هل تعرفون بول فندلي؟

د. عبد السلام البسيوني

بول فندلي سيناتور أمريكي سابق، كتب كتابين مشهورين عن المسلمين والعرب، يواجه بهما نظرة الغربيين للإسلام، محاولاً تصحيح الصورة النمطية الزائفة التي يصنعها إعلام التزيف والتحريف، مع سبق الإصرار والترصد!

وفي تحليل له عن كيفيات تكوين الصورة النمطية في نظر الأمريكيين للإسلام قال إن الغربيين لم يكونوا يعرفون شيئاً عن العرب والإسلام.. بل يحكي – والعهدة على محمد أبو زيد – أنه عندما أبلغ جاره أنه بصدد تأليف كتاب عن المسلمين رد مذهولاً: ماذا تفعل؟ وكان هذا حال جميع من عرفوا بالأمر، ثم انصرفوا عنه باعتبار أن هذا غير متصل بحياتهم!

حكاية أخرى يوردها فندلي عن معلمة - يصفها بأنها متطوعة عطوفة عملت بإخلاص سنوات طويلة - كانت تتحدث عما تسميه شعباً أمياً وبدائياً وميالاً إلى العنف في مناطق صحراوية في الأراضي المقدسة، وتواظب على تكرار جملة: إنهم ليسوا مثلنا.

ويطرح بول فندلي في كتابه لا سكوت بعد اليوم: مواجهة الصور المزيفة عن الإسلام في الغرب:

Silent No More: Confronting Americas False Images of Islam) )

والذي صدرت ترجمته العربية عن دار العبيكان علاقة الأمريكيين العاديين بالإسلام، ومدى معرفتهم وفهمهم له، والصور المزيفة التي يحملها الأطفال منذ الصغر في أذهانهم عنه، والتي تستمر معهم طوال حياتهم؛ دون أن يواجه أحد هذا الكم الهائل من الصور النمطية المضللة عن الإسلام والمسلمين، والتي تتدفق عاماً بعد آخر في صفوف مدارس الأحد في أنحاء أمريكا، ودون أن يواجه أحد الطعن؛ مع أن الملايين القابلين للتأثير تقبلوا هذه التضليلات كحقيقة مسلم بها، ونقلوها كما هي؛ بلا تثبت أو بحث، إضافة إلى ملايين أخرى مستعدين لحمل نفس الكذبة.

وقد نشرت الحياة اللندنية قراءة للكتاب أختصرها فيما يلي:

يشكل كتاب بول فندلي: لا سكوت بعد اليوم، استمراراً للنهج الذي اتبعه، دفاعاً عن صورة العرب والإسلام في الولايات المتحدة، فهو يروي رحلته الاستكشافية في عالم الإسلام، التي قادته للتعرف إلى ديانة تقوم على التسامح واحترام قيمة الانسان وكرامته، يعتنقها مئات الملايين من البشر في أنحاء العالم، وأقلية نامية في الولايات المتحدة تواجه، يومياً، التحديات الناشئة عن التمييز والأفكار المضللة التي تسود مجتمعاً تدين غالبيته الساحقة بالمسيحية. لقد جعلته تلك الرحلة الطويلة يعقد العزم على العمل لكسر حاجز الجهل بالإسلام والمسلمين، وتفنيد الأضاليل؛ لتبديد سوء الفهم.

وفندلي كان عضواً في الكونغرس، ممثلاً لولاية إيلينوي لمدة عشرين سنة، حمل خلالها لواء الدفاع بجرأة كبيرة عن الحقوق العربية بعامة، والفلسطينية بصفة خاصة، وواجه - بشجاعة نادرة- الضغوط التي مارسها ضده اللوبي اليهودي. وبعد خروجه من الكونغرس عام 1982م واصل العمل لتنوير الرأي العام الأمريكي حول حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي، فأصدر كتاب: من يجرؤ على الكلام، الذي يلقي فيه أضواء كاشفة على القوى الصهيونية الضاغطة في الولايات المتحدة، ومدى تأثيرها في صناعة القرار وفي سياستها الخارجية. ثم أصدر كتابه الثاني: الخداع، الذي يفضح فيه أساطير اليهود والصهاينة ودعاياتهم، والأضرار التي تلحق بالولايات المتحدة بسبب انحيازها إلى إسرائيل.

