في ذكرى ميلاد الشهيد سيد قطب 9 اكتوبر 1906، الحاكمية عند سيد قطب
رد على مقال الحاكمية بين الغزالي وسيد قطب
للدكتور محمد عمارة
يقول الشيخ الغزالي – رحمه الله-:
الحاكمية كلمة دخيلة، فإذا كان لا حكم إلا لله، فهي كلمة حق أريد بها باطل
ويقول الدكتورة عمارة: “إن كلمة الحاكمية لله، سبق وقالها-قبل سيد قطب -ناس أرادوا بها الاعتراض على قبول الإمام “علي” التحكيم بين الناس في بعض الأمور، مع أن الله قد أباح التحكيم بين الزوجين، فما المانع أن يكون هناك حكمان، يبدي هذا الرأي ويبدي هذا الرأي الآخر، والحاكمية لله”.
ولقد أرجع الشيخ الغزالي خطأ الأستاذ سيد قطب، فيما كتبه عن الحاكمية، إلى سببين:
أولهما: الظلم الذي وقع عليه من قبل نظام ثورة يوليو، الأمر الذي جعله “ينفرد برأي أملته عليه ظروف المحنة التي وقع فيها.
فالأستاذ سيد له ابن أخت سجن ظلمًا وعدوانًا، ثم إنه رأى في السجن بلاءً كثيرًا، والواقع أن محاكمته كانت مهزلة، فالرجل كتب كتابة فيها حدة وعنف ضد الحكام وتأول آيات القرآن على أنه لابد من اشتباك صريح مع هؤلاء، وهذا ليس من الممكن”.
السبب الثاني: الخطأ في تفكير الأستاذ سيد:
أن الرجل من الناحية الفقهية كان ضحلًا، ليس متعمقًا أو جامعًا لما لابد منه من الأحكام الفقهية، ولذلك يقول كلامًا يستحيل أن يقبله الفقهاء، مثل:
اجعلوا بيوتكم قبلة لتكون مساجد وصلوا فيها وهذا كلام لا يمكن أن يكون مقبولًا، والسبب في ذلك أنه غلبت عليه عاطفة اعتزال المجتمع وضرب الحاكم. ا.هـ
نقد كلام الدكتور عمارة والشيخ الغزالي
في كلام الدكتور عمارة وما نقله عن الشيخ الغزالي-رحمه الله-مغالطات كثيرة، وظلم كبير للعلاّمة المجتهد سيد قطب-رحمه الله- وغمطٌ لحقه، ولأن تحقيق مفهوم الحاكمية عند قطب يحتاج إلى بحث مطول، فإننا نكتفي ببعض الإشارات البسيطة بما يتناسب مع طبيعة المقال.
ليست كلمة دخيلة
إن الحاكمية ليست كلمة دخيلة، فهي مجرد اشتقاق من لفظ “الحكم” مثل اشتقاق كلمة “الربوبية” من الرب سبحانه وتعالى؛ فإذا كانت الربوبية لله وحده، فإن مقتضى ذلك الخضوع لحكم الله وحده، فتكون “الحاكمية لله”.
ليس فهم الخوارج
وأما قولهم: “ فإذا كان لا حكم إلا لله، فهي كلمة حق أريد بها باطل” دون بيان لما هو الباطل، وتلميح صريح، بأن فهم قطب للآية هو فهم الخوارج الذين كفّروا علياً كرّم الله وجهه ورضي عنه.
ولذلك زاد الدكتور عمارة بالشرح، تأكيداً لمقصد الغزالي بأن فهم قطب للآية هو فهم “الخوارج” ! وهذا ظلم بيّن لرجل عاش حياته يدافع عن قضية “الشريعة” ومواجهة العلمانية، وهو أبعد ما يكون عن فهم الخوارج.
