بين يدي الحسين...في ذكرى عاشوراء
قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، كان الحسين الشهيد، حفيد النبي عليه السلام يستقبل رسائل غامضة، يزعم حاملها أنه مرسل من أهل الكوفة، يطلبون فيها خروجه لقتال ابن عمه البعيد، يزيد بن معاوية. نصح عبدالله بن عباس – وهو في مقام عم الحسين – الحسين بعدم الخروج، ونصحه ابن عمر وابن الزبير، وأخوه محمد بن الحنفية. أصر الحسين على الخروج، وثق بالرسائل التي كانت تأتيه بشكل غريب متوالية من أهل الكوفة، يحملها رجل يدعى عبدالله بن مسمع الهمداني، اختفى دوره بعد هذه الرسائل ولم يعد يذكر في أي موقف مع الحسين، ولا مع أصحاب الحسين بعد استشهاده، كما يؤكد المؤرخون الشيعة، اختفى بشكل بدا فيه وكأنه قام بدوره، وتوارى بعيداً في غياهب القرون.
كأن أحداً ما يدبر لخروج الحسين، ويؤلف هذه الرسائل ويرسلها له، والغريب أن الحسين عندما وصل الكوفة، عرض الرسائل على أهلها، فأنكروا أن يكونوا أرسلوا هذه الرسائل، كما تذكر المراجع التاريخية الشيعية والسنية على السواء.
يثير الدكتور محمد عياش الكبيسي تساؤلات حول شخصية عبدالله بن مسمع الهمداني الغامضة، التي تشبه شخصية غامضة أخرى كانت تنقل رسائل بين حاكم مصر حينها، وبين الخليفة عثمان، وهي التي أدت إلى فتنة قتل فيها الخليفة الثالث عثمان، وأدى مقتل عثمان إلى فتنة أخرى، قتل فيها الإمام علي، وأدى مقتل علي إلى فتن، قتل فيها الحسين، الذي أدى مقتله إلى فتن لم تنته إلى يومنا هذا، الذي لا تزال – فيه – هذه الرسائل التحريضية الغامضة تقتل المسلمين في حلب والفلوجة والموصل وغيرها، حيث يحرض محرضٌ خفي على القتال في هذه المناطق ثاراً للحسين، ودفاعاً عن مراقد أهل البيت، في الظاهر، في حين أن هدف هذا المحرض، هو الهدف نفسه الذي أضمره الهمداني الذي حرض الحسين بن علي على الخروج، حيث قتل في كربلاء ليستثمر دمه سياسياً، على مدى أربعة عشر قرناً لاحقة، من قبل ساسة لا علاقة لهم بمبادئ الحسين التي رفعها، ودعا إليها.
واليوم تحاول الرسائل المشابهة التي تنطلق من حقد تاريخي، يحمل بذور استعلاء قومي حضاري، تحاول هذه الرسائل بث المزيد من الفتنة بين العرب باسم الحسين، ليتم ضرب العرب السنة بالعرب الشيعة، ثأراً للحسين في الظاهر، وثاراً لمجد اندثر، ودولة لا علاقة لها بما كان عليه الحسين، في حقيقة الأمر.
دعونا نكون واضحين. ما معنى أن تكرس وسائل إعلام إيرانية اليوم جهوداً جبارة لزيادة الشقة الطائفية بين العرب السنة والعرب الشيعة، في حين أن إيران لا تسمح بهذا الخلاف الطائفي داخل إيران؟ ما معنى أن إيران لا تريد «تصدير الثورة» إلى الدول غير المسلمة، ولكنها تكتفي بتصديرها إلى الدول الإسلامية؟ ما معنى أن تصدر إيران ثورتها إلى محيطها الغربي حيث الدول العربية، ولا تصدرها إلى الجانب الشرقي حيث العديد من الدول الإسلامية غير العربية التي هي بحاجة إلى «أنوار الثورة الإسلامية»، كما يقول الإعلام الإيراني؟ ألا يعني ذلك أن الذي أرسل الرسائل لخروج الحسين أمس يواصل إرسال هذه الرسائل اليوم ليُقتل من العرب كل يوم حسين جديد، وتقوم كربلاء أخرى في مدن العرب، التي تحولت إلى كربلاء مفتوحة، يقتل فيها كل يوم مئات من الحسين، يلطم في إثره اللاطمون؟
ما معنى احتفال الإيرانيين بالخلافات السياسية العربية العربية؟ ما معنى تصريح قادة إيرانيين كبار في حينها برفضهم لتحول مجلس التعاون الخليجي إلى اتحاد خليجي؟ ما معنى احتفال الإيرانيين بأي بادرة خلاف داخل دول المجلس، ونفخهم النار في رماد الخلافات لتأجيجها بين الدول الأعضاء فيه؟ عدا عن محاولات إيران استثمار خلافات سعودية مصرية على خلفية تباين وجهات النظر حول بعض الملفات الإقليمية، وغير ذلك من الأمثلة كثير. واليوم يُرسل مقاتلون عرب من العراق ومن لبنان لقتل أشقائهم العرب في سوريا، والشعار هو «ثأر الحسين».