ويشرح فندلي الخلفية التي دفعته إلى وضع كتابه فيقول: لا أكاد، في هذه الأيام، أصدّق أن استكشافي غير المخطّط لعالم الإسلام بدأ قبل ربع قرن، في بلد ناءٍ صغير، لم يزره أي مسؤول أمريكي منذ سنين طويلة. ذهبت إلى هناك في مهمة إنقاذ، لا صلة لها بالإسلام، غير أنها متصلة تماماً بمحنة إيد فرانكلين، وهو ناخب في ولاية إيلينوي سجن بتهمة تجسّس ملفّقة. ففي عام 1974، منتصف فترة عملي التي استمرت 22 سنة، كنت فيها عضواً في مجلس النواب الأمريكي، وجدت نفسي أسافر بمفردي إلى أعماق عالم غير مألوف هو الشرق الأوسط العربي، لأسعى إلى إطلاق سراح فرانكلين.

كان المكان الذي قصدته هو عدن، عاصمة الجمهورية اليمنية الديموقراطية الشعبية، وكنت - مثل معظم الأمريكيين حينذاك - أحمل عن الشرق الأوسط صورة كئيبة، ولم تفعل الحكومة الأمريكية شيئاً لتبديد هواجسي!

وكم كانت دهشتي كبيرة، عندما رحّب وفد من مسؤولي حكومة عدن بوصولي، واصطُحبت إلى دار ضيافة رسمية، وزُوّدت بسيارة وسائق خلال إقامتي. وبعد ثلاثة أيام من المناقشات مع مسؤولين، والتجوّل لمشاهدة معالم العاصمة، والانتظار المشوب بالقلق، قابلت الرئيس سالم ربيع علي؛ الذي تحدّث بالتفصيل عن شكاوى عدن من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. ثم أخبرني أنه سيطلق سراح السجين، ويُعهد به إلى تلك الليلة، ويُسمح له بمرافقتي لدى رحيلي في صباح اليوم التالي.

عدن كانت أول محطة لي في استكشاف العالم الإسلامي. وفي المحطات التالية التي توقفتُ فيها، فتحت عينيّ على ثقافة مستندة إلى الشرف والكرامة وقيمة كل إنسان، علاوة على التسامح وطلب العلم؛ وهي معايير، عرفت، في ما بعد، أنها متأصّلة عميقاً في الدين الإسلامي. إنها أهداف كانت ستلقى استحسان أجدادي المسيحيين.

وفي ذلك البلد النائي تعرّفت، للمرة الأولى، إلى ديانة يؤمن بها أكثر من بليون نسمة يشغلون أنحاء العالم كافة. إنهم جماعة دينية لا يفوقها عدداً سوى المسيحيين الذين يبلغ تعدادهم ما يزيد على بليوني نسمة. لم أكن أدرك، في حينه، أنهم كانوا في طور أن يصبحوا أقلّية كبيرة ومتنامية في أمريكا. كما لم أدرك أن بينهم قادة في مجالات الأعمال والتجارة والعلوم والفنون والجامعات والمهن والرياضة. ولم أكن واعياً حقيقة فحواها أن الصور النمطية الشائعة الانتشار شوهت كثيراً تصوّرات الناس عن المسلمين، على رغم مساهماتهم المثيرة للإعجاب في المجتمع الأمريكي؛ وجعلت طاقتهم الكامنة الكبيرة، المسخّرة للخدمة العامة، غير معترف بها، ولا يستفاد منها إلا لماماً.

دافع عنّي زملاء يهود ديمقراطيون وجمهوريون، وقفوا ضدّ ما اتّهمت به. إلا أن الوصمة كانت انتشرت على نطاق واسع، إلى حدّ جعلني أستنتج أنه يستحيل محوها. وحتى هذا اليوم عندما أقابل يهودياً، للمرة الأولى، أتساءل إن كان قد حكم عليّ مقدّماً على أساس صفة التعصّب المقيتة. لقد جعلتني هذه التجربة الشخصية مع الصور النمطية أصمّم بحزم على الاحتجاج، عندما يعاني آخرون تُلصق بهم صفات مضلّلة؛ وكانت أحد العوامل التي دفعتني إلى تأليف هذا الكتاب.

كان فهمي له كالدرر تتبدّى الواحدة بعد الأخرى مع مرور الزمن. وعرفت ما عرفته عن الإسلام من عشرات المسلمين العاديين الذين يعملون في مهن مختلفة، ويقطنون في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة وخارجها. إنني أقدّم الإسلام كما يفهمه ويمارسه المسلمون العاديون. وفي حين أنني أعرض فيه نقاط اختلافهم في بعض مسائل العقيدة والممارسة، أعرض وحدتهم حول المبادئ الأساسية التي تتقدّم على كل ما عداها.

