خطاب ناري إلى...
الحروب بصفة عامة هي عبارة عن جرائم يرتكبها الإنسان بحق الإنسان، وفي الحروب يتخلى الإنسان أول ما يتخلى، عن مشاعره الإنسانية، وعن خصلة التسامح التي امتاز بها الإنسان، ويخرج عن كونه أحد أفراد المجتمع الإنساني. عندها يكون قد أعدّ نفسه جيداً ليكون كائناً عدوانياً بامتياز، فيمارس كل الانتهاكات بدمٍ باردٍ لأنه يكون خارج المنظومة الإنسانية، فيمارس ممارسات غير إنسانية، ويُقلّد بذلك أشرس أنواع الحيوانات المفترسة، فإن رأتْ جثة إنسان، لا تأبه بها، بل تعبث بها، وتتركها في العراء، وكذلك يسلك هذا الإنسان، فإن رأى جثة لأخيه الذي قتله، يعبث بها، ويتركها في العراء، بل يفتخر وهو يأخذ صوراً تذكارية في انتهاكاته بحق هذه الجثة الإنسانية الهامدة.
درجات الحب ودركات الحقد
أجل، يستطيع الإنسان أن يرتقي في درجات الحب، وهو يمارسه، وليس من أحد البتة غير مهيأ كي يمارس الحب، ويرتقي في نور درجاته، كما ليس من أحد غير مهيأ كي يمارس الحقد، ويهوي في ظلمة دركاته، وهذه قاعدة إنسانية عامة، في ثنائية الارتقاء، والسقوط لايُستَثنى منها أحد، وهي ليست ثابتة، بل مُتَحَرِّكة، فَمَهما ارتقى الإنسانُ في درجاتِ الحب، يمكن له أن يتخلّى عن كل ذلك، فيهوي في دركاتِ الحقد، ومهما هوى الإنسان في دركات الحقد، فيمكن له في مرحلة ما أن يتخلى عن كل ذلك، فيرتقي إلى درجات الحب، فلذلك يبقى الارتقاء قائماً بالنسبة للحاقد، ويبقى احتمال التراجع قائماً بالنسبة للمحب.
حلول استثنائية لحروب استثنائية
إذا اتفقنا على هذا المبدأ، سيكون كل شيء ممكناً، ونحن نبحث عن حلول استثنائية لحروبنا الاستثنائية، وهذا ما يجعلنا أول ما نفعله، أن يطرح كل حامل سلاح سلاحه من يده، ويحمل بدلاً عنه وردة، وكل مَن يطلب أسلحة من دول أخرى، يستبدل ذلك بطلب الورود، وإذا أرادت الدول أن تُعبّر عن صداقتها الحقيقية للشعب السوري، عليها ألاّ تزوّده إلاّ بالورود، وليس بالسلاح، لأن حاجتنا الحقيقية، هي إلى الورود، وليس إلى السلاح، حاجتنا الحقيقية هي إلى زرع الورود في تربتنا، وليس زرع الألغام، فكل طلقة تصل، هي مشروع قتل مواطن سوري، وكل وردة تصل، هي مشروع حفاظ على حياة مواطن سوري. وهذا أقل ما يمكن - للأصدقاء- أن يفعلوه إذا أرادوا أن يُكَفّروا عن كل تلك الانتهاكات الإنسانية الفظيعة التي ما كانت لتُرتَكَب لولا أسلحتهم، فنحن لا نحتاج إلى إدانات من ملوك، وأمراء، ورؤساء، وقادة، في وسائل الإعلام وهم يَتّكئون على الأرائك، نحتاج إلى عدم إرسال أدوات هذه الانتهاكات، وعندها لن تكون ثمة انتهاكات حتى يدينوها.
