إدمانٌ..وعِنَاد...
يحمدُ الصحيح ربَّه تعالى عندما يسمع ذلك السُّعال الذي يشبه النُّباحَ الصاعد من صدر المدخِّن، واللَّافت للانتباه أن أكثرَ من يدخِّنون من الفقراء والعامة والدَّهْماء، ويتصوَّرون أن الحل إنما يكمُن في بعض آهاتٍ يخرجونها مع دخان التَّبغ، هي التي ستحل كافَّة المشاكل، ومَن رأى نهايات السَّاسة والمفكِّرين والأدباء وغيرهم، عَلِم أن التدخين كان الضالع بنسبةٍ كبيرة في التعجيل بنهاياتهم، دون أن يحلُّوا مشاكلَ البشرية المعقَّدة التي يزيدها التدخين تعقيدًا.
لقد شاعَتْ ظاهرة التدخين كأسوأ الظواهر السلبيَّة التي لازمت الإنسان مسيرة حياته على الأرض، في الوقت الذي يغيبُ فيه عن المدخِّن عدةُ حقائق هامة؛ منها: أن التدخين يُسهم في قتل نصف عدد المدخنِّين عالميًّا، وأنه بدخَّانه يسهم في قتل أقلَّ من مليون من البشر، وأن 90% يصابون بالانسداد الرئوي نتيجة مباشرة للتدخين، كما ثبَت أن التدخين يترك بصمتَه على الشفرة الوراثية لجزيء الحمض النووي، مما سيسهم - حتمًا - في تغيير النشاط الجيني للإنسان، وهذا معناه إصابة آلاف الجينات بالسرطان.
أما المدخِّن العربي فلا يعلم أنه يسهم بنسبة تزيد عن المليار دولار يصبُّها في خزينة شركات السجائر؛ إذ بلغت نسبة المدخِّنين من الذكور %50، بينما الإناث 18%، والمؤسف أن التدخين أصاب عددًا كبيرًا من الأطباء الأردنيِّين، كما أن هناك ستة مليون سعودي يدخِّنون ويدفعون أكثر من ملياري دولار، بينما في قطر نسبة التدخين تصل إلى 12%، ويسهم سبعة مليون عراقي مدخن بنصف مليار دولار، كما يدفع ثلاثة مليون تونسي مدخن ربعَ دخلهم لبائعي التدخين.
إن التحايل على إقلاع المدخن عن التدخين لم يفلح في معظم الأوقات؛ إذ لم تفلح زيادة الضرائب على السجائر في حظر شرائها، كما لم تفلح المبالغة في رفع سعرها في الحد منها؛ ففرنسا التي رفعت الأسعار إلى 300% لم تفلح إلا في خفض الإقبال عليها، ولقد أقدم رئيس تركمانستان على منع دخول التَّبغ البلاد، وإحراق الآلاف من علب السجائر، وأيضًا لم يفلح غير أن يحوِّلها إلى سوق سوداء يدفع المدخن في سبيل الحصول عليها أضعافَ ما كان يدفعه.
ولم تفلح المساجد التي تهتزُّ منابرها كل جمعة بالتحذير من التدخين، وأن الشيطان والمبذِّر إخوان، كما لم تفلح التحذيرات الطبيَّة الصادرة في منشورات وتقارير وزارات الصحة، وأيضًا لم تفلح البرامج التي يقدمها التلفاز والتي تعرض بالصور والأفلام مصير دخان السجائر، وفعلها في أجهزة الإنسان الحسَّاسة، وإذا بالمدخِّنين يتابعون وهم يدخنون وكأنهم يشاهدون فيلمًا مسلِّيًا ليس إلا، مع العلم أن الأحوال الاقتصادية لكثير من المدخِّنين لا تستقيم مع هذا التبذير اللَّعين، بل إن منهم من يستدين ويستهين، ولا يلين لأقوال الناصحين، ومن أفلحوا فتعلَّقوا بالوسائل البديلة من المخترعات الحديثة لتلهيَهم عن التدخين تدريجيًّا لحين الإقلاع عنه نهائيًّا، إذا بهم يتعلَّقون بالبديل الدخيل حتى صار هو الأصيل، وذهبت المحاولة أدراج الرياح!
الغريبُ أنك كلما اقتربت من مدخِّن وخاطبته بأسلوب حسن يهشُّ ويبشُّ لك، أما إذا تطور الموضوع إلى حدِّ الإلحاح في النصيحة، علا الصوت حتى يصير الأمر صراخًا وفضيحة، فإذا هدأ ذلك المدخِّن من عراكه قليلًا لعب على الوتر الإنساني لناصحِه، بأنه لولا التدخين لكان كالثور الهائج، ولن يستطيع أن يتعامل مع البشر، ولا يعلم هذا المريض الجاهل أنه ثبت بالدليل العلمي أن التدخين لا يؤثِّر بالإيجاب في تحسين الحالة المِزاجيَّة للمدخن أبدًا.
يبدو أن الإدمان يصيب أكثر المدخِّنين بحالة نفسية تحوِّلُهم إلى مرضى بالعند أكثر من عناد الأطفال، فيرفضون الحقَّ مع كونه حقًّا، ويعلمون هذا، فأصبحوا حاملين لظاهرتين سلبيَّتين: التدخين والعناد، وعلى الرغم من مخاطبتهم بالنصائح الطبية، والحقائق العلمية، والأرقام والإحصائيات – فإنهم يبالغون في الإقبال على التدخين بأنواعه؛ محاولة منهم لرفض نصيحتك، أو الإحساس بالاستقلالية أو الاستعلاء.
يجب أن نسلِّم في النهاية بأن التدخين ظاهرة متجذِّرة، لن يفلح في اقتلاعها النصيحةُ وحدَها ولا كلُّ ما تفعله الأجهزة المختلفة، فإن لم يكن الوازعُ من المدخِّن نفسه بالإقلاع عنها بإرادته، فلن تنجح أيُّ محاولة مهما حاولنا، غير أن ما لا يدركُ جلُّه لا يُترك كلُّه، وما علينا سوى تضييقِ الخِناق عليه؛ لكسب أنصارٍ أكثر ممن يقلعون، والحمد لله هناك نتائجُ مبشِّرة، غير أنه يجب أن ندعم محاولاتنا بالدعاء لله أن ينقذ كوكب الأرض من قتلةِ أنفسهم ومَن حولهم من المدخِّنين.
وسوم: العدد 691