كنت، قبل بدء رحلتي، أحمل هموماً متّسمة بالتشاؤم عن صراع وشيك بين الحضارات، صراع بين الحضارات الشرقية والحضارات الغربية. سمعت الكثير عن الأخلاق اليهودية المسيحية؛ بيد أن أحداً لم يتحدّث عن الأخلاق اليهودية المسيحية الإسلامية. لقد أصبح الإسلام، في عملية الاستبعاد هذه، شيئاً غريباً وبعيداً ومثيراً للقلق في ذهني. وبسبب إحجام المسلمين، أو غيرهم، عن تصحيح هذا التصوّر، اعتقدت أن المسيحية واليهودية مرتبطتان معاً، وتشكّلان جبهة الغرب المتمدّن والتقدّمي، على الخط الفاصل العظيم الذي يقف على جبهته الأخرى الإسلام، الذي اعتبرته خطاً، القوة المتخلّفة والخطرة في الشرق العربي. لقد انتشرت هذه الصور النمطية في الحياة اليومية في أمريكا؛ وشكّلت نظرة إلى العالم أدرك، حالياً، أنها غير صحيحة، وأنّها مضلّلة.

هذا لا يعني أنني، الآن، أنظر إلى كلّ المسلمين نظرتي إلى شخص كامل الصفات. فسوء تصرّف بعض المسلمين، شأنه شأن سوء تصرف بعض المسيحيين واليهود، ينتهك التزاماتهم الدينية. إنه نفاق ويستحقّ الشجب، وفقاً لأيّ مقياس. بيد أنني أجد معظم المسلمين طيّبين أرحّب بهم كجيران. إن الإسلام ليس شرقياً محضاً، كما أنه ليس عربياً في معظمه. ويفوق عدد المسلمين، في الولايات المتحدة اليوم، عدد اليهود. وهذا يعني أنه ينبغي اعتبار المسلمين، في المعني الديموغرافي، أمريكيين، شأنهم شأن اليهود.

اكتشفت خلال زيارتي عدن، أن للإسلام واليهودية والمسيحية جذوراً مشتركة تتّصل بالنبي إبراهيم، وأن هذه الديانات تشترك في معتقدات وتقاليد ومعايير سلوك مهمة.

وتعلّمت، في مراحل لاحقة من مسيرتي، أن الإسلام، مثل المسيحية واليهودية، متأصّل في السلام والانسجام والمسؤولية العائلية واحترام الأديان والتواضع والعدل لكلّ البشر، تحت رحمة إله واحد. إن الإسلام دين عالمي متعدّد الثقافات، ومتعدّد الأعراق، يدعو إلى الأخوّة والمساواة بين الناس جميعاً، بغضّ النظر عن العرق أو الجنسية أو العقيدة الدينية.

ومع هذه المعتقدات الأساسية والمشتركة، يواجه المسلمون مصاعب يومية في مجتمع أمريكا المسيحيّ في غالبيته. إن معظم الأمريكيين لا يعرفون أيّ مسلم؛ وما يزالون غافلين عن وجود المسلمين المتنامي بوتيرة سريعة في الولايات المتحدة. ولم يناقشوا يوماً الإسلام مع أي شخص مطّلع على هذا الدين. ولم يقرؤوا يوماً آية واحدة من القرآن الكريم. وتنبع معظم تصوّراتهم عن الإسلام من الصور السلبية المزيّفة التي تظهرها التقارير الإخبارية، والأفلام والمسلسلات التلفزيونية، والحوارات في الإذاعة والتلفزيون. كما أن معظم الأمريكيين لا يتعمّد تجاهل المسلمين، أو حمل آراء معادية لممارساتهم الدينية وعاداتهم. إلا أن التحدّيات التي يواجهها المسلمون تماثل، في حدّها الأدنى، قساوة التمييز الذي لقيه اليهود في الولايات المتحدة، في الماضي القريب.

وأهدف من هذا الكتاب إلى التفاهم والتسامح والتعاون بين الأديان. أنا لست مبشّراً يحاول أن يهدي الكفّار إلى الدين الإسلامي. كما أنني لست حجّة في الإسلام، ولا أسعى إلاّ إلى تعزيز فهم الدين فهماً صحيحاً، وهو هدف يتطلّب قيادة كفؤة ومثابرة، ولا سيما من جانب المسلمين. وينبغي أن يتوفّر للقيادة مستوى في المجتمع ممثّلاً بالأسرة والمحلّة والمدرسة ووسائل الإعلام؛ والأهمّ من كلّ شيء في ميدان العمل السياسي. ولا بدّ أن يصبح المسلمون، بأعداد متزايدة، مشاركين فاعلين في الحلبة السياسية الأمريكية.

