لعنة الحروب
في الحرب كلٌّ يفكّر ويناضل في سبيل البقاء الّذي يتمحور حول أمرين مهمّين: الأوّل، كيفيّة الإغاثة والاستغاثة من أجل أن تكون الأيّام القادمة أخفّ وطأة. والثّاني، الاجتهاد في سبيل المحافظة على الحياة.
الثّمن باهظ جدّاً، ولا يندرج في إطار القصف والدّمار والدّم والقتلى وحسب. وإنّما الثّمن يدفعه الإنسان من كينونته، وهو بمثابة جراحات لا نعرف إن كانت السّنون القادمة ستداويها أم أنّها ستظلّ تنزف آفات اجتماعيّة وردود فعل أيديولوجيّة تتطوّر حتّى تصبح بحدّ ذاتها حالات اجتماعيّة. ما يهمّ في قلب أزمة الحروب هو الحفاظ على الحياة بأيّ شكل من الأشكال، ومهما كلّف الأمر.
أيّاً كانت الأزمة الّتي يعيشها الإنسان وأيّاً كانت طبيعتها وانعكاساتها، لا بدّ له أن يواجهها بوقفة إيجابيّة. ومن إيجابيّات الحروب أنّ الإنسان يقف وجهاً لوجه أمام حائط مسدود ويرى حجمه ويعرف حدوده. يتمنّى الإنسان الكثير، ويضع أهدافاً عديدة ويسعى لتحقيقها. يبني ويكبر ويعظم ويتمنى أن يخلّد ذاته من خلال كلّ ما بناه، إلّا أنّ أزمة بسيطة تنهي كلّ شيء، فكيف إذا كانت الأزمة حالة حرب؟
1- وقفة إيجابيّة:
تعلّم الحرب الإنسان عمليّاً أنّ كلّ شيء فانٍ، وأنّ الكيان الإنسانيّ الثّمين هو القيمة الوحيدة. توجّهه إلى ذاته وتبيّن له أنّ لا شيء يستمرّ على هذه الأرض، لا المال ولا الجمال، ولا الثّروات... وحده العمل الّذي أنجزه والعلاقات الطّيّبة الّتي عاشها، والأفكار الجميلة الّتي سيّرت حياته، والأهداف الّتي حقّقها، تخلّد قيمته الإنسانيّة.
يقف الإنسان أمام أزمة الحرب بل يغرق في سلبيّاتها، ولا يرى إلّا السّواد. ولئن كان يرى هذه السّلبيّات استطاع أن يحذر بعضها ويميّز بين السّلبيّ والإيجابيّ.
2- حالة الخوف والذّعر:
الخوف حالة إنسانيّة طبيعيّة بمقدار معيّن. إلّا أنّها تتخطّى الحدود الطّبيعيّة عندما يشعر الإنسان أنّ حياته وكيانه مهدّدان. من هذا المنطلق ردّة فعل النّاس على الخوف تتفاوت بحسب الشّخصيّات وتركيبتها. ثمّة أشخاص لم يتخطّوا حروب بلادهم القديمة. ومع حدوث أزمة جديدة يستيقظ الخوف مجدّداً لينعش الماضي الّذي عاشوه وبالتالي الرّعب والذّعر. هذا التّفاعل بين الماضي والحاضر يخلق إشكاليّة كبيرة تحدّد الحياة وتمنعها من النّمو والتطوّر والنّضوج.
الانطباع عن الحرب هو الخوف الّذي يُترجم بالخوف على الوجود وفقدان الآخر والانفصال عن الّذين نحبّهم. ونعيش القلق لحظة بلحظة. فيتغلغل الخوف إلى عمق أعماقنا ليجعل منّا إنساناً بلا ركائز ولا ثوابت.
3- الشّعور بعدم الأمان:
يهمّ الإنسان في طفولته وحتّى سنين الرّشد مروراً بالمراهقة حتّى ينمو ويكبر أن يشعر بالأمان في مكان يستطيع أن يلجأ إليه يكون بمثابة مرجعيّة له. ومن المهمّ في الحروب أن يبقى لدينا جزء من الأمان الّذي لا نحبّ أن نتخلّى عنه أبداً، كما جزء من الإيمان بأنّ الإنسان فاعل خير يسعى إلى العدل والسّلام. ما لا تعكسه الوسائل الإعلاميّة الّتي تجعل الإنسان يحيا عدم الأمان وتُدخله في اضّطراب قسريّ. فيُترجم عدم الأمان بردّات فعل جسديّة ونفسيّة تنعكس أرقاً دائماً وكوابيس وهواجس الغد.
إنّ عدم الأمان يولّد الكثير من الاضطرابات النّفسيّة والسّلوكيّة فيتخطّى الإنسان كلّ قانون ويتصرّف همجيّاً. لذلك على الإنسان أن يجدّد علاقاته بالأشخاص الّذين يشعرونه بالأمان فيشعر بالمساندة والرّاحة ولو في خضمّ المعارك.
4- النّضال من أجل البقاء:
توقظ الحروب في الإنسان نزعة الشّرّ فيسعى إلى النّضال من أجل البقاء بطرق لا إنسانيّة على جميع المستويات. ما يسهم في تدمير إنسانيّته وضعضعة المستقبل. فالمستقبل لا يُبنى بالشّرّ والإجرام وإنّما بحسن التّصرّف والحكمة والمحبّة والعمل الدؤوب.
لا بدّ لنا أن ننتظر خواتم الأزمة، ونحافظ على ما تبقّى من إنسانيّتنا. وعندما تحلّ الأيّام الأشدّ صعوبة أي ما بعد الحرب، نكون مستعدّين لبناء مستقبل أفضل لنا ولأولادنا.
وسوم: العدد 676