كيف احتفى (الإسلام) بالسيد المسيح (ع)؟
لقد احتفى نبيُّ الرحمة (مُحمَّـــد) بأخيه المسيح (ع)، في مناسبات كثيرة، وبصور متعددة، تلفت الانتباه، وتبعث البهجة، فتارة يُقدِّمه بالمدح والثناء، وتارة بذِكر صفاته وأوصافه الخَلْقية، وتارة بذكر مواقفه مع الناس، أوْ ذِكْر مواعظه ووصاياه، وتارة ينافح عنه ويدفع ما لِحق به مِن أذى أوْ بهتان. وبذلك تحقّقتْ بشارة المسيح عن (البارقليط) عندما قال عنه: "ذاك روح الحق؛ الذي سيرشدكم إلى جميع الحق، ويُذكِّركم بكلِّ ما قلته لكم، ذاك يُمجِّدني".(يوحنا:16).
ولا عجب أن تكون للمسيح مكانة رفيعة، ومنزلة خاصة في قلوب المسلمين، فإلى جانب أنهم يؤمنون بأنه من الخمسة أُولِي العزم من الرسل، وأنه صاحب رسالة سماوية، وأنه معجزة لبني إسرائيل على وجه الخصوص، وإلى العالم كله بصفة العموم؛ يرون فيه –أيضاً- أنه بَشَّر بنبيِّهم، كما ورد في القرآن الكريم ]وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ[[الصف:6].
وقد عَرَضَ القرآنُ الكريم صوراً حية صادقة من قصة السيّد المسيح وحياته في لوحات جميلة مشوِّقة، حتى تكرَّر اسمه في القرآن 38 مرة في صورٍ ومشاهد إعجازية باهرة، تُدهِش الأسماع، وتخطف الأبصار ... فلمْ تعهد الدنيا حديثاً أعذب منه، ولا كلاماً أصدق منه.
مِن جمال قصة المسيح؛ أنَّ القرآنَ الكريم تناولها من البدايات الأولى، أيْ من قبل ولادة أُمه الطاهرة، وذلك عندما ابتهلتْ وتوسلتْ امرأة عمران إلى الله -جلَّ جلاله- ونذرتْ ما في بطنها خادماً لبيت المقدس ]إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ[ [آل عمران:35].
وبالرغم من أنَّ المولود (أنثى) إلاَّ أنَّ الأُم الصالحة قرّرتْ أنْ تفي بنذرها لله، مع أنَّ الذَّكَرَ ليس كالأنثى خاصة في مثل هذه المهمة الشاقة ]فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[[آل عمران:36].
وعرض القرآنُ صورةَ مريم البتول (ع) في أكمل المشاهد القرآنية وأجملها. في ذات الوقت؛ أفحم اليهود، وردَّ على اتهاماتهم التي ألصقوها بها، فقال: ]وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ[ [آل عمران: 42-43].
وهناك ثناء آخر بديع، يظل تاجاً على رأس والدة المسيح (ع): ]وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ[ [الأنبياء:91].
ولا تعجب إذا علمت أنَّ (مريـم) هي المرأة الوحيدة التي ذكرها القرآن بالاسم! بلْ أفرد لها سورة تحمل اسمها هي (سورة مريم). كما أفرد سورةً أخرى لعائلتها المقدَّسة هي (سورة آل عمران).
ليس هذا فحسبْ؛ فالمتأمل في القرآن الكريم، يجد أخبار المسيح وأُمه (ع) مبثوثة في أغلب سور القرآن، وجاءت في شكل حدائق غنَّاء تسرُّ الناظرين، وبساتين فيحاء تبهج المؤمنين.
وقد أخبر الوحيُ السماوي؛ أنَّ البشارة العطرة التي تنزلت على مريم كانت تحمل اسم "المولود" وصفته، وكُنْيتِه، ومنزلته، ومعجزته، ورسالته- كل ذلك في أسلوب أدبي بليغ، وثوب قشيب: ]إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:45-46].