زرت واشنطن العاصمة مراهقاً، ووجدت العنصرية متفشّية على مسافة بضعة مبانٍ من قبة الكابيتول. وفي عصر يوم من أيّام تلك الزيارة، أقلّتني حافلة انتقلت بي عبر الجسر التذكاري. وعندما وصلت الحافلة إلى الجهة الأخرى، حيث تقع فرجينيا، توقّف السائق، ورفض مواصلة الرحلة إلاّ بعد انتقال الركاب الأمريكيين الأفارقة إلى المقاعد الخلفية. شعرت بالانزعاج من هذا السلوك الذي كان من الآثار المهينة للعبودية.

وخلال أداء الخدمة العسكرية في الحرب العالمية الثانية، اكتشفت العنصرية المتأصّلة عميقاً في البحرية الأمريكية. كان الأمريكيون الأفارقة يُعزلون عن الآخرين، ويكلفون عادة مهامّ وضيعة. وكان الضباط جميعاً من البيض. وحيال ذلك، قرّرت أن أضع مسألة الارتقاء بحقوق الإنسان في جدول أعمالي بعد الحرب. وصمّمت على حتميّة اجتثاث العنصرية.

وعندما أقسمت اليمين، بصفتي عضواً في مجلس النواب الأمريكي في يناير 1961م، لم تكن أي من المسائل التي شعرت بضرورة الاهتمام بها، تخصّ المسلمين أو الشرق الأوسط.

إذ لم تكن لديّ، في حينه، أي فكرة عمّا تعنيه كلمتا الإسلام والمسلمين. ولو أن أحداً طلب مني أن أُسمّي أقطار الشرق الأوسط حينذاك، لما استطعت ذكر سوى القليل. لم أكن أعي المسائل المعقّدة والمصالح الضخمة التي تتركز في تلك المنطقة. وكانت انطباعاتي القليلة عن الإسلام والشرق الأوسط غير دقيقة. وكنت في ذلك شريكاً لمعظم زملائي في مبنى الكابيتول الذين كانوا على مستوى مشابه من الجهل واللامبالاة بالعالم الإسلامي.

بيد أن أهدافي نشأت من نزعة مثالية على نطاق كبير. أردت المساعدة في سن قوانين ترتقي بحقوق الإنسان، ولا سيما حقوق الأمريكيين الأفارقة، وتشجّع على قيام مؤسّسة دولية جديدة تمنع الحرب. وعملت بحماسة لسنّ قوانين الحقوق المدنية في الستينيات، على رغم علمي أنني كنت أصوّت تأييداً لمقترحات مرفوضة من عامّة الناس في المنطقة التي أمثّلها. وعندما أتذكّر تلك الحقبة، يبرز اقتراعي، تأييداً لتلك التشريعات، بوصفه الإنجاز الأكثر بعثاً على الرضا في مسيرتي في الكونغرس.

وخلال محادثة مع السفير المصري أشرف غربال، الذي نمت بيني وبينه صداقة متينة، سألته عرَضاً إن كان مسلماً؛ فرمقني بنظرة تنم عن الدهشة؛ إلا أنه أكّد ذلك بودّ. كنت آنذاك، في الحادية والخمسين من العمر. وحتى ذلك الوقت لم يكن للمسلمين أي وجود في حياتي. وفي 1972م، وجّه إلينا غربال دعوة لزيارة مصر، وقضينا أسبوعاً مثيراً هناك، شاهدنا خلاله آثار مصر الرائعة، واستوقفتنا مشاكلها الأمنية الراهنة. وقوبلنا بالترحاب في البيوت والمكاتب، وقابلنا عدداً من المسلمين. وألّفت كتاباً في عنوان من يجرؤ على الكلام. وكان مثار دهشة لي ما لقيه الكتاب من رواج واسع فور صدوره؛ فقد تجاوزت المبيعات 300 ألف نسخة. وتدفقت من القرّاء رسائل متّسمة بالحماسة. كذلك تلقيت أكثر من تسعمئة، رسالة خلال الأشهر القليلة الأولى من صدوره. وأجريت معي، ابتداء من صيف 1985م أكثر من أربعين مقابلة، على الساحلين الشرقي والغربي وفي المدن الكبيرة الواقعة بينهما.

