتلهم الذي لا ينتهي، وظلمهم الذي لا يتوقف.
وسوم: العدد 647