أهمية المسؤولية الاجتماعية وأثرها في التنمية والرفاه الإنساني
شهد القرن المنصرم بروز مفاهيم جديدة ارتبطت بقطاع المال والأعمال، الذي أصبح فيما بعد قطاعا حيويا في التنمية بمفهومها الشامل وخاصة بعد تراجع دور الدولة وتنامي دور رأسمال الخاص في إحداث التغيير، ومن ابرز هذه المفاهيم والتي شكلت الدور الجديد للشركات ومنظمات الأعمال هو مفهوم المسؤولية المجتمعية أو الاجتماعية، وقد ظهر إلى جانب هذا المفهوم مفاهيم يمكن تسميتها بالمفاهيم الرديفة أو المساندة كمفهوم التنمية المستدامة، والتي تعني:“ تلك التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاﺗﻬا" وذلك حسب ما عرفها تقرير برونتلاند عام 1987 والذي أشار إلى أن النموذج الحالي للتنمية الاقتصادية لا يمكن أن يدوم على المدى البعيد، حيث إنه يتسبب في نفاد الموارد الطبيعية وإيذاء اﻟﻤﺠتمع. ..!!، حيث أن القطاع الخاص يقوم على مقدرات المجتمع وبالتالي فان المسؤولية الأخلاقية تفرض علية أن يساهم في بناء منظومة التنمية المستدامة في إطار البيئة التي يعمل بها على الأقل.
وبعد اجتياح العولمة كل أنحاء الحياة المعاشية لبني الإنسان وصارت تجلياتها تشكل تحديات كبيرة للبشرية بات من الضروري على الشركات الخاصة ومنظمات الأعمال أن تساهم في بناء المجتمع الإنساني وحماية مقدراته البيئية وموارده الاقتصادية الأولية والمساهمة في رفع مستوى رفاه الإنسان في المحيط الذي تعمل به بل ونقل هذه المسؤولية إلى مستويات اكبر، ويعتبر الميثاق العالمي للمسؤولية الاجتماعية الصادر عن الأمم المتحدة عام 1999 ، المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص بأنها هي كل ما تقوم به الشركات، أياً كان حجمها أو مجال عملها، طواعيةً من أجل تعظيم قيمتها المضافة للمجتمع ككل، والمسئولية الاجتماعية هي مسئولية كل شخص بالشركة وليست مسئولية مجلس الإدارة لوحده أو المدير بشكل منفرد، وتبدأ المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص من التزام الشركات بالقوانين المختلفة خاصةً ما يتعلق بحماية البيئة ولمحافظة عليها من التلوث، وتنمية المجتمع، والحفاظ على حقوق العاملين.
ما هي المسؤولية الاجتماعية؟؟
تبنت جهات ومنظمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وأكاديمية وبحثية موضوع تقديم تعريفات مختلفة لمفهوم المسؤولية الاجتماعية، بل أطلقت عليها مسميات مختلفة كلها كانت تعطي نفس الغاية وتؤدي إلى ذات الغرض...
ومن أهم التعريفات وأكثرها شيوعا: تعريف البنك الدولي والاتحاد الأوروبي ومجلس الأعمال الدولي للتنمية المستدامة.
- فقد عرف البنك الدولي المسؤولية الاجتماعية على أنها التزام أصحاب النشاطات التجارية بالمساهمة في التنمية المستدامة من خلال العمل مع موظفيهم و عائلاتهم و المجتمع المحلي و المجتمع ككل لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم التجارة و يخدم التنمية في آن واحد .
- عرّف مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة المسئولية الاجتماعية على أنها ” الالتزام المستمر من قبل شركات الأعمال بالتصرف أخلاقياً والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم، والمجتمع المحلي والمجتمع ككل.
- وعرفت الغرفة التجارية العالمية المسؤولية الاجتماعية على أنها جميع المحاولات التي تساهم في أن تتطوع الشركات لتحقيق تنمية بسبب اعتبارات أخلاقية و اجتماعية؛ وهنا إشارة إلى ضرورة توفر القيم الأخلاقية والالتزامات الأدبية لدى الشركات لتطبيق المسؤولية الاجتماعية وذلك لعدم وجود إجراءات قانونية ملزمة، أي أن المسؤولية الاجتماعية هي قضية أدبية أخلاقية تعتمد على الإقناع والتعليم.