مفهوم الحاكمية من دلالات الآيات القرآنية
إن مفهوم الحاكمية عند سيد قطب، هو ما فهمه من دلالات الآيات القرآنية مثل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}. فمن مجموع دلالات هذه الآيات-وغيرها كثير-يتبين مفهوم الحاكمية؛
فهي تعني: الحاكمية العليا لله في تسيير هذا الكون كله، ووضع سننه وتدبير شؤونه، وإمضاء أمره، فالله يحكم لا معقب لحكمه.وتعني: أن الله مالك يوم الدين هو الذي يفصل بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون ويحكم بينهم، ولا يظلم ربك أحدا.وتعني: أن الله هو الذي يُشرع لعباده، وهو الذي يُبين لهم سبحانه الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والإيمان من الكفر، فلا حكم إلا له سبحانه
وهذا المعنى هو الذي ركز عليه قطب-رحمه الله-في وقت انتفشت فيه العلمانية لتقلب كل موازين الإسلام، وترد الحكم للبشر لا لله، ليضعوا بأهوائهم تشريعات وتصورات مناقضة تماماً لمنهج الإسلام، فصورت الإنسان قرداً، وآلة للجنس، وعابد للمادة،
وصورت الحياة-كحال الجاهلية الأولى-لحظات للتمتع، وما يهلكهم إلا الدهر، ووضعت أحكاماً بأهوائها لم ينزل الله بها من سلطان، فقال سيد كلمته: “إن الحكم إلا لله” هو الإله الذي وحده يُشرع، وهو الرب الذي لشرعه نخضع، فالحكم لله هو إعلان تحرير للإنسان من الاستبداد القهري أو الاستبداد الاختياري، وتحرير له من كل صور الجاهلية التي تريد أن ترده إلى أسفل سافلين.
أما كيفية تنفيذ وإقامة هذا الشرع
فالمسألة كانت واضحة عند قطب بشكل مميز، فهو أولاً عرّف الشرع بأنه:
“كل ما شرّعه الله لتنظيم الحياة البشرية”،
ودور المسلمين هو في تنزيل هذه الأحكام على واقع الحياة، من خلال “الفقه الإسلامي”
وقال بوضوح ما فيه نص شرعي، فلا يسع المسلم أن يتركه، وما لم يأت فيه نص شرعي فهناك مبدأ عام يحكمه، فيجتهد المسلم داخل هذا الإطار العام.
الشورى مثلا
وضرب مثلاً بـ “الشورى” في كتابه-نحو مجتمع إسلامي-فقال:
الشورى مبدأ عام، أما كيفية تنزيل هذا المبدأ على واقع الحياة، فهو متروك لاجتهاد المسلمين في عصرهم، وكيفية تحقيق مبدأ الشورى
ولكن قطب من جانب آخر:
يعتبر أن الشورى القيام بها طاعة لما أمر الله به.
ومن جانب آخر هذه الشورى محكومة بآية أخرى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}
فالشورى: تجعل السيادة لله ولشرعه، والسلطة والأمر للأمة.
بينما الديمقراطية-على سبيل المثال-تجعل السيادة للشعب-لا لله-ولا تقف عند ما أمر الله به،
فهل عندما نرد الديمقراطية ونقول: إن الحكم إلا لله، نكون كالخوارج-كلمة حق أريد بها باطل-أنى هذا؟!
وكذلك عندما نرد مبادئ الاقتصاد الربوي، ونقول إن الحكم إلا لله – الذي حرّم الربا – نكون خوارج ؟!
إن قضية الخوارج-في عصر عليّ كرّم الله وجهه-لم تكن في مسألة رد التحكيم، بعد الاتفاق عليه.
وأرادوا نقض ما اتفق عليه علياً في التحكيم الأول، فأبى.
وقالوا: “إن الحكم إلا لله” والتبس عليهم هذا المعنى، وناظرهم علي وابن عباس رضي الله عنهما، ورجع كثير منهم ممن التبس عليه فهم الآية، فهم لم يتحولوا إلى “خوارج” لالتباس معزى الآية ومعناها،
إنما تحولوا إلى خوارج لأمرين:
الأول: تكفيرهم المسلمين. والثاني: استحلال دمائهم وأموالهم.
ومرض قلبي خفي، وهو الكبر.
ولا يصح عندما نكون في هذا الواقع العلماني الذي يُرد فيه حكم الله، ويُنبذ فيه شرعه، عندما ندعو إلى العودة إلى كتاب الله، وإلى شرعه، يصبح الداعية إلى ذلك من الخوارج!
