نعم للحرية لا لقبول المختلف
فيما تتولى أسلحة العالم بشقيه الشرقي والغربي قتل السوري وتدمير دولته وحضارته...مازال الفضاء السياسي والفكري أمواجا متلاطمة و تراشقات مؤذية، في تجاوب غث مع حجم المأساة.
والغث في العمل الفكري والسياسي ليس الاختلاف في الرؤى والطموحات والآليات، إنما هو الاختلاف الفاضح في إدارة الاختلاف.
الحقيقة الغائبة عنا هي أن الأمور ماكانت لِتصقَل لولا التحديات، ولا كان الإنسان مطورا قدراته في أجواء الرتابة و في غياب الحد الأدنى من التوتر أو الإثارة أو بروز الحاجات.
في هذا السياق تكون أجواء الاختلاف بيئة خصبة للصقل والتحسين، مناسبة لتنمية ماهو إنساني فينا، مع أننا نرى فيها السبب في حدوث الفرقة و وقوع الضرر بعلاقاتنا الإنسانية، وهو تصنيف المنظار الضيق، الأجدى هو الخروج من محدودية هذه النظرة، والتعامل مع الاختلاف كفضاء مناسب للتحدي، أو كمختبر حافل بالأفكار والرؤى ينتج عنه فرز محايد: إما كيانات ضعيفة هزيلة اختارت الإبقاء على صفاتها الإنسانية في حدودها الدنيا، وإما شخصيات قوية ثابتة حثها التحدي على تعديل سلوكياتها، وقطع أشواط من المجاهدة وصولا إلى النضج السلوكي والرقي الفكري.
الصنف الثاني هو القادر على بناء المجتمعات وتطويرها بعد أن يخوض عمليات غربلة ودفع لاتتم عادة في الأجواء الرائقة الراكدة.
والمراهنات في عمليات التغيير الثقافي والتطويرالمجتمعي تكون على الإنسان القوي الفاعل، لذلك كان تكثيف الجهود على صقل وتهذيب هذا الإنسان في كل جوانبه خطوة على المسار السليم.
لأن المستوى المعرفي والأخلاقي للبشر ينعكس على محيطهم بشكل جلي فهم الفاعل الأساس، وهم المسؤولون عن حال هذا العالم وعن مدى التناسق أو التنافر في تداخلات دوائره.
من التحديات التي تلازم الفرد طوال حياته هي مثابرته على تطوير نفسه، وعليه فقد كان من الضروري تواجده في وسط يكون فيه عنصرا مختلفا عن البقية الذين هم أيضا مختلفون بعضهم عن بعض، وسينشأ عن اختلافهم هذا حتما وضرورة اختلاف في نظراتهم للأمور و أحكامهم على القضايا.
في هذا الوسط الحافل بالمختلفين سيكون أقدر على تحفيز نقاط القوة الموجودة لديه أصلا ليجعلها في مستوى أفضل إلّا أنه قد يرسب في هذا، وها نحن نلملم الكثير من الجثث التي تتهاوى كل يوم في فضاء الاختلاف، هي جثث لمن كانوا يظنون أنهم على مستوى عال من الاتزان والرقي، وممن كانوا يهنؤون أنفسهم معتقدين أنهم قد اجتازوا العقبة وبلغوا قمة نضجهم!
في أجواء الاختلاف سيظهر مدى تقبلنا لإرادة الله في أن يكون الناس أحرارا مكرمين يحق لهم النظر من الزاوية التي أمكنهم الوصول إليها، كما يحق لهم حمل مايشاؤون من أفكار.
الإقرار لهم بذلك الحق فضيلة، وإنكاره عليهم اعتراض غير مقصود على المشيئة الإلهية، وهذا محك إيماني خطير لايُلتَفت إليه!
في أجواء الاختلاف نستطيع تقييم مستوانا الحقيقي فكريا ومعرفيا وسلوكيا، فهنا البيئة الأكثر مصداقية إن أردنا أن نعطي أنفسنا الدرجة الفعلية التي نستحق، فإما أن نبذل الجهد لبلوغ حدودنا القصوى واللحاق بالسابقين أو أن نستسلم ونستكين ونرفع راية اليأس والقنوط ونعلن عن هزيمة يتبعها انتحار على الصعيد التفاعلي.
فقط في أجواء الاختلاف سنتتمكن من التعرف على ما يميزنا عن الآخرين، و في تلك الحلبة سنعثر على بَصمتنا التي يحتاجها المجتمع لسد ثغرة، أمّا الأسهل المميت فهو دوراننا في دوامة التماثل التي تجذبنا فتجمد إراداتنا بينما التطور والنجاح لن يكون إلا في التكامل والتمايز الناشىء عن إرادة حرة قوية.
في أجواء الاختلاف ستتعلم كيف تكبح تلك الأنا الجموحة التي تتوق دوما لتسلق أسوار الآخرين و تجاهلهم وتجاوزهم، وستستبين الحدود العلمية التي يقع عليك واجب الالتزام بها كي لاتطغى وكي تعمل مع الفريق في تناسق يسير نحو الهدف بقوة وثبات.
عند الاختلاف امتحان صعب يُمرِّن نوازع الذات على تجاوز الأشخاص، وتناول الأفكار لبحثها ومناقشتها بتجرد، و تفنيدها أو قبولها، ثم الإقرار للأصلح منها استجابة للحق حتى إن تعارض هذا مع مشاعر نحملها لأصحابها، فننتصر بذلك لقيمة العدل العظيمة.