- ويعرف الاتحاد الأوروبي المسؤولية الاجتماعية على أنها مفهوم تقوم الشركات بمقتضاه بتضمين اعتبارات اجتماعية وبيئية في أعمالها وفي تفاعلها مع أصحاب المصالح على نحو تطوعي؛ ويركز الاتحاد الأوروبي على فكرة أن المسؤولية الاجتماعية مفهوم تطوعي لا يستلزم سن القوانين أو وضع قواعد محددة تلتزم بها الشركات للقيام بمسؤوليتها تجاه المجتمع.
- ويحدد المجلس الاقتصادي والاجتماعي الهولندي، المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص على أنها تتضمن عنصرين:
مساهمتها في رفاه المجتمع على المدى الطويل. بناء علاقة وروابط متينة بين أصحاب المصالح بها وبين المجتمع بشكل عام. وقد بينت هذه الجهة العالمية على أن مساهمة الشركة في رفاهية المجتمع لا تكون فقط من خلال تحقيق فوائد وقيم اقتصادية economic value creation ، ولكن يشمل تحقيق القيمة والفائدة ثلاثة مجالات هي:
- البعد الاقتصادي: هذا البعد يشير إلى خلق القيمة من خلال إنتاج السلع والخدمات ، ومن خلال خلق فرص العمل ومصادر الدخل.
- البعد الاجتماعي: وهذا يشمل مجموعة متنوعة من الجوانب المتعلقة تأثير عمليات الشركة على البشر داخل وخارج المنظمة ،مثل علاقات العمل السليمة والصحة والسلامة.
- البعد البيئي: هذا البعد يتعلق بآثار أعمال وأنشطة الشركة على البيئة الطبيعية.
عوامل ساهمت بتطور فكرة المسؤولية الاجتماعية:
أشارت كثير من الدراسات إلى أن بروز وتنامي مفهوم المسؤولية الاجتماعية جاء نتيجة العديد من العوامل والظروف التي مر بها الاقتصاد الدولي والتي من أهمها:
العولمة: إن انفتاح العالم وتحوله إلى قرية صغيرة تقوم على مبدأ الاعتماد المتبادل بين جميع دولة وشعوبه، ساهمت بفتح شهية القطاع الخاص نحو تحقيق المزيد من الأرباح والسيطرة على المقدرات والثروات بطرق شرعية وغير شرعية، مما دفع الشركات وخاصة الشركات متعددة الجنسية Multinational Companies (MNCs) إلى رفع شعار المسؤولية الاجتماعية، المرتكز على حماية البيئة والإنسان والموارد . تزايد الرغبة لدى منظمات الأعمال للعب دور اكبر في تعزيز القيم الإنسانية والاجتماعية. زيادة الثقافة العالمية حول قضايا هامة كحقوق الإنسان والديمقراطية وسرعة انتشارها، مما دفع الشركات إلى تبني الدفاع عن مثل هذه القضايا وبالتالي حمايتها كجزء من مسؤولية الشركة والمنظمة. التطور التكنولوجي الهائل وتغير أساليب العمل والتعامل الذي فرض على الشركات ومنظمات الأعمال مسؤوليات جديدة تتعلق بالعاملين فيها والمستهلكين لمنتجاتها وضرورة تناغم رسالة هذه الشركات مع أذواق المستهلكين ومتطلبات العاملين، مما دفعها إلى رفع شعارات المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية تجاه هؤلاء الناس. ازدياد الدراسات النظرية البحثية والأكاديمية وانتشار مراكز الأبحاث التي درست أهمية دور الشركات في تعزيز رفاه الإنسان وحماية البيئة والمساهمة في تحقيق التنمية المستدامة. الأضرار التي سببتها الانحرافات الأخلاقية لكثير من الشركات الكبرى كالتسبب في تلويث البحار أو الإضرار بمصادر المياه الصالحة للشرب أو قطع الأشجار أو القضاء على المخلوقات البحرية ونهب الثروات البرية أو التسبب في نشر الأمراض ....الخ من فضائح دفعت بهذه الشركات إلى تبني شعارات المسؤولية الاجتماعية تجاه الناس المتضررين من هذه الأخلاقيات الفاسدة.