الرد على شبهة ضغط السجن
وأما الشبهة الشهيرة لإحباط فكر الأستاذ قطب – رحمه الله – هي دعوى أنه كتب ما كتب تحت ضغط السجن، وهذا غير صحيح، فقبل السجن، وقطب يُنظّر لذلك كما جاء في كتاب “العدالة الاجتماعية”
وقطب لم يأت بجديد في هذا الأمر
فعلماء المسلمين قبله تكلموا في هذه القضية كل بأسلوبه وطريقته، حتى الشيخ البنا-رحمه الله-له كتابات في منتهى الوضوح حول قضية الشريعة والحاكمية، إلا أن قطب توسع في المسألة وتعمق فيها لا سيما وهو يتعرض لتفسير الكثير من الآيات التي توضح أمرها، ولم تكن قضية قطب النظام الحاكم في مصر وقتها، ولم يكتب بصورة محلية أو وقتية عن أزمته، بل تكلم بصورة عامة، خالعاً عن نفسه ظروف الزمان والمكان، ولقد عُرضت على قطب الوزارة فأبى، فليست هي قضية شخصية، بل قضية دين.
الرد على شبهة ضحالة فقهه
وأما الشبهة الثانية: هي مسألة الفقه، فقطب لم يكن ضحلاً من الناحية الفقهية، ومن يقرأ الظلال يلحظ ذلك، ويجد للرجل تحقيق واجتهاد فقهي على مستوى عال، ولكن لم تكن قضيته الفقه الإسلامي بمعنى التمذهب والفتوى، بل في العودة أولاً إلى الشرع الذي يُأخذ منه هذا الفقه،
وهو يُظهر احترامًا لفقهاء المسلمين وينقل عنهم فيما يعترضه من آيات أو أحكام، بل هو يدعو إلى تجديد الفقه الإسلامي، ويعيب عليه جموده في مرحلة معينة، ويُفرق بين الشرع والفقه،
فلماذا هذا التحامل عليه؟ وإخراج دعوته وهدفه عن السياق الذي أراده وقصده؟
اجعلوا بيوتكم قبلة
أما تفسيره لقوله تعالى: {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} والتي فُهم منها اعتزال المجتمع ذاته، وإنما كان يقصد اعتزال “جاهلية” المجتمع، وفي حال مطاردة الجاهلية للمؤمنين، فليجعلوا بيوتهم قبلة، فيقول قطب في تفسير الآية: “أوحى اللّه إلى موسى وهارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعدادًا للرحيل من مصر في الوقت المختار؛ وكلفهم تطهير بيوتهم، وتزكية نفوسهم، والاستبشار بنصر اللّه، وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية.
وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات.
ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة، تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئًا كثيرًا في ساعة الشدة.
وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة.
وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة-وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة-وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور:
1- اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها-ما أمكن في ذلك-وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد اللّه لها.
2- اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي؛ وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح؛ وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور”
[تفسير سورة يونس/ في ظلال القرآن]
فهو إذاً يتحدث عن “احتمالية” مطاردة المجتمع الجاهلي-كمثل عهد فرعون-للمؤمنين، وتعم الفتنة، ويتجبر الطاغوت، ويفسد الناس، وتنتن البيئة.
ففهي هذه الحالة يجب اعتزال هذه الجاهلية بنتنها وفسادها، فالعزلة للنتن لا للخير ولا للناس، ولقد سمى الله سبحانه مسجد المنافقين بـ “مسجد الضرار”
فقضية قطب هي قضية عودة الأمة، ونصرة الإسلام.
فهل يمكن أن نقول: إن قطب أفتى بالصلاة في البيوت، وعدم الصلاة في المساجد، واعتزال المجتمع؟!
وهل نقدّم فكر قطب وكتاباته على أن هذه هي قضيته ؟!
إن قضية قطب هي عودة الأمة للاجتماع على كتاب الله، والتحاكم إليه، ونبذ العلمانية بصورها المختلفة، والدعوة إلى ذلك، والصبر على الفتن في هذا الطريق، وإعداد القوة المكافئة عند كل مواجهة، وتكوين القاعدة الصلبة التي تكون نواة المجتمع الذي يحمل هذه الدعوة، وينشرها بين الناس، ويواجه بها طغيان الغرب، والشرق، لتكون رسالة الإسلام العالمية هي العليا، وتكون الأمة المسلمة هي الأمة الشاهدة كما كانت من قبل.