لقد جاءت صورة المسيح وحياته في القرآن في أبهى مظاهرها، وأكمل أطوارها، ففي سورة مريم: ]قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ[ [مريم :30-34].
كما قَدَّم من البراهين والأدلة على صدق نبوته ورسالته، وتأييده بروح القدس طوال فترة دعوته، وأشار إلى معجزاته، وأخبر النصارى بما لمْ يعرفوه عن المسيح ذاته!
فأخبرهم أنه تكلَّم وهو في المهد، وكانوا جاهلين بهذه الآية ]إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ[ [المائدة:110].
هذه خمس معجزات للمسيح. والمعجزة السادسة؛ هي في قوله تعالى: ]وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[[آل عمران:49].
أمَّا المعجزة السابعة: فهي معجزة (المائدة) التي أُنزلتْ على الحواريين، وهي مفاجأة أخرى، فلم يكن يعرفها النصارى قبل نزول القرآن الكريم!
وقد جاءت القصة في لوحة إيمانية بديعة: ]إِذْ قَالَ الحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ % قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ % قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[ [المائدة: 112-114].
هذه هي معجزات المسيح السبع، تسبقها معجزة ميلاده من غير أب، وتُختَم بمعجزة رفعه مِن الأرض؛ حين حاولت السلطات الحاكمة إلقاء القبض عليه، وقتله.
المتأمل في هذه المعجزات؛ يرى أنها كلها متعلِّقة بعالم الروح كما هو واضح؛ لأنه أُرسِلَ إلى قوم ماديين، يُنكِرون الروح تماماً، ويُنكِرون البعث كلية، ويزعمون أن الإنسان جسم بلا روح، ويعتقدون أن دم المخلوق هو روحه أوْ نفسه. تقول التوراةُ في تفسير النفس: إنها الدم، فجاء فيها: "لا تأكلوا دم جسم ما، لأنَّ نفس كل جسد هي دمه".
وسط هذا العصر الذي أنكر الروح تماماً، كان منطقياً أن تجيء معجزات المسيح إعلاناً لعالَم الروح! ولعلَّ مجيء السيد المسيح من غير أب، يثبت طلاقة القدرة الإلهية.
وقد جاء الإسلام ليُقرِّر أنَّ المسيح (ع) رسول سلام، وهداية إلى شعب إسرائيل، أرسله الله ليخرجهم من ظلمات الشرك والعناد والضلالة التي لجُّوا فيها إلى نور التوحيد والهداية والإيمان، وظلَّ يؤكد لهم دوماً أنه بَشَر مثلهم، ولكن الله مَنَّ عليه بالنبوّة والرسالة، وأنه جاء ليحلَّ لهم بعض الذي حُرِّم عليهم، وجاءهم بالمعجزات البينات؛ كيْ يصدِّقوه ويتبعوه.
هذا؛ وقد قَدَّم الوحيُ القرآنيُ خلاصةَ منهج المسيح ودعوته، وطريقة هدايته للناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ورسالته التي فتح من خلالها الطريق للنبيّ القادم من بعده، وقد أوجز القرآن ذلك كله في آية واحدة: ]وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ[ [الصف:6].
وعرض الوحيُ جانباً مهماً لجهاد المسيح، وتصديق حوارييه له، فقال: ]كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ[ [الصف:14].
وقد أثنى الله ثناءً عطراً جميلاً على أتباعه من بعده، فقال: ]وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً[[الحديد:27].
ليس هذا فحسب؛ بلْ نافح عن مؤمني النصارى المضطهدين؛ كأصحاب الأخدود، ودافع عنهم دفاعاً؛ اتسم بالمحبة والانحياز لهم، وتوعَّد مضطهديهم الألدَّاء بأشدِّ العذاب في الآخرة.
كما أوصى (نبيُّ الإسلام) خيراً بالنصارى عامة، وأمر بإكرامهم، ومودتهم، والإحسان إليهم ... ونهى أكثر من مرة عن إيذائهم أوْ الإساءة إليهم، مُغلِّظاً القول في ذلك إلى حد التهديد والوعيد، فقال: "مَن آذى ذِميّاً؛ فأنا خصمه يوم القيامة"!
