مُجنّد مُسْتبقى ، رقم .. ك .. ل : المشاة سادة المعارك
لا يزايدنّ أحدٌ علينا في ضرورة أن يكون لنا جيش يقوق جيوش المنطقة قوة وتدريبا واحترافا . الناس يتحدثون عن الجيش ليقوم بوظيفته الأساسية ، وهي تأمين مياه النيل ، وحفظ الحدود ، وفرض السيادة القومية الكاملة على سيناء ، وتحرير أم الرشراش ، ومنع العدو النازي اليهودي من إقامة قناة موازية لقناة السويس!
عندما تقوم الجيوش بوظائف الحكم والسياسة فإنها تعرض البلاد والعباد إلى متاعب لا قبل للشعوب بها ، أقلها الهزائم المذلة على يد حثالة الأمم من الغزاة والمحتلين . وهو ما حدث قبل يونيو 1967 .. وقف البكباشي الأرعن يوم 25/ 5/1967 في مؤتمر صحفي عالمي بعد قراره بطرد قوات الأمم المتحدة وإغلاق مضايق تيران ليعلن بصوت مجلجل : أنا مش خرع زي مستر إيدن ! كان البكباشي يرد على سؤال لصحفي إنجليزي سأله عن صحته . الإجابة تعني أنه واثق من نفسه وجيشه . ولكن جاءت الرياح بما لا يشتهي.. بعد عشرة أيام بالضبط كانت قوات العدو النازي اليهودي تصل إلى حافة قناة السويس الغربية ، صارت المضايق في يديها ، وأضحى الطيران المصري في خبر كان ، واستولى الغزاة على ثمانمائة دبابة روسية جديدة (لانج ) لم تطلق رصاصة واحدة ، وراحت طائرات الهليكوبتر الصهيونية تحصد الشباب المصري والضباط المرفهين بطلقات الفيكرز ، وهم يهرولون في الصحراء القاحلة نحو القناة ..
كان القادة العظام مشغولين بالسياسة والفن وأشياء أخرى أكثر من اهتمامهم بحرفتهم العسكرية . في كرة القدم مثلا كان المشير ( الصاغ سابقا) عبد الحكيم عامر رئيسا لاتحاد كرة القدم ، وقائد القوات البرية الفريق عبد المحسن كامل مرتجي رئيسا للنادي الأهلي ، أما قائد الطيران الفريق محمد صدقي محمود فكان رئيسا لنادي الطيران ، والفريق سليمان عزت رئيسا لنادي البحرية ( لعله اندمج فيما بعد مع نادي الترام لتكوين ما يسمى الآن بالاتحاد السكندري ) .. ومن لم تسعفه إدارة نوادي كرة القدم ففي السلة والسباحة وكرة اليد والتنس وغيرها متسع له !
من المفارقات أن الفريق محمد صدقي محمود كان قائد الطيران في 1956 ، وعندما سئل عن عدم قيام الطائرات المصرية بمواجهة الهجوم النازي اليهودي في سيناء ، أفاد أنها لم تزوّد بالوقود فلم تستطع الطيران فتم تدميرها دون أدني دفاع ، ومع ذلك بقي قائدا للطيران أحد عشر عاما أخرى حتى تم تدمير الطيران مرة ثانية!
كان جيشنا المفدى مشغولا بالسياسة والاتحاد الاشتراكي ولجنته المركزية ، ومقاومة الإقطاع ، وعلى سبيل المثال قام بتجريد أفراد عائلة الفقي في المنوفية من أملاكهم وتعذيبهم وحبسهم لأنهم – كما زعموا - قتلوا شيوعيا من أهل المنطقة ، وكان نضال ، وكان انتصار على العائلة المذكورة ، وتطبيق عربي للاشتراكية المنحوسة التي استبدلت الماركسية بالإسلام .
عقب الهزيمة مباشرة وجدت نفسي مجندا في الجيش مع عشرات الألوف ممن يسمونهم حملة المؤهلات وأصحاب المستوى الثقافي العالي ، ووجدت نفسي مع غيرى من الخريجين نحمل أرقاما ، وانتماء إلى كتائب ، ولواءات ذات أرقام .