في ذكرى الهجرة
70
0
هذا الموضوع هو: تفريغٌ لكلمةٍ صوتية لسيد قطب-رحمه الله- 1952، قام بها الكاتب/ أحمد طه
إذا كنا نحتفل بيوم الهجرة فيجب أن نحاول أن نكون جديرين بالاحتفال بهذا اليوم، يجب ألا يكون احتفالنا بالهجرة النبوية ككل احتفالٍ بذكرى من ذكريات الأرض، أو بعملٍ من أعمال الناس، إنما يجب أن يكون لهذا الاحتفال طابع خاص، وأن يكون لهذا الاجتماع جوٌ خاص وأن نُهيئ نحن أنفسنا لنكون جديرين بالاحتفال بمثل هذه المناسبة الكريمة..
ولن نكون جديرين بأن نحتفل بيوم الهجرة إلا حين نرتفع بأرواحنا، وحين نرتفع بأخلاقنا، وحين نرتفع بأعمالنا، وحين نرتفع بقيمنا إلى هذا المستوى الشامخ، إلى هذا القَدْر الرفيع… قَدْر الهجرة النبوية الشريفة.
كيف نتدارس السيرة؟
إن سيرة الرسول-صلى الله عليه وسلم-وسيرة هذا الإسلام لا يجوز أن تكون تاريخًا يُتلى، ولا أن يكون احتفالاتٍ تمضي، إنما يجب أن يكون حياةً تُعاد وأن يكون واقعًا يُحقق، فما جاء هذا الإسلام ليكون تاريخًا، وما مضت أيام الرسول-صلى الله عليه وسلم-لتكون ذكرى، إنما جاء هذا الإسلام ليكون واقعًا حيًا في تاريخ المسلمين، وإنما مضت هذه الأيام لتكون فيها-إلى الأبد-أُسوةٌ وقدوةٌ لمن يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف يكون الاحتفال؟
يجب إذا حاولنا أن نحتفل بعيد الهجرة أن نرتفع بأنفسنا إلى مستوى الهجرة… أن نرتفع بأرواحنا إلى مستوى الهجرة… أن نرتفع بواقعنا إلى مستوى أيام الهجرة… فهذا الإسلام قديرٌ جاهز على أن يحقق ما حققه مرةً في تاريخ البشرية.
إنه لم يجئ لزمان، ولم يجئ لمكان، إنما جاء للزمان كله… وجاء للأرض كلها… وجاء للبشرية كلها، فإذا شئنا نحن اليوم أن نحتفل بيومٍ من أيامه فلا يجوز أن نقرَبَ هذا الاحتفال إلا وقد أعددنا أنفسنا كما يُعد المؤمن نفسه للصلاة بالوضوء، وكما يتهيأ بروحه ليقف بين يدي الله.
يجب أن نرتفع إلى إدراك المعاني الكبيرة الكامنة في هذا اليوم الكبير، ومعاني هذا اليوم لا تحصيها ساعة، ولا تحصيها خطبة، ولا يحصيها كتاب، فهي كتاب مفتوح للبشرية منذ 1400 عام، إنما نحاول أن نلخص شيئًا… نحاول أن نُقلِّب في صفحاتٍ قلائل من هذا الكتاب الضخم الذي لم تنتهِ صفحاته على مدى 1400 عام، ولن تنتهيَ صفحاته حتى يرث الله الأرض ومن عليها
{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} .
لا تفاوض على العقيدة
ونحاول أن نجمع كلمات قلائل من تلك الكلمات التي لا تنتهي، أن نقلب صفحات قلائل من تلك الصفحات التي لا تنتهي، فنجد الصفحة الأولى من صفحات هذا اليوم المجيد في تلك الكلمات الخالدة… تلك الكلمات التي فاه بها لسان محمد-صلى الله عليه وسلم-وقريش بعظمائها بسادتها بكبريائها تَقدُمُ إلى بيت عمه أبي طالب تطالبه في أمر محمد إن كان يريد مالًا أعطَوه، وإن كان يريد سيادةً سودوه، فإذا بتلك الكلمات القلائل تخط أول صفحة من الصفحات المشرقة الكريمة في تاريخ تلك الدعوة
«والله يَا عْم لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ».
