تربية العوالم وتعليم الغوازي !

أبناؤنا من الأجيال الجديدة لا يجدون تربية حقيقية ولا تعليما جيدا بحكم الواقع الفاسد الذي يعيشون فيه فالأسرة مشغولة بالبحث عن لقمة الخبز ، وتوفير مستلزمات الحياة اليومية . لا يجد الطفل ولا الصبي ولا الشاب من يرشده إلى السلوك القويم ولا الكلم الطيب فضلا عن العمل المفيد المنتج ، وأضحت ثقافة الزحام تلقي بظلالها الكئيبة على الأسرة والمجتمع والحياة فتفرز ألوانا شاذة من السلوك والتعامل والحوار والمعجم ، تصب غالبا في خانة الحياة المادية الجافة الجرباء الجوفاء!

أما التعليم فحدث ولا حرج . مدارس التعليم العام لم تعد مكانا للتعليم بقدر ما أضحت مكانا للامتحانات الذي يشيع فيه الغش والانفلات ، فقد تكفلت الدروس الخصوصية بتقديم التعليم البديل الذي يتولى معالجة كل المواد عدا التربية الإسلامية التي لا يمثل وجودها قيمة تذكر لأنها لا تضاف إلى المجموع ، وأضحى المعلم يمد يده للطالب كي يتناول أجره ، وتسقط الحواجز بين الاثنين لدرجة أنهما - في بعض الأحيان - يتبادلان السجائر، ويتعاملان مثل صديقين حميمين! وقل شيئا من ذلك عن الجامعات.

خلت المدارس من الطلاب إلا أيام الامتحانات، ولن تجد في فصول الصف الثالث الثانوي أو الثالث الإعدادي طالبا واحدا أيام الدراسة. بقية الصفوف يتفاوت فيها الحضور بحيث لا تستطيع أن تجد فصلا يكتمل حضور طلابه. الحضور في بيوت المدرسين أو مراكز الدروس الخصوصية ( السنتر) أو المنازل انتظارا للمستر!

أبناؤنا ليس أمامهم غير المربي الأوحد وهو التلفزيون بما يقدمه من أفلام ودراما وبرامج مليئة غالبا بالأكاذيب والجهل الفاضح والتسطيح الثقافي وتزييف الوعي والتطبيع مع الحرام والجريمة والاستخفاف بالدين وأهله فضلا عن القدوة الفاسدة!

المادة الصلبة فيما يقدمه المربي الأوحد أعني التلفزيون هي المادة التي يقدمها أهل الهلس ، ويسمونهم أهل الفن ، وما أبعدهم عن الفن الحقيقي الذي يرقي بالبشر ويرقق الحجر . إنهم يقدمون الجريمة والعهر والشرب واللصوصية والخلل الفكري والعقدي بوصفها أمورا عادية لا صلة لها بالحلال والحرام يمارسها المجتمع المسلم بشكل طبيعي اعتيادي!

رأى الحكم العسكري أن أهل الهلس هم نجوم المجتمع الذين يحارب بهم ويكيد العذال من الأعداء والخصوم ، فألح على عرضهم باستمرار على شاشة المربي الفاضل ليكونوا بديلا للأسرة والمدرسة والجامعة . ومن المضحكات المبكيات أنه جعلهم مناضلين وقادة سياسيين يبذلون التصريحات والبيانات المؤيدة للاستبداد والطغيان ، ويكفي مثلا أن نشير إلى ما نسب إلى بعضهم ، فإحداهن تعلن بمناسبة ما قيل عن مظاهرات الغلابة يوم 11/11/2016 " سنواجه النازلين بصدور عارية "، وأخرى تقول : مستعدة أقلع ملط لو سمعت أحدا يهتف ضد الجنرال !.صحيح اللي اختشوا ماتوا ! هذه هي الفلسفة التربوية والتعليمة لأهل الهلس . ولا تسل عن تهميش الفئات الأخرى من علماء ومهندسين وأطباء وأدباء وفلاحين وعمال وغيرهم ..

الهلس الذي تقدمه الأفلام والمسلسلات يؤكد على قيم التفاهة والسطحية والانحطاط السلوكي والخلقي ويقدم لغة مكشوفة مبتذلة لا مكان فيها للرقي والتهذيب واحترام الناس ، كما يرسخ بعض الصور المعكوسة للرجل والمرأة ، فنرى الرجال ( المؤنثين ) والنساء ( الذكور) ، الرجل الناعم مثل الأنثى ، والمرأة الخشنة مثل الذكر، فضلا عن قيام بعض الممثلين بدور امرأة ، يلبسون ملابس النساء ، ويقدمون أنفسهم بوصفهم إناثا معتقدين أن الإكثار من ذلك يخدم كوميديا الهلس التي يقدمونها، ولكن العائد سيئ بالتأكيد لأن الشبان والفتيات يرون فيما يقدم نموذجا وقدوة ومثلا .