كانت الفكرة أن تجنيد المؤهلين يساعد على بناء جيش يفهم في المعدات المعقدة والأجهزة التي تقوم على الحسابات الآلية وغير ذلك ، ثم وهو الأهم فإن الجندي المؤهل سيتعامل مع زميله الضابط المؤهل ، وقد يكونان من كلية واحدة أو معهد واحد ، فتكون لغة التفاهم ممكنة ، ويتلاشى إلى حد كبير الفارق الطبقي الذي كان يعزل الضابط عن الجندي ، وخاصة أن الاتجاه الذي ساد بعد الهزيمة أن يعيش الضابط مع الجندي في خندق واحد ، ويأكلان من طعام واحد لا تمييز فيه ، بعد أن كان هناك ميس ( مطعم ) للضباط ، وآخر للجنود أو لا ميس لهم على الإطلاق .
ثم إن التدريب كان يأخذ منحى جادا ، وكان الشعار " نقطة عرق تساوي نقطة دم " أي إن بذل المزيد من التدريب يوفر الدماء والأرواح ، وأذكر أن شعارا ضخما بطول جدران مركز التدريب في السلاح الذي أنتمي إليه كان يقول : المشاة سادة المعارك . وهو شعار تحقق في معارك الدبابات في سيناء عند العبور .
انشغل القادة والجنود بالتدريب والتغلب على القصور الكمي والنوعي في السلاح والصعاب والعقبات التي تعترض المقاتلين ، والاستعداد للعبور وكسر الذراع اليهودي المعتدي ، والانتقال إلى مرحلة المبادأة بالهجوم التي كانت حكرا على العدو منذ إنشاء كيانه الغاصب .
كان الفريق سعد الدين الشاذلي يعلم الجنود كيف يتعاملون مع العدو ، ويوزع كراسات صغيرة مطبوعة فيها الكلمات والعبارات العبرية للتفاهم مع أسرى العدو ، ومساعدة جنودنا للتغلب على ما يصادفهم من عقبات وصعاب على المستويين الشخصي والجماعي . لم يتدخل الرجل أو غيره من القادة في قضايا السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام ، ورفض مع الجمسي في مذكراتهما تدخل الجيش في السياسة .. كانت وجهتهما مع قادة العبور هي العدو الغاصب لأرضنا المذل لكرامتنا ..
قضيت فترة التجنيد الإجباري ، وظننت أني سأخرج للحياة المدنية ، ولكن كان هناك قرار بالاستبقاء في الاحتياط لكل من انتهت خدمته الإجبارية ، انتظارا للمعركة الفاصلة ، ومرت الأيام ثقيلة وبطيئة دون معركة شاملة ودون خروج نهائي ، ويوم جاءت المعركة في العاشر من رمضان كان الأداء رائعا ، وكانت حركة المرور فوق كباري العبور أدق من المرور في ميدان التحرير كما قالت الصحف الأجنبية يومئذ .
هذا الجيش العظيم – مع كل ما يقال عن حرب العبور ودوافعها وغاياتها – قدم أروع ملحمة في التاريخ الحديث لكسر الذراع النازية اليهودية وإعادة الاعتبار للشعب المصري كله .. والسؤال لماذا يفرط الجيش في هذا المجد ، ويغرق في أوحال السياسة ، ويجعل من نفسه طرفا في صراع عبثي ، ويسمح لنفسه بنشر قواته ومدرعاته وصاعقته ومظلاته في شوارع القاهرة وغيرها ليمنع الشعب من التعبير عن غضبه من الانقلاب والاستبداد وقتل الأبرياء وحبسهم بعشرات الألوف وراء القضبان ومصادرة الأموال ، والتفريط في مضايق تيران وصنافير التي ستذهب بلا ريب إلى العدو ليتحكم في الخليج وسيناء والقناة ؟
المكان الطبيعي للجيوش هو الثكنات العسكرية ، والسياسة من اختصاص الشعب الذي يصدر أوامره لكل المؤسسات بما فيها الجيش والأمن والقضاء ، والإرادة الوطنية هي التي تقضي في أمر السيادة على الأرض ، ولا إرادة فوقها .
المشاة سادة المعارك التي تعيد السيادة والقيادة للأمة ، وتطيح بالغزاة والمحتلين !
الله مولانا . اللهم فرّج كرْب المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم !
وسوم: العدد 665