بهذه الكلمات تبدأ تلك الصفحة الكريمة… لم يكن محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-مضطرًا أن يهاجر، ولم يكن محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-مضطرًا أن يغترب، لو أنه أخذ المال، ولو أنه أخذ الجاه، ولو أنه استجاب لتلك الدعوة: “إن كان يريد مالًا أعطيناه، وإن كان يريد سيادةً سودناه” ولكن محمداً كان يريد ما هو أعظم… ما هو أعظم من الشمس توضع في يمينه، ومن القمر يوضع في يساره، كان يريد ما هو أعظم من هذا الكون… ما هو أعظم من هذه السماوات والأرض… ما هو أعظم من هذه النجوم والكواكب، كان يريد عقيدةً تنتصر، وفكرةً تسود، ومجتمعًا يتكون، وإسلامًا يقوم على وجهِ هذه الأرض؛ يُعلم الناس ما لم يتعلموه قبل هذا الإسلام العظيم…
كيف بدأت الهجرة؟
هذه هي الذكرى الأولى… هذه هي الخطوة الأولى التي استصعدنا بها محمد-صلى الله عليه وسلم-في بدء خطواته، فلنوجِّه إليها أنظارنا، ولنوجِّه إليها قلوبنا… ونحن نحتفل بهذا اليوم، إننا وجدنا أن نستطيع لا أن نرتفع هذا الارتفاع، ولكن أن نتطلع إلى هذا الأفق ليدفعنا إليه.
إذا وجدنا في أنفسنا استعدادًا للتطلع، إذا وجدنا في أرواحنا خفةً للتحقيق، إذا وجدنا في نفوسنا زهدًا في مال، وزهدًا في المنصب، وزهدًا في الجاه، لأننا نريد ما هو أكثر من المال، ونريد ما هو أكثر من المنصب، ونريد ما هو أكثر من الجاه، إذا أحسسنا في نفوسنا هذا الإحساس كنا جديرين أن نحتفل بيومٍ من أيام محمد عليه الصلاة والسلام.
دروس من الهجرة
ومنذ اليوم يجب أن نستحضر في أنفسنا هذا المَلحظ فلا نجرؤ على الاحتفال بيومٍ من أيام محمد-صلى الله عليه وسلم-إلا أن نكون على استعداد في ذوات أنفسنا أن نتطلع إلى فعل محمد..
· ذكريات النبي ليست سلعةً في السوق
إن ذكريات محمد-صلى الله عليه وسلم-لا يجوز أن ترخُص، لا يجوز أن تصبح سلعةً في السوق، لا يجوز أن تكون مجالًا لأن يحتفل بها كل مَن يحتفل قبل أن يُعد نفسه لهذا المستوى الرفيع… لهذا المستوى الكريم… الذي أعدَّ محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-نفسه له وهو يقول: “والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه” .
مَن شاء أن يسلك طريق هذه الدعوة فليعرف أنه لا يأتي إلى المال، وليتأكد أنه لا يؤدي إلى منصب، وليوطد نفسه أنه لا يؤدي إلى جاه في الأرض… وإن كان يؤدي إلى جاه عند الله…
مَن شاء أن يسلك طريق هذه الدعوة، فليعلم أن الوزارة قد تفوته، وأن الإمارة قد تفوته، وأن المال قد يفوته، وأن الجاه قد يفوته، ويبقى له ما هو أكرم من هذا كله… يبقى له وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
· قولًا ثقيلًا
ومعنى آخر… معنى آخر من معاني الهجرة يجب أن نستحضره في أرواحنا… يجب أن نُعد أنفسنا له، ما قاله سبحانه وتعالى وهو يخاطب رسوله في أول الدعوة، قال له:
{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}
لماذا كل هذا؟ لماذا كل هذا الاستعداد؟ لماذا سَهَرُ الليل؟ لماذا الصلاة ؟ لماذا الاتصال بالله؟
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)… إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا لا في كلماته… ولا في عباراته، فالله سبحانه وتعالى يقول: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} فألفاظ القرآن ميسورة، وعباراته ميسورة، وهذا الثقل في القول ليس في ذات القول، ولكن في التبعة، في المهمة، في الواجب… في المشقة التي يحتملها من يحمل هذا القول الثقيل… { إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا }.
