الإسلام في أفريقيا الحلقة (24)
الدولة الأغلبية
كانت بداية نشأة الدولة الأغلبية على يد إبراهيم بن الأغلب الذي قلّده منصب إمارة إفريقية الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة (186هـ/802 م)، وكانت هذه الإمارة بحق امتداداً للخلافة العباسية التي بقيت وفية للعباسيين حتى أخر ملوكها.
وتميزت هذه الدولة بعروبتها الإسلامية بأوسع ما تعنيه هذه الكلمة من معنىً. فقد كانت رشيدة الأمر، حكيمة السياسة، ديدنها إدماج البربر - حديثي الإسلام - بالعرب، وتحويل نشاطهم إلى الخارج، وصرفهم عن النزاعات والثورات الداخلية، مع صرف النظر عن معاداة الأجزاء المنفصلة عن الخلافة العباسية كالأندلس والمغرب الأقصى. حيث راحت تنظر بعين طموحة نحو الفتح والتوسع في قارة أوروبا والتركيز على السياسة الخارجية من خلال العلاقات مع الدول المجاورة لها على أساس القوة والسطوة التي ميزت سمعة الدولة العباسية في صدر قيامها في أنحاء العالم آنذاك.
لقد كان أول ملوك هذه الدولة ومؤسسها - كما قلنا - إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي، الذي كان - كما وصفه رواة التاريخ وتراجم الرجال في عصره - : وكان من رجال الدنيا الأفذاذ في العلم والسياسة وحسن التدبير والدراية بالحروب ومكانه بها، وكان حافظاً لكتاب الله عالماً به، وكان فقيهاً أديباً، وشاعراً خطيباً، من ذوي الرأي والنجدة، والبأس والحزم، جريء الجنان، ذرب اللسان، لم يلي إفريقية أحد أحسن سيرة وسياسة ورأفة بالرعية، ولا أوفى بعهد ولا أرعى لحرمة منه.
قال فيه أستاذه الليث بن سعد: ليكونن لهذا الفتى شأن، فكان كما تنبأ هذا الشيخ الفقيه المتبصر العارف بالرجال حسنة من حسنات الدهر في توطيد دولة الأغالبة في إفريقية، وإزالة أسباب الإحن التي كانت بين البربر والعرب، والتي أدت إلى حروب وثورات وأحداث دامية.
واستطاع هذا الرجل النبيه أن يخمد كل الفتن ويجتز رؤوسها ويشيد دولة قوية مهابة الجانب، عصية على كل حاقد أو حاسد.
بدأ إبراهيم ولايته متمتعاً بثقة أوساط الفقهاء والعلماء والزهاد، نظرا لتكوينه، وقد كان قريباً من هذه الأوساط.
وكان إبراهيم رجلاً سياسياً ماهراً وداهية، مما جعله مقرباً من جنده وأعوانه ومحبباً إليهم، وكان هذا كافياً لحملهم على طاعته وامتثال أوامره. وكان وسطاً في تصرفاته معتدلاً في أحكامه دون تكلف أو رياء أو مغالاة، وهذا يؤكده عدم إخضاع مدة حكمه إلى الحدة أو إهراق الدماء، فقد كانت قراراته تأخذ طابع الاتزان والاعتدال.
واجه إبراهيم في بواكير حكمه الأولى صنفين من المعارضين المتصفين بعناد كبير، فكانوا يتربصون الزلات لينقضوا ويضربوا ضربتهم.
كان الصنف الأول من المعارضين يتمثل في طبقة الأعيان، والصنف الثاني يمثله الفقهاء، أي أعيان الفكر في المدن، خاصة بالقيروان، وكان على إبراهيم أن يكون حذراً في معاملته مع هؤلاء وهؤلاء دون أن يقطع شعرة معاوية مع أي من الفريقين.
اعتنى إبراهيم عناية كبيرة بالجيش، فمنحه رعايته، وأغدق عليه أعطياته، وخص القادة والأمراء بعطفه واحترامه وتقديره، فقد قرب عمران بن مجالد منه، وقاسمه القصر الذي يسكن، وكان رفيقه في كل تحركاته، كذلك كان حمزة بن السبال يتمتع لديه بحظوة، فكان لا يدانيه عنده أخ ولا ولد ولا أحد من عشيرته، كما ولى (عامر بن المعمر)على شرطته.
ولكن كل هذا التقدير وهذه الرعاية المتمثلة بالمناصب والأعطيات لم تكن لترضي طموح ورغبات وأطماع هؤلاء الأمراء، بل لم يزدهم ذلك إلا إيغالاً في إثارة الفتن. ولم تكن المصاعب التي واجهها من قبل أعيان الفقهاء أقل وقعا عليه.
فهذا القاضي عبد الله بن غانم لم يدخر وسعاً في إهانته على أعين خاصته وجلسائه، فقد كان يرفض تارة مجالسته، ويتمادى تارة أخرى في سلطته ويمس بوضوح بكرامته، ويتحداه جهاراً نهاراً غير آبه بسلطانه. فقد قدم له مرة إبراهيم زجاجة ملئت سماً، متباهيا بثمنها الباهظ المرتفع، فأخذها ابن غانم منه وضرب بها أحد أعمدة قاعة الملك فهشمها ببرودة، صائحاً: افأترك معك ما يقتل الناس؟ فترك إبراهيم قاضيه يوبخه صامتاً ساكتاً.
ومن بعض ما روي عن ابن غانم أنه قال: دخلت مجلس إبراهيم بن الأغلب، ولم يكن حاضراً، فلما أشرف إبراهيم على المجلس قام كل من كان في البيت غيري، فجلس مغضباً ثم قال لي: يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تقوم كما قام إخوانك؟ فقلت له: أيها الأمير! حدّثني مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار)).
فنكس إبراهيم رأسه وأطرق دون أن ينبس بكلمة واحدة. إن هذا الموقف يظهر لنا ما كان يتمتع به إبراهيم بن الأغلب من رباطة جأش وحلم وأناة لتلافي أي صدام مع الفقهاء الذين حملوه على قبول الإمارة دون ابن أخيه الطفل. وقد تحمل إبراهيم الكثير من قاضيه ابن غانم إذ لم يكن من السهل عليه إزاحته من منصبه وهو ابن أحد الأمراء الكبار الذين كان لهم دور بارز وخطير في معركتي القرن والأصنام سنة (125هـ/742م)، وكان مدعوما من قبل الخليفة هارون الرشيد الذي كان يخصه بالود والاحترام، وهذا كله جعل إبراهيم بن الأغلب يحتمله حتى وفاته في ربيع الثاني سنة (190هـ/ 806م)، ويعلن حزنه الشديد عليه. أما ضمنا فقد كان في غاية السرور بموت ابن غانم، فقد روي عنه أنه قال: والله! ما ولينا إفريقية ولا أمنا حتى مات.
وسوم: العدد 699