يظل الحديث عن "الخلق العظيم" قضية نظرية ولاتظهر كحقيقة واقعية ساطعة إلّا في بيئة الاختلاف، حيث مجالات امتحان الصبر، و التمسك بالأدب و التهذيب، والثبات على مبدأ احترام الإنسان المُكَرَّم في كل أحواله، والتحلي بالرفق واللين...إن هذه الصفات وغيرها لاتكتسب مصداقية ولايتأكد لها معنى إلا حين تربو في مجال ممتلىء بأضدادها؟!
مع الاختلاف يتولد فضاء واسع من الخيارات أمام الناس، وتكثر الأسئلة وتتباين الأجوبة فتتكاثر تفرعات الدماغ وينمو العقل ويتحقق الثراء في البدائل وقد قال عمر بن عبد العزيز "ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدًا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يُقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة ".
لكن قضية الاختلاف مازالت ضبابية في أذهاننا، ومازال تقبل المختلف مشروطا في يقيننا على الرغم من الآيات الصارخة التي تُقِرُّه حكما إلها كونيا:" لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".
حين نستحضر كل هذه التحديات لن نقف حائرين أمام "ولذلك خلقهم" ولن نتردد في أن نقول "نعم" لمن يتساءل هل الاختلاف غاية من غايات خلقنا! وقف كثيرون عندها بارتباك وكان يكفي أن نبحث في بيئة الاختلاف وما تحققه للفرد والمجتمع، وكان المطلوب أن نتعمّق في هذه البيئة لكي نكتشف مالذي يحدث فيها، أو مالذي تحدثه فينا من شحذ للهمم وتطوير للقدرات واستنهاض للفاعلية والأكثر من هذا وذاك قضية تسليمنا لإرادة الله في أن يخلقنا للاختلاف فنجتهد في إيجاد سبل التعامل مع هذا الاختلاف..
من يرى في الحياة امتحانا للبشرية، فإن في الاختلاف بيئة لا تشذ عن ذلك النسق الامتحاني، إنما هو مشهد متناسق مكمِّل من مشاهد امتحاننا كي نرتقي بإنسانيتنا ونحسن إليها.
ومن هذا الرحم تتولد رحمة الله "إلا من رحم ربك" التي ستظلنا حين نتعامل مع الاختلاف بطريقة علمية إيجابية تمكننا من لملمة عثراتنا وتقوينا وتشكل لنا ساحة لاكتشاف القوانين التي ستحكم اختلافنا وتنظمه وتجعله عنصر قوة لا سبب فرقة وعداوة.
حضاريا، أن نخلق للاختلاف تعني أن نخلق في بيئة صحية محفزة، دافعة للتطور، محركة للفاعلية، مشرعة على الاستكشاف، فاتحة للآفاق.
وبعد قرون طويلة من التآلف مع كتاب الله كان يجدر بقضية إنسانية أساسية كهذه أن تنال حيزا واسعا من اهتماماتنا، وكان يجدر بالأمة أن تتجاوز مرحلة التردد انتقالا إلى مرحلة التأسيس لثقافة التعامل مع المختلف، كي يتم التحول بهذه الآيات من الترتيل اللفظي إلى حلبة الحياة، ندخلها المعامل العلمية ونجري عليها التجارب والأبحاث ونبدأ بإيجاد آليات لخلق فضاء فكري يسوده الرشد والسمو والأخذ والعطاء بعيدا عن أسلوب الصرعة القاضية.
كل توجيه يرمي للنهوض بالإنسان يدله على طرق محفوفة بالاختلاف، ويشير عليه أن يخوضها متسلحا بالذكاء والفطنة والتأمل والتفكر لا العداء والتصارع..
فالقراءة أمر بالاطلاع على المختلف وفي ذلك كما قالوا إضافة عقول كثيرة إلى عقلك، والأسفار والسير في الأرض أمور غايتها الاطلاع على الثقافات المغايرة، والبيئات المختلفة، والفكر الآخر، والعقائد السائدة..
أولئك القوم الذين أدركوا قيمة الاختلاف وتيقنوا من حاجتهم للمختلف نظموا ما أسموه العصف الذهني لكي يتسنى لهم اختيار الأفضل الذي ترتفع أفضليته كلما ازداد الاختلاف في المجموعة.
ونحن مادمنا لم نصل لمرحلة اعتبار الاختلاف من دواعي تكثيف الجهود للوفاق، وما دمنا لم نستثمر بيئة الاختلاف ولم نوليها الأهمية اللازمة كي تصير أرضا خصبة تنبت لنا تنوعا خلاقا وثراء حضاريا وعلاقات إنسانية أكثر متانة وتكاملا واحتراما، فلا يعني هذا إلا أننا سنظل ندور في أسلوب فاشل ألفناه..أسلوب تحويل كل ما من شأنه أن يكون عنصر قوة إلى أداة ضعف و وسيلة نكوص، كي نظل نراوح في أدنى مراحل إنسانيتنا..
ومن الطبيعي أن يفرز لنا هذا الواقع المغلوط سياسيين تسأل بعضهم عن أبرز غايات الثورة فيجيبك بلا تردد:الحرية والعدالة والديمقراطية، إلا أنه غير قادر على أن يتقبل الآخر المخالف، مع علمه أن هذا المخالف هو ابن هذا الوطن وله أن يتمتع بحرية رأيه ومعتقده!
وسوم: العدد 647