العبادي بعد التحسين
من استمع لأول مرة لحديث حيدر العبادي أمام مجلس النواب في جلسته التي عقدها وأعلن العبادي فيها تمسكه بمشاركة مليشيا الحشد الشعبي في معركة الموصل، وأن أحدا لن يتجرأ على أن يطلب منه طلبا كهذا بما في ذلك الولايات المتحدة، لا بد أن تأخذه رعشة ورهبة لأنه يقف بمواجهة واحد من أكثر قادة العالم صلابة وقوة، وحينها ستتلاشى أمام اسمه معظم أسماء القادة العظام عبر كل الحقب التاريخية والذين وقفوا بوجه الأعاصير التي عصفت ببلدانهم وكادت أن تقتلعها من الجذور، ولكنهم في نهاية المطاف أوصلوها إلى الشواطئ الآمنة وأقاموا فيها صروحا وشواهد خالدة أبد الدهر، ولكن العراقي العارف بالغاطس من الطافي في سلوك حكامه منذ فجر السلالات وحتى اليوم والمدقق في سلوكهم والباحث عن أسرارهم وخفاياهم، لم يصدق أذنيه وهو يستمع إلى هذا الحاكم الجبار الذي ألقت به أمواج البحر على شواطئ العراق، وربما تعامل مع ما سمع على أنه غثاء سيل من دون زيادة أو نقصان.
من كان مطّلعا على تفاصيل حياة هذا الشخص الفاشل سواء في مرحلة وجوده في حزب الدعوة أثناء "المعارضة" والأوصاف التي أطلقها عليه مسؤوله الحزبي قبل 2003، بأنه غبي جدا "وهو يعرف صاحب الوصف" ولسنا مضطرين لذكره لأنه قالها على الفضاء المفتوح في تسجيل يتكرر عرضه بين آونة وأخرى، أو بعد الاحتلال وتسلمه ثلاثة مناصب قيادية ليس في حزب الدعوة فقط وإنما في العملية السياسية بحكم رتبته الحزبية، سيخرج بانطباع أولي بأنه لا يصلح لشيء أبدا وأن صلاحيته منتهية منذ زمن بعيد، من يعرف هذه الحقائق، لا بد أن يمتلئ دهشة من هذه الثقة الفجائية بالنفس التي هبطت على العبادي.
حيدر العبادي خضع لإعادة تأهيل وتحسين من حزبه فتسلم ثلاثة مناصب، كان أولها منصب وزير الاتصالات، ومن الحق أن نقول إن هذا المنصب ينسجم مع الشهادة التي يقال إن العبادي قد حصل عليها من إنكلترة، على خلاف مع ما يشاع عن مهنة احترفها أثناء وجوده هناك، وما رافق ذلك المنصب من "تقولات" عن عمولات تقاضاها عن عقود شبكات التلفون المحمول في العراق.
وثاني المواقع التي شغلها العبادي هو ترأسه للجنة الشؤون المالية في مجلس النواب في زمن "الفرهود" الذي اجتاح العراق خلال ثماني سنوات من حكم نوري المالكي، لم يعرف العراق مثيلا لهدر أموال البلد، حتى قال سنان الشبيبي محافظ البنك المركزي الذي عزله المالكي من منصبه لأنه تصدى وإن كان على استحياء لسياسات المالكي الغارقة في الفساد، "إن نوري المالكي سحب من البنك المركزي أموالا تفوق كل ما تم سحبه من البنك، من قبل حكام العراق السابقين منذ قيام الدولة العراقية عام 1921 وحتى آخر يوم من وجوده في الحكم" فماذا كان دور اللجنة المالية في مجلس النواب؟ وما هو شأن مهندس في القضايا المالية كي يصبح رئيسا للجنة المالية في السلطة التشريعية؟ هل هذا هو فهم أطراف العملية السياسية لحكومة التكنوقراط؟ وهل أعطت هذه اللجنة ملاحظة واحدة عن حقيقة الهدر الخطير لأموال الدولة على يد العابثين؟ وهل سيستمر صمت رئيس اللجنة المالية السابق ورئيس الوزراء الحالي ويترك اللصوص يتمتعون بما سرقوه من أموال العراق استنادا إلى أخلاقيات العملية السياسية التي تفرض تبادل المنافع عبر منطق الصمت المتقابل؟