والعجب؛ أنَّ هذا القصص الرائع، ليس سِرّاً يعرفه الخواص فقط، وليس مطوياً في لفائف، ولا محفوراً في خنادق، بلْ هو آيات بينات تُتلَى آناء الليل وأطراف النهار، وتطوف الدنيا كلها من أقصاها إلى أقصاها ... ويستمر هذا الذِّكْر الخالد، والثناء الباهر تلهج به الألسنة، وتأنس به القلوب والأرواح، ويتناغم معه الكون كله إلى يوم القيامة!
فهل هناك تشريف فوق هذا التشريف؟ وهل هناك تمجيد يربو على هذا التمجيد؟!
وليس مصادفة؛ أنْ يؤكد الوحي الكريم على (بشرية) المسيح في كل موضع يأتي فيه الحديث عنه، وذلك من بداية مولده وطفولته، وبرِّه لأُمه، وصلاته وصيامه وعبادته لربِّه، وعنائه وجهاده، إلى رفعه الذي جاء بمعجزة أيضاً، حيث أنقذه الله -سبحانه- ونصره ونَجَّاهُ من أعدائه الطغاة، ورفعهُ الله إليه روحاً وجسداً ]إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ[[آل عمران:55].
ومما يؤيد عقيدة المسلمين في بشرية المسيح، وعدم أُلوهيته، وعدم صلبه، مِن كُتب اليهود والنصارى؛ ما جاء في سِفْر إشعياء (الإصحاح 49: 2-8) وهو باعترافهم بشارة بنبوّة المسيح، قال: "في ظل يده خبأني وجعلني سهماً مبريًّا. وفي كنانته أخفاني، وقال لي أنتَ عبدي الذي به أتمجَّد ... لكن حقي عند الربّ وعملي عند إلهي ....<إلى قوله> "في وقت القبول استجبتك. وفي يوم الخلاص أعنتك. فأحفظكَ وأجعلكَ عهداً للشعب".
وهذا كلام صريح، في أنَّ المسيح عبد لله، وأنه سيحميه، ويجيب دعاءه، وينجِّيه ويحفظه.
وهذا ما يؤكده أيضاً النص الوارد في حق المسيح (المزمور 91:9-16) يقول: "لأنكَ قلتَ ياربّ ملجأي. جعلتُ العُلا مسكنك. لا يلاقيك شر ولا تدنو ضربة مِن خيمتك. لأنه يوصي ملائكته بكَ لكيْ يحفظوكَ في كل طرقك. على الأيدي يحملونكَ لئلا تصدم بحجر رجلك. لأنه تعلَّق بي أُنجِّيهِ وأرفعه. لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق أنقذه وأمجده. مِن طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي".
ونجد المعنى ذاته في إنجيل (متى 27: 39) يقول: "أَعِنّي ياربّ إلهي، خلِّصني حسب رحمتك، وليعلموا أنَّ هذه هي يدك. أنت ياربّ فعلتَ هذا، أمَّا هم فيُلْعَنُون. وأمَّا أنت فتباركت. قاموا وخزوا. أمَّا عبدك فيفرح ليلبس خصمائي خجلاً. وليتعطَّفوا بخزيهم كالرداء. أحمد الربَّ جداً بفمي وفي وسط كثيرين أُسبِّحه. لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلِّصه من القابضين على نفسه ..".
هذا صريح في أنَّ الله نَجَّى المسيح (ع) من القابضين عليه، وأنَّ يهوذا وقع فيما دبَّره لسيده؛ كما أشار إلى ذلك المزمور (109: 7) بقوله: "إذا حُوكِمَ فليخرج مُذْنِباً، وصلاته فلتكن خطيئة...).
