دبلوماسية سورية وابنة أبرز وزير إعلام في عهد حافظ الأسد تروي قصة انشقاقها
دبلوماسية سورية وابنة أبرز وزير إعلام في عهد حافظ الأسد تروي قصة انشقاقها: كنت شاهدة على مجزرتين
لم تسمع بما حدث في «تل الزعتر» إلا في العام 2000... وترفض التعامل معها كعلوية
باريس ـ «القدس العربي»: تربّت الدبلوماسية السورية لمى أحمد اسكندر (مواليد دمشق 78) في بيت تتصدرّه صورة حافظ الأسد، كيف لا وهي ابنة وزير الإعلام الأشهر في حقبة آل الأسد، أحمد اسكندر أحمد. لذلك ربما جاء انشقاقها عن النظام عصيّاً على التصديق. كيف، وهي الدبلوماسية، المكلّفة حديثاً بوظيفة قنصل في إسلام آباد، العلوية، ابنة الوزير الذي يقال إنه صانع أسطورة حافظ الأسد في مخيلة السوريين.
إلا أنها أرادت أن تجعل من كل ذلك جزءاً من رسالتها عند الانشقاق، الذي جاء في حزيران/يونيو 2013، بعد شهور من التحضير مع «الجيش الحر».
إنها ترى في حالتها نموذجاً عن كثير من المؤيدين الذين لا يعرفون حقيقة ما يجري. تقول لـ «القدس العربي» «تخيل أنني لم أسمع بما حدث في تل الزعتر إلا في العام 2000، وكانت تلك صدمتي الأولى».
وهنا تفسر اسكندر المناخ الذي تربّت فيه «كان والدي وزيراً للإعلام لعشر سنوات (من 1973 وحتى 1983)، وكانت صورة حافظ الأسد فوق رؤوسنا، وليس من السهل تخيّل أن يكون قدوتك مجرماً».
أول السؤال كان في الجامعة، حيث درستْ في كلية الاقتصاد، «حيث كانت ندوة الثلاثاء الاقتصادي، وكان عارف دليلة، الأستاذ الذي أشعل ضوءاً في عقل كل طالب»، كما تقول اسكندر، وتضيف «هناك، في حوارات الجامعة، قيل لي إنك تدافعين عن مجرم، وحينها ذكر أمامي تل الزعتر. عدت إلى أرشيف أبي. الرجل الذي أثق به، والذي كانت صورته معلّقة في صالون البيت على الدوام، وفي واحدة من مقالاته وجدته يقول إنهم كانوا على خطأ في تل الزعتر».
«بعدها، عندما عملت في وزارة الخارجية، عرفت أكثر معنى هذا النظام، حيث تجد أن الإضرار ممنهج، وتجد نفسك أمام خيارين، إمّا أن تعمل مع المافيات أو أن تنزوي بعيداً».
هكذا تروي اسكندر حكايتها، وصولاً إلى بدايات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا. حينذاك، تقول اسكندر، «قررتُ، في قلب مملكة الصمت تلك، أنه إذا بدأ الحراك سأكون من ضمنه».
استقالتها من عملها «كانت دائماً مطروحة، لكن الأمر مخيف، فالمرء معرّض للملاحقة»، والعيون مفتوحة على أمثالها.
«كنت أسكن في ضاحية يوسف العظمة، كان عليّ أن أمر بسيارتي يومياً عبر مفرقيْ داريا ومعضمية. لا أبالغ إن قلت إنه كان هناك كل يوم كان هناك جثة جديدة، ولم يكن بالوسع إلا أن ندير عجلات سياراتنا مبتعدين». تقول اسكندر، وتضيف «من بيتي في تلك الضاحية كنت شاهدة على مجزرتين، مجزرة جديدة الفضل، ومجزرة جديدة عرطوز (آب 2012). نعم، لقد شهدنا وكان الدم طرياً على الأرض».
تغرق لمى قليلاً في الصمت، تعتذر عن بكائها، ثم تستأنف «كنا نسكن في ضاحية الشبيحة، قريباً من بيتنا كانت تجثم راجمة صواريخ، وكنا مذعورين وأبوابنا مغلقة. في مجزرة جديدة الفضل بقينا نسمع الرصاص لأربعة أيام، سمعنا كل شيء، أصوات الناس، ثم كيف جمعوا الجثث وأحرقوها. لقد شممنا روائح احتراقهم…».
«على المرء أن يكون وحشاً كي يقدر أن يستمر مع النظام»، تقول السيدة، بعبارة أرادتها حاسمة هذه المرة، كما لو أنها قرار.
الرسالة
في شهر آذار/مارس من العام 2013 ستعثر لمى اسكندر على صفحة في «فيسبوك» تخاطب الذين مع الثورة من الدبلوماسيين، فترسل إليهم، ومن هناك سيبدأ الترتيب لخروجها. هي التي لا تلوي على جواز سفر، ولا يمكنها التحرك إلا بإذن من وظيفتها.
تقول اسكندر «أخيراً تم الاتفاق مع «الجيش الحر» أن أخرج في الخامس من حزيران/يونيو من ذلك العام، وكان الترتيب أن أصل إلى ألمانيا خلال أربع وعشرين ساعة».
«ودّعتُ طفليّ، زينة (ست سنوات)، وسالم في عمر الرضاعة، على أن يسافرا مع أبيهما زياد، الفلسطيني، الذي يحمل، مع الولدين، جواز سفر أردنياً».