· الطريق يُمهَّد بالتضحيات
إن الطريق شاق… إن الطريق ليست مفروشة بالزهور والورود، إن الطريق مفروشة بالأشواك، لا… بل إنها مفروشة بالأشلاء والجماجم، مزينة بالدماء، غير مزينة بالورودِ والرياحين، وهذا هو المعنى الثاني الذي يجب أن نستذكره ونحن نتطلع ونحاول أن نرتفع إلى أفق الهجرة الكريمة، إن سالكه لن يفوته المنصب وحده، ولن يفوته الجاه وحده، ولن يفوته السيادة وحدها-السيادة في هذه الأرض-ولكن سيتحمل قولًا ثقيلًا، وسيحتمل جهدًا ثقيلًا، وسيجتاز طريقًا ثقيلًا؛ فَلْنُعِدَّ أنفسنا لما أعدَّ محمد-صلى الله عليه وسلم-نفسه له؛ لنكون جديرين بأن نحتفل بيوم هجرته.
وكان من الميسور أن يدعو رسول الله-صلى الله عليه وسلم-على قومه دعوة تهلكهم فينتهي، كان ميسورًا أن يدعو كما دعا نوح { أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } ولكن الرسول-صلى الله عليه وسلم-لم يُلقِ دعوته، ولم يدعُ دعوته هذه على قومه، إنما اختار الطريق الشاق، واختار الطريق الطويل..
· الجهاد هو سبيل النجاة
لقد كان نوح يملك أن يدعو على قومه فيهلكهم الله؛ ليبدل الأرض قومًا غيرهم، لأن دعوته موقوتة، لأنه جاء لقوم، لأنه جاء لدين، أما رسول الله-صلى الله عليه وسلم-فكان يعلم أن دعوته هي دعوة الأبد، وأن رسالته هي الرسالة الأخيرة، وأن السماء وقد تفتحت بنورها إلى الأرض… لن تتفتح بهذا النور إلى الأرض مرةً أخرى؛ لذلك لم يَخترْ أن يدعو على قومه، ولم يختر أن يدعو الله بالنصر فيرتاح في لحظته… إنما اختار طريق الجهاد، لأنه إن انتصر اليوم… إن انتصر نصرًا يسيرًا… إن انتصر نصرًا سهلًا… فمَن يُؤتي أمته، من يُؤتي الأجيال بعده؟
إن أمته يجب أن تُدرب، يجب أن تُعَد، يجب أن تجد فيه قدوة، ويجب أن يكون لها قدوة، في جهادٍ شاق طويل..
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
لا بد من فدية، لا بد من بلاء، لا بد من امتحان، لأن النصر الرخيص لا يبقى، لأن النصر السهل لا يعيش، لأن الدعوة الهينة يتبناها كل ضعيف، أما الدعوة العصية الصعبة فلا يتبناها إلا الأقوياء، ولا يقدر عليها إلا الأشداء {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ}
ألا إن نصر الله قريب؟
ألا إن نصر الله قريب؟ ولكن ممن؟ ممن احتملوا البأساء والضراء… ممن جاهدوا وبذلوا… ممن لم يُبقوا في طاقتهم قوةً… ممن احتملوا مشاق الطريق… عندما يبذل الإنسان أقصى ما في طاقته، عندما يصل إلى نهاية الشوط، عندما يلقي بهمه كله إلى الله، بعد أن لم يبقَ في طوقه ذرةٌ… عندئذٍ يتحقق وعد الله { أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ }.
هذه هي الذكرى الثانية… هذا هو المعنى الثاني… هذا هو المعنى الرفيع… الذي يجب أن نُعد أنفسنا له ونحن نتطلع لكي نرتفع إلى ذلك الأفق السامي، ونحن نحتفل بالهجرة الكريمة.
المصادر: [تفريغ كلمة صوتية للعلاّمة سيد قطب/ 1952]
والله أكبر ولله الحمد
وسوم: العدد 690