قلب المعادلة البشرية في الأنوثة والذكورة له تداعياته في تخريب المجتمع ، وسيولة القيم والعادات والتقاليد التي كانت إيجابية؛ تحافظ على كيان الرجل وجديته ، وحياء المرأة ونعومتها . من المعيب أن يكون النموذج الغالب في أفلامنا ومسلسلاتنا استجداء الرجل المتهافت للمرأة الشرسة في مناظر تجعل المجتمع يمشي على رأسه بدلا من السير على قدميه .

وما لنا نذهب بعيدا والترويج على قدم وساق لفكرة الرقص والتعري ومواجهة المرأة للمجتمع بوصف المسألة فنا رفيعا تحكمه قواعد وتقاليد ، وأنه مهنة مثل بقية المهن الاجتماعية التي تحتاج إلى نقابة تدافع عنها وتحميها ، بينما الواقع يعرفه الناس ويفهمونه جيدا . يقال في المثل الشعبي : فلان  وجهه مكشوف . أي عديم الحياء . فهل نعد الراقصة التي تقدمها بعض الجهات بوصفها أما مثالية نوعا من عدم الحياء ؟ حين تخرج إحداهن على شاشة التلفزيون وقد جاوزت الستين لتخبرنا أن ابنها الرجل يشجعها على الرقص ويطلب منها أن تؤديه على أصوله ، فهو يعني أن الأنوثة تباع بمعرفة الأبناء الذين فقدوا النخوة والمروءة والغيرة .

وها هي إحداهن تصدمنا بقولها إن الراقصة تستطيع أن تربي أولادها أحسن من الأمهات الأخريات(؟) وتعلل ذلك بأن “الراقصة ستعرف كيف تربي جيدا جدا لأنها شاهدت بعينها أشياء كثير جدا، وأنا أعرف الفرق بين ابنتي التي ربتها الراقصة وبين بنات أخريات ربتهن أمهات عاديات”!

لا يعنينا أن الست الراقصة تفخر بأنها أكثر راقصة معروفة على مستوى العالم،  أو إنها ترقص في “فترينة” – كما تدعي - لا يستطيع أحد لمسها .. فالمجتمع له أحكامه ؛ فضلا عن الدين ، ولكن الذي يعنينا هو الإلحاح على تقديم هذا النموذج للأبناء والبنات ، وخاصة حين تتخصص بعض البرامج في تقديمه وأشباهه ، وتطرح قضية التعليم في سياق يجعله أمرا تافها لا قيمة له . ما قيمة المهندسة والطبيبة والصيدلانية والمدرسة والصحفية والمحاسبة والباحثة في العلوم التطبيقية والزراعية وغيرها ، أمام الراقصة التي تغزو العالم بجسدها في مجتمع يفترض فيه أنه يسعى للمعرفة والعلم والثقافة بمفهومها العميق ؟

من المؤسف أن السيدات اللاتي يزعمن أنهن يقفن إلى جانب تحرير المرأة ويستضيفهن التلفزيون بكثافة لا يلتفتن إلى امتهان المرأة واستباحتها في أعمال الهلس التي تعرض على هيئة أفلام أو مسلسلات أو برامج أو مقابلات . ولكنهن يركزن على قضايا هامشية تصب في مجال تخريب الأسرة وهدمها تعبيرا عن عقد  شخصية أو تعبيرا عن مشكلات ذاتية أو تنفيسا عن فشل اجتماعي .

ومهما يكن من أمر فإن تربية العوالم لا تصلح لبناء مجتمعات تريد النهوض وتسعي للمعرفة والتقدم ، كذلك فإن تعليم الغوازي لا يحقق ما تنشده الأوطان من عزة وفخار في مجال البناء الحضاري والمشاركة الإنسانية . وأعتقد أن الطريق إلى بناء المجتمع يبدأ من استعادة البيت لدوره في التربية بمشاركة المسجد والمدرسة ، والنهوض بالتعليم نهوضا حقيقيا يضع في حسبانه تطهير وسائل الإعلام من الهلس ورموزه !

الله مولانا . اللهم فرج كرب المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم !

وسوم: العدد 692