لكن خطأً ما سيحدث، سيمدّ في عمر الرحلة سبعة أيام رهيبة. تقول «خرجت لا أحمل سوى حقيبة صغيرة، ليس فيها سوى بعض وثائق وشهادات، حتى من دون حقيبة ثياب. وخلال الأسبوع لم يبق جهاز مخابرات في البلد لم يبحث عني». وتضيف «أذكر حينها أنني اشتقت لمجرد أن أكون في ثياب النوم، وكنت أضم وأقبّل صور أطفالي التي أحتفظ بها على هاتفي المحمول».
لا تسترسل اسكندر في الحديث عن تفاصيل الأيام السبعة، فهي تخشى أن يتعرض للأذى من قدم لها العون، فآلة القتل ما زالت ناشطة في كل مكان. (رغم أن الشكر الذي وجهته لتنسيقية القصير وريفها في بيان الانشقاق، يشير إلى الطريق الذي سلكته).
«كان صعباً عليّ، لحظة وصولي إلى ألمانيا، أن أرى طفليّ في مخيمات اللجوء. كان ذلك قاسياً، لكن مجرد اللقاء بهم أنساني كل شيء».
العيش العسير في ذلك المكان سيستمر لعام ونصف، الأمر الذي تعتبره اسكندر معطّلاً للاندماج في ثقافة البلد الجديد. ورغم أنها امتلكت عرضاً باذخاً من دولة خليجية للاستضافة والعيش فقد فضّلت اسكندر أن تقاسي ما تقاسيه. تقول «كنت أشعر لو أنني قبلت، أن الرسالة كلها ستتبدد».
«لم أتخذ موقفاً سياسياً، بل رسالة إنسانية، وكان هناك، لحظة خروجي، خطر الاعتقال أو الموت. هذا التحدي كان جزءاً أيضاً». تقول اسكندر، وهي تشرح رسالتها.
القتل في الشوارع
الأمر نفسه جعلها تتخلى عن خيار الخروج إلى باكستان، حيث صدر قرار تعيينها قنصلاً هناك (كان الانشقاق من هناك سيكون أسهل بالتأكيد)، وعن راتبها الشهري الذي سيبلغ تسعة آلاف يورو. لقد أرادت أن تجعل من نفسها رسالة. ربما كان جزءاً منها أيضاً، أنها أرادت الناس أن تطمئن لـ «الجيش الحر»، هؤلاء الذين تقول عنهم «كانوا آنذاك شباناً تركوا جامعاتهم، رايحين للموت، ولا أستطيع إلا أن أكنّ لهم كل الاحترام والامتنان».
بعد وصولها أرسلت اسكندر بيان انشقاقها لقناة «الجزيرة»، تقول «حرصت أن أخبرهم أنني أول دبلوماسية تنشق، وأنني ابنة الوزير أحمد اسكندر أحمد. أردت أن أبعث برسالة للخائفين من الدبلوماسيين، والمشكّكين بالثورة ويعتبرونها طائفية. أردت أن أقول أيضاً، إنني امرأة، وعلوية، وفي هذا الموقع. كانت رسالتي للجميع، عائلتي، زملائي، أصدقائي، وللطائفة، أن هناك ثورة، وهناك مجازر، ولا يجب الوقوف إلى جانب المجرم».
وهنا تفسر اسكندر «علويتها»، «كانت تلك المرة الوحيدة التي شعرت فيها بأنني يجب أن أقول إنني علوية، لأن ذلك معنى ورسالة، ولكن لم أقبل تالياً (بل وأستغرب) أن يجري التعامل معي كعلوية».
عند سؤالها كيف كان الصدى، العائلي خصوصاً، تقول «لم تكن هناك مفاجأة، فالعلاقة أساساً متأزمة، لكن كان هناك كثير من الدموع».
في بيان انشقاقها المؤثر، إلى اليوم، ككل بيانات الانشقاق، الممتلئة بالكرامة والرفض والضمير الصاحي، قد يصمد المرء أمام كل ما قيل عن الإرهاب الأسدي وفظاعة المجزرة، غير أن تلك العبارة في البيان ستظل تحمل دويّاً استثنائياً لا يرحم «إننا نُقتل في الشوارع».
لمى أحمد اسكندر تعيش اليوم في ألمانيا، متدربة في برلمان ولاية براندبيرغ، كمرجع سياسي سوري في مكتب رئيس اللجنة الاقتصادية للبرلمان. ولا تعمل ضمن أي إطار سياسي سوري. تقول إنها سعيدة بأن توصل رسالة سوريا التي تتمناها.
تقول «دعيت إلى جنيف2 ولم أذهب»، وعند سؤالها كيف تعلّق على «المجلس الاستشاري النسائي»، الذي شكّله المبعوث الدولي إلى سوريا، تجيب «حين يجري الحديث عن آثار تدمر قبل نساء تدمر، سأشكّك بمصداقيتهن. حياة طفل هناك على قمة الأولويات. يجب أن نحكي عن تدمر وكيف سلمها النظام لـ «داعش»، عن ثمانية آلاف معتقلة في سجون النظام، عن التطهير العرقي، عن الشبيحة واغتصاب النساء في أحياء حمص المعارضة».
وسوم: العدد 663