هلا سألنا أنفسنا، لماذا تحرص مراجع شيعية مرتبطة بعجلة السياسة الإيرانية على تكريس مهرجانات اللطم والتطبير وإسالة الدماء في يوم عاشوراء؟
سماع خطبة واحدة، أو بكائية واحدة في يوم عاشوراء، تجعلك تخرج بحقيقة ناصعة، وهي أن أولئك الذين أعدوا هذه المهرجانات، أعدوها بذكاء كبير لتكون مزاداً كبيراً تتم فيه المرابحة بدم الحسين العربي المسلم، من أجل قتل المزيد من أهله وأبناء دينه من العرب المسلمين سنة وشيعة.
الكم الكبير من الأحقاد، القدر الضخم من الكراهية الذي تكرسه هذه المهرجانات، الشحنة الانفعالية الموجودة لدى «الأصوات الروزخانية»، كفيلة بأن تمد الحروب الطائفية بمدد لا ينتهي من المتعصبين المتدرعين بالكراهية والأحقاد التاريخية. هذه الأحقاد، ودعوات الثأر لا تخدم قضية الحسين العادلة في توحيد الأمة، ولكن تخدم قضية إيران غير العادلة في تقسيم العرب وضربهم بصراعاتهم الداخلية.
هل يتنبه إخوتنا العرب الشيعة إلى حجم المأساة التي وضعتهم إيران، فيها؟ هل يتوقفون حول طبيعة الرسائل التي كانت تأتي من مجهولين إلى الحسين، وتحرضه على الخروج للثورة، لا لكي ينتصر، ولكن لكي يقتل، ثم يستثمر دمه على مدى مئات السنين، لسفك مزيد من دماء العرب المسلمين في سوريا والعراق واليمن. كانت المؤشرات كلها تشير قبل كارثة كربلاء إلى أن الحسين سوف يقتل، لأن الغموض يكتنف طبيعة من أرسل الرسائل إليه، ولأن المؤشرات تشير إلى ذلك، ولذا نصح كبار أبناء الصحابة الحسين بعدم الخروج، ناهيك عن الخروج بأهله كلهم.
يذكر الكبيسي أن ابن عباس قال للحسين عمن حرضوه على الخروج: «فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك، ويخذلوك وأن يكونوا أشد الناس عليك»، لكن الحسين أصر على الخروج، ولما أصر، قال ابن عمر له « استودعك الله من قتيل». ولكي تكون المأساة أعمَّ، ولكي تمتد إلى ما لا نهاية، حثت الرسائل الحسين على القدوم بأهله، لكي يقتل أغلبهم في الكارثة، التي خطط مدبروها إلى أن تشق الصف المسلم – حينها – وتظل تستثمر في استنزاف العرب والمسلمين إلى يومنا هذا، وإلى ما بعد هذا اليوم. أدرك الحسين متأخراً أن الرسائل التي وصلته كانت في مجملها لا قيمة لها، وأن الذين أوهموه أن شيعته في الكوفة مستعدون للقتال، إنما أرادوا خروجه لقتله يوم عاشوراء، في كربلاء من أجل أن يجعلوا كل أيامنا عاشوراء، وكل مدننا كربلاء.
يورد الكبيسي رواية الشيخ المفيد، وهو من مراجع الشيعة الكبار في كتابه «الإرشاد»، عن الحسين أنه قال عن شيعته «اللهم إن متعتهم إلى حين، ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدوا علينا فقتلونا». يأمل المرء أن ينتبه من يقاتلون اليوم «ثاراً للحسين» في مدننا العربية، قبل أن يصابوا بالمرارة التي أصيب بها الحسين في آخر المطاف.
أخيراً: يجب إزاء ذكرى عاشوراء أن تكون مناسبة لاستخلاص الدروس منها لمد جسور التواصل بين الأشقاء، ونشر ثقافة السلام، لا أن تكون مناسبة للشحن الطائفي، والكراهية الدينية، كما تخطط لها دوائر معينة تريد استمرار نزيف الجرح العربي والإسلامي لخدمة طموح امبراطوري لدولة يدفعها هذا الطموح بشكل متهور إلى الهاوية، ولمطامح قوى كبرى، يسرها أن يقتل كل يوم حسين جديد، وأن تتحول كل المدن العربية والإسلامية إلى نماذج من كربلاء.
«لقومٍ يعقلون»
وسوم: العدد 690