صور من مسؤوليات اجتماعية تساهم في رفع مستوى التنمية:
يمكن لهذه الشركات التي تمتلك رؤوس أموال ضخمة تفوق ميزانيات كثير من الدول، وقطاعات هائلة من الأعمال وتعمل في نطاقات واسعة من الكرة الأرضية أن تساهم في رفع مستوى التنمية الشاملة وزيادة رفاه بني الإنسان من خلال قيامها بالعديد من السلوكيات والتصرفات ، وقد حددت بعض الجهات الدولية ومن خلال مواثيق مختلفة ما يمكن للشركات أن تقدمة من خدمات اجتماعية تساهم في تحسين واقع البيئة التي تعمل بها، ومنها ما ورد في الميثاق العالمي للمسئولية الاجتماعية والتنمية المستدامة وهو مبادرة دولية صدر في عام ١٩٩٩ عن الأمم المتحدة والذي دعا بمقتضاها إلى انه :
- على الشركات التحلي بروح المواطنة المؤسسية.
- زيادة مساهمتها في التصدي لتحديات العولمة.
- المشاركة الطوعية في التنمية المستدامة.
وأما المبادئ العشر للاتفاق العالمي للمسئولية الاجتماعية للمؤسسات والشركات فقد جاءت في إطار المجموعات الأربعة التالية:
مبادئ حقوق الإنسان: وذلك من خلال:
- أن تقوم الشركات بدعم وحماية حقوق الإنسان المعلنة دوليا واحترامها.
- عدم الاشتراك في انتهاكات حقوق الإنسان بأي شكل من الأشكال.
مبادئ أساسيات ومعايير العمل: ويتم ذلك من خلال :
- احترام حرية تكوين الجمعيات والاعتراف الفعلي بالحق في المساومة الجماعية.
- القضاء على جميع أشكال السخرة والعمل الإجباري.
- القضاء على عمالة الأطفال.
- القضاء على التمييز في مجال التوظيف والمهن.
في مجال المحافظة على البيئة: وذلك من خلال:
- تشجيع إتباع نهج احترازي إزاء جميع التحديات البيئية.
- القيام بمبادرات لتوسيع نطاق المسؤولية عن البيئة.
- تشجيع تطوير التكنولوجيا غير الضارة بالبيئة ونشرها.
مكافحة الفساد: بكل أشكاله بما فيها الابتزاز والرشاوي.
ويعمل المجتمع الدولي على تشجيع الشركات على الالتزام بالمبادئ العشر للميثاق العالمي للأمم المتحدة والتي يجب مراعاتها بشكل يومي عند اتخاذ كافة القرارات ووضع الاستراتيجيات؛ حيث تم تشجيع الشركات ليس فقط على الالتزام بتلك المعايير، وإنما أيضاً محاولة الامتناع عن عقد صفقات تجارية مع الشركات التي لا تحترم كل أو بعض تلك المعايير.