وآخر منصب شغله العبادي وهو أكبر من أي حلم ليلة باردة مرّ عليه، وآخر ما كان يتوقعه لنفسه حتى في أيام المراهقة حيث تتضخم الأحلام كثيرا، هو منصب رئيس الوزراء، وظن الكثيرون أنه وبعد أن أصبحت قدرات الدولة العراقية المالية والسياسية والعسكرية تحت تصرفه ورهن إشارته، سيستعيد شيئا من الثقة المفقودة بالنفس ويحمل سيفا من حديد للمضي في طريق الإصلاح السياسي والمالي وتطهير جهاز الدولة من الفاسدين والحد من دور الأحزاب والمليشيات في العبث بمقدرات العراقيين، ابتداء من رموز العملية السياسية الذين وضعوا بأنفسهم حجر الأساس الأول للفساد في العراق وتم افتتاح مشروعه الكامل بعد أن بدأت المداخيل النفطية تتدفق على العراق عام 2004، فتسرب مبلغ يزيد على 800 مليار دولار في مسالك الفساد، ووصل البلد إلى هاوية الإفلاس الكامل وبدلا من بذل الجهد محليا وخارجيا لتعقب حركة الأموال المهربة من قبل زمرة الفاسدين في الحقبة "المالكية" وخاصة إلى إيران، نرى "حلف الفسوق" يقطع الطريق على كل جهد يسعى إلى ملاحقة الفساد ورموزه وخاصة أولئك المؤسسين له، ويذهب إلى إدخال الاقتصاد العراقي في غرفة الإنعاش عن طريق السطو على أموال الموظفين والمتقاعدين بدلا من استرداد المسروقات التي تبني عراقا جديدا وآخر مثله.
حديث العبادي عن عدم خضوعه لأي ضغط خارجي بشأن مشاركة الحشد الشعبي في معركة الموصل من عدمها، هو قميص جديد يريد تقديمه في عرض أزياء سياسي فارغ من أي محتوى حقيقي، وهو الدليل القاطع على أنه خضع لضغط خارجي في اللحظة التي كان ينفي فيها ذلك، فقد تعرض لضغط إيراني مباشر، لأن لإيران أهدافها المؤشرة بالانتقام من كل مدينة عراقية كان لها سجلها في حرب الثماني سنوات، فالموصل مدينة خرجت آلاف الضباط والطيارين الذين كانت لهم بصماتهم المشرّفة في هزيمة إيران وتجرع الخميني كأس السم، ولأن إيران تظن أنها لم تستوف حتى الآن درجة الانتقام الكاملة من الموصل خاصة، لذلك طالب قادة المليشيات الملحقة بالحرس الثوري مثل بدر والعصائب وحزب الله العراقي، وبإلحاح لافت ومثير لكثير من علامات الاستفهام بمشاركة مليشياتهم في المعركة.
يضاف إلى عامل الانتقام الإيراني عامل آخر يتعلق بموضوع التمويل، فإيران لم تعد قادرة على تحمّل هذا القدر من الاستنزاف المادي والبشري في الخارج وخاصة مع تعدد جبهات التورط الإيراني في أكثر من ساحة عربية ودولية نتيجة حماقة دولة الولي الفقيه وإغراقها في وهم التوسع وغرور القوة الذي وصلت إيران نتيجة ضعف الرد العربي عليها وعلى تدخلاتها الشائنة في الملفات العربية من دون استثناء، وكذلك حالة الإفلاس التي يمر بها العراق بحيث لا تستطيع هذه المليشيات الوصول إلى خزانة حكومية ممتلئة، ولهذا يمموا وجوههم نحو الممتلكات الخاصة وما أكثرها في الموصل.
كم تمنى بعض المراقبين أن يكون العبادي قد امتلك كل خصال الإرادة السياسية وقوة الشخصية التي تظاهر بها أمام مجلس النواب، ولكن جردا سريعا بالخطوات التي أعلن اتخاذها على طريق الإصلاح وحنث بها لإنعام إرادته تؤكد أنه جاء منتفخا كبالون سرعان ما ينفجر بوخزة إبرة وما أكثرها.
وسوم: العدد 656