ولبّيت، خلال فترة ثلاثة أعوام، دعوات كثيرة لإلقاء محاضرات في الكلّيات والجامعات الأمريكية، نظّمتها مجموعات طلابية عربية. كما أنني، في مناسبات شتى، حاضرت في كندا واليمن والأردن والإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية والعراق وإنجلترا ومصر. ومن جرّاء هذه المحاضرات، شاركت في تجمّعات كثيرة كبيرة وصغيرة. واستمعت، خلال المناقشات غير الرسمية التي أجريتها في مدن عدة، إلى مواطنين من أصل عربي، شرحوا لي المشاكل الاجتماعية والسياسية التي يواجهونها في الحياة اليومية.

أحدث الكتاب تغييرات عميقة في حياتي، وفتح أمامي أبواباً جديدة مثيرة. فقد أسهم في مجيء المسلمين إلي، وذهابي إليهم. وفي عام 1989م، شكّلت الحماسة لفكرة كتابي حافزاً لمجموعة من الرجال والنساء، اندفعوا إلى مساعدتي على تأسيس مجلس المصالح القومية وهو منظّمة مقرّها في واشنطن، وتضم زهاء خمسة آلاف أمريكي يسعون إلى تبنّي CNI سياسات أمريكية متوازنة في الشرق الأوسط. وساعد عدد من المسلمين، إضافة إلى مسيحيين ويهود، على عقد الاجتماع التنظيمي للمجلس.

وفي مايو 1989م، وصلتني رسالة من أحمد ديدات، رئيس المركز، دعاني فيها، مع زوجتي لوسيل، لزيارة كيب تاون، حيث أراد مني أن أشاركه في مخاطبة تجمّع عام.

قبلنا الدعوة، وقطعنا نصف الطريق حول العالم إلى جنوب إفريقيا. وكانت تلك الرحلة واحدة من رحلات عدة شاركتني فيها لوسيل، على طريق استكشاف الإسلام. وهذه تجربة أثرَت حياتنا، وعقدنا خلالها صداقات مع ناس ينتمون إلى أديان أخرى. ساهمت في توسيع أفقنا الديني أكثر من ذي قبل، وجعلتنا نشعر بالارتياح إلى صحبة ناس من عقائد دينية أخرى، ونعزف عن الادعاء بأننا، في ديانتنا، أقوم أخلاقاً من الآخرين.

دفعتني تلك التجارب إلى الاحتجاج على التحيّز ضد العرب في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، عندما عدت إلى مبني الكابيتول من اليمن. انتقدت فشل حكومتنا في إعادة العلاقات الديبلوماسية مع حكومة عدن ودول عربية أخرى، كانت قطعت علاقاتها مع واشنطن إبّان حرب يونيو 1967 . وطالبت الحكومة الأمريكية بإلحاح، بوقف تقديم المساعدات كافّة إلى إسرائيل، حتى تكفّ عن انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، وتوقف الهجمات العسكرية ضد لبنان. وكانت حجتي أن الانحياز ضد العرب، في المدى البعيد، محفوف بالمخاطر، يلحق الضرر بمصالح الولايات المتحدة ومصالح إسرائيل أيضاً.

استغرقت حملة الاحتجاج ضد هذا التحيّز ثمانية أعوام، واجهت خلالها معارضة متصاعدة. كنت وحدي الذي يناصر اتّباع سياسة متوازنة، وهو موقف كان يلقى معارضة قوية في مبنى الكابيتول، وفي ولاية إيلينوي. وأصبحت الحملة، في النهاية عاملاً رئيسياً من العوامل التي أدّت إلى هزيمتي يوم الانتخابات في نوفمبر 1982م وسوف أوضح في الصفحات التالية هذه الصور النمطية، المأخوذة في معظمها، من تجاربي الشخصية. وأقدّم لمحة، مجرّد لمحة، عمّا يجري عمله لتعزيز الفهم الدقيق للإسلام. فهذا الكتاب، في ناحية من نواحيه، مفكّرة لرحلتي الاستكشافية التي صحّحت، خلالها، صوراً نمطية حملتها طويلاً. ولكنه أكثر من ذلك: إنه سجّل جهود متواصلة بذلها مسلمون ومسيحيون ويهود أيضاً، هم رواد شجعان يشكّلون الطليعة في قضية مهمة، ولكنّها مُهملة منذ وقت طويل. وأنا واثق أن هناك الآلاف غيري من الذين لهم في هذا المجال أعمال مهمّة، إلا أنني لم أعلم بها.

