في أحسن تقويم
لك الله يا فضيل بن عياض ما كان أعظم اداءك لرسالة العلم, حين وقف الرشيد, وهو سيد الأرض, بين يديك ينشدك الموعظة. فقلت له: يا حسن الوجه, انت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة, فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل, وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك, فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من أصبح لهم غاشّاً لم يرح رائحة الجنة.
لك الله يا فضيل بن عياض حين بكى الرشيد بين يديك وسألك, بعد هذه العِظة: عليك دين؟ فقلت: نعم لربي لم يحاسبني عليه, فالويل لي إن سألني, والويل لي إن ناقشني, والويل لي إن لم يلهمني حُجتي..
ولما قال الرشيد: انما أعني دين العباد, قلت: إن ربي لم يأمرني بهذا, أمرني أن اصدّق وعده وأطيع أمره فقال تعالى: «وما خلقت الجن والأنس الا ليعبدون» وقال: «ما اريد منهم من رزق وما اريد أن يطعمون» وقال: «إن الله هو الرزّاق ذو القوة المتين
ولما مد الرشيد اليك يده بالمال قائلا: «هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقوّ بها على عبادة ربك» قلت: «سبحان اللهّ أنا ادلّك على سبيل النجاة, وتكلّفي بمثل هذا, سلّمك الله ووفقك».
لك الله يا فضيل بن عياض إذ لذت بصمتك البليغ بعد هذه المحاورة. وإذ نهض الرشيد وهو يقول فيك: «ان هذا هو سيد المسلمين اليوم».
لك الله يا فضيل بن عياض, فإنك لتصدر مع «محمد بن كعب القرظي» من مشكاة واحدة, حين طلب اليه «عمر بن عبدالعزيز» أن يشير عليه, فقال: «إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فليكن كبير المسلمين لك أباً, وأوسطهم عندك أخاً, وأصغرهم عندك ولداً, فبرّ اباك, وارحم أخاك وتحنّن على ولدك».
لك الله يا فضيل بن عياض من عالِم لا يرفع حوائجه الا إلى الله تعالى, ولا يمدّ يده لنوال أحد من خلقه ولا يتورّع ان يقول لسلطان زمانه: «انما انت سوق, فما نفق عندك حمل اليك من خير أو شر, فاختر لنفسك ايهما شئت».
لك الله يا فضيل بن عياض من أنموذج لا نكاد نجده اليوم الا في كبد ورهق وعنت, والا في عزلة يتهيب قرباه الناس, ويرون اليه برهاناً كاشفاً لما يمور فيه بعضهم ببعض من فساد, ومن منكرات لا يتناهون عن اتيانها في الملأ, وفي صدور النوادي, وحيثما أمكن لهم ذلك.
لك الله يا فضيل بن عياض. فقد كنت دليلاً على إمكان الاحسان في الانسان, وعلى أن من يجاهد نفسه ليكون في «أحسن تقويم» أو لامتلاك لحظة تكوينه الاولى, فهو بمفازة من أوضار هذه السوق التي يصطرخ فيها الخلق غالبهم ومغلوبهم, وفيها يلعبون.
وسوم: العدد 647