هذه هي الصورة الدولية لموضوع ما يمكن أن تساهم به الشركات من مسؤوليات مجتمعية ، ولكن يمكن للقطاع الخاص على اختلاف حجمه ومستواه أن يقوم بادوار هامة وحيوية في البيئة التي يعمل بها وخصوصا على مستوى البيئات الفقيرة ضمن المجتمعات النامية ومن هذه الأدوار:
المساهمة بتوظيف العاطلين عن العمل من أبناء المناطق المحيطة بالشركات . حماية البيئة وذلك من خلال الامتناع عن رمي الأنقاض والملوثات والمخلفات الصناعية الناجمة عن عملية التصنيع ضمن المنطقة والعمل على دفنها بطرق صحية صحيحة. المساهمة في تقديم المساعدات العينية والنقدية للأسر الفقيرة الموجودة ضمن المنطقة. المساهمة في بناء المراكز الطبية والعلاجية وتقديم الخدمات الصحية والرعاية الأسرية للأفراد من الأسر القريبة من مناطق أعمال الشركات. تحسين البيئة المحيطة من خلال زراعة الأشجار والنباتات وتحريج منطقة الشركة وجعلها بيئة مثالية تساهم في حماية المنطقة من التلوث. المساهمة في بناء مناطق الترفية والتسلية والنوادي الرياضية والحدائق العامة في المنطقة. عمل زيارات للأسر الفقيرة والمحتاجه في الأعياد والمناسبات وتقديم الهدايا والمساعدات لهم وخصوصا فئة الأيتام والأرامل. المساهمة في بناء المدارس وأماكن التعلم كرياض الأطفال ومراكز تعليم الحاسوب واللغات ، ومراكز محو الأمية...الخ. المشاركة في المجالس المحلية المختصة بالتنمية الشاملة في المنطقة. بناء منظومة من العلاقات الاجتماعية مع الأفراد في المجتمع المحلي والتقرب منهم للتعرف على احتياجاتهم ومشكلاتهم. يمكن العمل على دعم قيام مشروعات صغيرة في المنطقة يتم تمويلها من صندوق خاص بالشركة لتشغيل النساء والشباب من حملة الشهادات الجامعية والاستفادة من قدراتهم وطاقاتهم. العمل على عقد دورات تدريبية بمختلف المجالات تساهم في تدريب وتوعية الناس في قضايا اجتماعية واقتصادية كتنظيم النسل وأساليب التربية الصحيحة وكيفية بناء الاقتصاد المنزلي وما يتعلق به من استهلاك وإنفاق ...الخ من الموضوعات التي ترتبط ارتباطا مباشرا بحياة الأفراد.
إن اضطلاع القطاع الخاص بمسؤولياته تجاه المجتمع سيؤدي إلى أن تتحقق صور كثيرة للتنمية المستدامة ومنها:
- حماية البيئة ومصادرها من التلف والاستنزاف.
- تخفيض معدلات البطالة إلى اكبر حد ممكن.
- تقليص انتشار الأمراض وتمتع المجتمع بالصحة والعافية.
- الاستثمار البشري من تدريب وتثقيف وترفية يساهم في إدامة مقومات التنمية.
- تقليص معدلات الفقر.
أما ابرز العوامل التي يمكن أن تجعل المسؤولية الاجتماعية هي حجر الزاوية في بناء تنمية إنسانية مستدامة:
- تخلي الدولة عن كثير من مسؤولياتها وواجباتها تجاه التنمية وإسناد هذه المهمة للقطاع الخاص تماشيا مع النمط الاقتصادي السائد في العالم والذي ينادي بكف يد الدولة عن التدخل في الاقتصاد.
- لا يمكن للشركات أن تنافس إلا بالسمعة الطيبة والثقة العالية التي تبنيها لنفسها على اعتبار أنها ميزة تنافسية، فاكتساب ثقة الجمهور ورضا المستهلكين يساعد في خدمة أهداف المنشأة الاقتصادية ولا يتم ذلك إلا من خلال قيامها بأدوارها الإنسانية في خدمة التنمية الشاملة.
- الرغبة الجامحة لتحقيق الربح لا تتحقق إلا من خلال الاهتمام بالعاملين ورعايتهم وحماية حقوقهم، حيث أن ذلك سيجعلهم أكثر إنتاجية من خلال تنمية قدراتهم الفنية والإنتاجية، وتوفير الأمن الصناعي والرعاية الصحية والاجتماعية لهم؛ مما ينعكس بدوره على خدمة نشاط المنشأة
هذا ويمكن للقطاع الخاص أن يقدم أكثر من ذلك بكثير شريطة أن يدخل في عمق المجتمعات المحيطة والبيئات المحيطة التي يعمل في إطارها، والابتعاد عن السطحية والأبراج العاجية في التعامل، وفاءً لما تقدمة هذه البيئة له من خدمات وموارد هامة تعتبر العجلة الرئيسية لاستمرارية هذه الشركات بأعمالها.
وسوم: العدد 670