إن أتباع الديانة الإسلامية - بما يمتلكون من معرفة وتجارب وحوافز - هم الأقدر على الدفع قدماً بعملية التصحيح. ولحسن الحظ، كان انهماك المسلمين المباشر في هذه القضية مهماً ومتنامياً. ولكن من المؤسف ألا يشارك معظم المسلمين فيها. وبإمكاننا أن نفهم تردّدهم، إذ إن الكثير من المهاجرين قادمون من بلدان ينعدم فيها النشاط السياسي، أو ينحصر في حدود ضيقة. وهم يتردّدون في ولوج مجال يبدو لهم بلا قواعد ولا ضوابط، وينذر بسوء العواقب، وغالباً ما يورّط المرشحين في عمليات الرشق بالتهم والتهم المضادة.

أصبح دوري، كعامل تغيير في هذه العملية، موضوعاً لمناقشة جرت بعدما ألقيت، في سبتمبر 1999 ، محاضرة أمام تجمّع إسلامي في بومونا في كاليفورنيا. فقد سمعت ملاحظاتي طبيبة الأسنان الشابة، ناز حق، التي تقدّم خدماتها في مستوصف قريب ساعدت على تأسيسه للأطفال الفقراء؛ فجاءتني لتطرح علي هذا السؤال: بصفتي مسلمة، أرغب في معرفة السبب الذي دفعك كمسيحي أن تصبح شديد الاهتمام بالانطباعات الخاطئة عن الإسلام. هل هو شخص أم حدث  معيّن؟

لم يسبق أن وجّه إلي أحد هذا السؤال. توقفت برهة لكي أستجمع أفكاري، ثم قلت لها إن السبب كان عملية تراكمية؛ فقد اقتنعت، بمرور السنين، بأن تصحيح هذه الأفكار الخاطئة خطوة مهمّة نحو سلام عادل في الشرق الأوسط، بل خطوة جوهرية. ولم يكن من الصعب أن أفهم لماذا استجابت لهذا التصريح بنظرة متّسمة بالحيرة.

ولحسن الحظ، منحتني بعض الوقت لأشرح أن الصور النمطية عن الإسلام مؤذية، في رأيي، للأمريكيين جميعاً، وليس للمسلمين وحدهم. فهي تشكّل، في نطاق الأحياء السكنية، عقبة في وجه التسامح والانسجام بين الأديان، إذ تسبب الانزعاج والارتياب والقلق وحتى الخوف، وتؤدّي إلى العنف أحياناً. أما في واشنطن، فإنها تخلق مناخاً غير ملائم، تُسنّ فيه القوانين التي تلحق الضرر بالحريات المدنية، مثل القانون الذي يسمح بتبنّي الأدلّة السرية في المحاكمات التي تنظر في قضايا طرد الأجانب. وعلى مستوى أعلى تقوّي هذه الصور النمطية عن الإسلام الانحياز في السياسة الخارجية؛ وتلحق الأذى بسمعة أمريكا، وتعيق، على نحو خطير، قدرة بلدنا على النهوض بأعباء القيادة الدولية الفعّالة لحقوق الإنسان، وليس لحقوق المسلمين وحدهم.

وقبل أن أغادر القاعة، خاطبت ناز حق لكي أضيف بعض الأفكار. قلت لها إنني لست راضياً عن الجواب الذي أعطيته، لأنني أغفلت شرح كيفية إزالة الصور النمطية بأسرع طريقة ممكنة. فإزالتها تتطلّب العمل السياسي، أي السياسة بمعناها الأوسع. والأمريكيون جميعاً، من مسيحيين مثلي ومسلمين، يتحمّلون مسؤولية العمل. واعترفت لها بأن عملها يساعد الأطفال الفقراء. لكنني طلبت منها بإلحاح تولّي مسؤولية كبيرة في الميدان السياسي.

فالصور النمطية عن المسلمين تنبغي إزالتها، وإزالتها بسرعة. وقلت إن قبول المسؤولية في هذه القضية ينبغي ألا يؤثّر في خدماتها للأطفال. فأداء دور بنّاء في الميدان السياسي هو، في الواقع، خدمة للأمريكيين من الأعمار كافة.

ألف شكر سيناتور فندلي!

وسوم: العدد 699