وقال في المزمور (34: 17-21): "أولئك صرخوا والربُّ سمع ومِن كل شدائدهم أنقذهم. قريب هو الربّ من المنكسري القلوب ويخلِّص المنسحقي الروح. كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الربُّ. ويحفظ جميع عظامه واحد منها لا ينكسر. الشر يميت الشرير ومبغضو الصديق يعاقَبون".
فهذه العبارات هي باعترافهم في حق المسيح -كما في يوحنا (19: 36) وهي صريحة في نجاة (عيسى) وخلاصه من كل البلايا والمصائب، وفي عقاب أعدائه ومبغضيه، وقوله "يحفظ جميع عظامه واحد منها لا ينكسر" أدلّ على قولنا بعدم الصلب منه على قولهم بالصلب، لأنَّ الصلب يستلزم تفتيت عظام اليديْن والقدميْن، وهو شيء لا يمكن توقّيه في الصلب ولا بالتعمُّد والحذر الشديد ... فكيف إذا لم ينكسر واحد من عظامه؟!
فالمعقول؛ أن المراد من هذه العبارة أن الله يحفظ جسمه كله ويصونه من كل أذى ... أمَّا إذا صحَّ أنه صُلِبَ؛ فأيّ أذى أعظم مِن ذلك؟ وما معنى قوله: إنه ينقذه وينجِّيه ويخلِّصه من كل البلايا ... فأيّ بلية أعظم من الصلب والقتل؟ ومِن أيّ شيء نجَّاه؟
وقال المسيح (ع) عندما أرسل الفريسون ورؤساء الكهنة خداماً ليمسكوه (أنا معكم زماناً يسيراً بعد، ثمَّ أمضي إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدونني. وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا) وهذا صريح في أنهم لن يجدوه، ولن يقبضوا عليه.
ورؤيا بطرس تؤكد ذلك (وفي تلك الأثناء، خُطِف الرسول إلى السماء الثالثة). كما أن الكنيسة الأولى قد آمنتْ بأنَّ المسيح قد رُفِع يقيناً إلى السماء.
وقال المسيح أيضاً (يوحنا 16 :33) "أنا لستُ وحدي لأنَّ الأب معي. وقد كلَّمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضِيق. ولكن ثقوا أني قد غَلبتُ العالم". وهي بشارة من المسيح لتلاميذه بأنَّ الله سينجِّيه وينقذه، وإلاَّ فهل يصحُّ أنَّ مَن كان الله معه، ومَن غلب العالم؛ يغلبه أعداؤه ويصلبونه؟
لذلك؛ أنكر فكرة الصلب كثير مِن فرقهم في مبدأ النصرانية -أيْ قبل الإسلام- مثل: السيرنثيين Cerinthians والباسيليديين Basilidians والكاريوكراتيين Carpocratians والناتيانوسيين أتباع ناتيانوس تلميذ يوستينوس الشهيد الشهير، وغيرهم الكثير من فرقهم القديمة.
وإلى هذا اليوم؛ هناك كثير من الفِرق والطوائف، وكثير من المفكرين المسيحيين وآباء الكنيسة، الذين يؤمنون بما جاء في القرآن بإنكار قتل عيسى أوْ صلبه, مثل البروفيسور Gruden، والمفكر Arthur weigall في كتابه "الوثنية في مسيحيتنا"، والفيلسوف الألماني Goethe في "الديوان الشرقي"، وكذلك القِس والمستشرق مونتجمري وات Montgomery Watt الذي يقول: ما جاء به القرآنُ حق لاشك فيه، وأن هذا الإنكار أهم من المزاعم التي تقول بصلب المسيح. فليس هناك شواهد تاريخية موثوق بها عن صلب المسيح. والروايات التي وردت في الأناجيل عن قصة الصلب تتضارب تضارباً شديداً, حتى ليعجب الإنسان كيف تختلف الأناجيل في أصل هام من أصول الديانة. فلو كان أصلاً؛ لكان اهتمامها به متساوياً أوْ متقارباً. فهناك أربعة وثلاثون وجهاً من التضارب بين نصوص الإنجيل".
وسوم: العدد 690