حمايــة الناس في الحروب
لاتهمني كل قوميات العالم، ولا تهمني كل لغاته، ما يهمني بالدرجة الأولى، هو الإنسان. فإن لجأ إنسان إلى مغارة وقام بحراسته أي حيوان، فإن ذاك الحيوان هو خير من إنسان يخون حراسته لهذا الإنسان، ما يهمني هو الذي يحمي الإنسان، فإن كان الحامي يهودياً، أو مسيحياً، فهو أفضل من مسلم يخون حراسته لهذا الإنسان، ولذلك فإن البلاد الإسلامية إن كانت جادة في كل تلك الإدانات، هي الأولى بأن تحقق الحماية والعلاج لمتضرري هذه الحرب، بدل أن تغلق أبوابها في وجوههم وتتركهم فرائس لحيتان البحار، أو لا ذّين من المسلمين بغيرهم، ولذلك رأينا تَحوّل بعض المسلمين إلى المسيحية، كونهم قدر فَرّوا من المسلمين ولاذوا بالديار المسيحية التي فتحت أبوابها أمامهم، عندما أغلقت الديار الإسلامية أبوابها في وجوههم، ومِنهم مَن يحمل الجرحى والأطفال، وقد تم قصف الجرحى والأطفال وذويهم على الحدود الإسلامية وبأيدٍ إسلامية، وفي أفضل الأحوال تم تركهم في العراء فريسة لعوامل الطقس والحيوانات المفترسة، أو ينزف الجرحى حتى الموت. وقد تحوّل القائمون على الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلى موظفين ، نراهم من مائدة رئيس إلى مائدة آخر، وهم يرتدون ثياباً أنيقة، يُنفّذون ما يُعاز إليهم، ويؤجّجون نزعات العداوة والبغضاء في الناس، ويُسهمون في تأجيج لهيب الحروب، والواقع يقول بأنهم بلغوا ذروة الفشل في مهامهم وكان عليهم أن يستقيلوا ويغلقوا هذه المؤسسة كي ينأوا بأنفسهم عن المسؤولية، ولكن غَرّتهم الحياة الدنيا، وموائد المطاعم الكبرى، وهم يستمتعون بسادية مَقيتة، بالنظر إلى المسلمين الذين يقضون جوعاً، وبرداً، ومَرَضاً.
فلا يظنن أحدُ بأن الشعب السوري متطفل، أو خامل، بل هو من أكثر شعوب الأرض نشاطاً، وإبداعاً، وإنتاجاً، وأينما حَلّ، صنع حياة جديدة، بل حتى الآن، ورغم كل ما يحدث ماتزال كثير من الدول تعتمد على الصناعات والمنتجات السورية، مثل الأدوية، والخضار، والفاكهة، والألبسة، وما إلى ذلك. وفي مختلف المِهَن التي يُمارسونها في الدول التي لجأوا إليها، يستقطبون أفواج الناس، فيكفي أن يُقال: هذا سوري. حتى يُثَق بخبرته، وهذه حقيقة نلمسها ونعيشها يوماً بيوم، وفي سائر المِهَن والخبرات التي يمارسها السوريون خارج سورية، وقد وقفتُ على شيء من تفاصيل ذلك في روايتي التي وقعت في جزأين.
رصاصة الحرب ووردة الحب
إنها الشجاعة التي لابدّ من التحلّي بها في علاج واقع عقيم كهذا، وهي أن يستطيع كل واحد أن يتخلى عن الغل الذي يكنه للآخر، وأن يستبدله بالحب، وبدل أن يوجه إلى الآخر كلمة بذيئة، يستبدلها بكلمة طيبة. وهذا التخفيف مطلوب من الجميع بما فيهم أهل الفكر، والإعلام، والفقه، والفن، ولا أحد يكون خارج المسؤولية التي تقع على الجميع، ويتحمّلها الجميع، من ماسح الأحذية، إلى أرفع درجات المسؤولية.
فعندما يأتي مُعِدُ لبرنامج تلفزيوني ويعمل جاهداً أن يفرّق بين الضَيفَين بكل إمكاناته، وأنهما إذا كانا على خلاف بنسبة ثمانين بالمئة، لا يدعهما إلاّ وأقد أصبحا على خلاف بنسبة مئة في المئة، وإن لم يبلغ ذلك، يعتبر بأن برنامجه قد فشل، والحقيقة، فهذه ليست بطولة، بل تكمن البطولة في مدى مقدرتك أن تجمع بين شَخصَين مُتخاصِمَين بنسبة مُتقدّمة، ومهما تَسَبّبتَ في نسبة التصالح بينهما، كانت ميزة إيجابية لك، وأعتقد أن شخصاً كهذا يكون مساهِماً فعّالاً في تأجيج الأزمات والنعرات والانشقاقات في صفوف الناس، وهو ينشط على قدر تصاعد حِدّة هذه الأزمات، فيلجأ إليها ليؤججها أكثر، ويُحدث أكبر قدر من البغضاء بين المتخاصمين.
وإن أراد أن يُكَفّر عن أخطائه، فعليه أن يعمل ليرفع نسبة الصلح والتقارب والتحابب بين شَخصَين متخاصِمَين، على قدر ما تسبب في رفع نسبة الخصام، والتباعد، والتباغض بينهما في كل حلقة جديدة تكون تكفيراً عن حلقة سابقة من برنامجه. وهذا يأتي إلى أولئك الذين يعتمرون جبباً وعمامات، ويطلقون لحى، ويُنشؤون قنوات فضائية، أو يتعاقدون مع قنوات فضائية، فيظهروا فيها كل يوم، ولا يوجد لديهم شيء سوى أن يؤجّجون الخلافات والفِتن المَذهبية والطائفية في الناس، ويُفرّقون ما أمكن بينهم. ثم أولئك الذين يظهرون في مختلف وسائل الإعلام، ويبثون سموم التباغض في الناس، ويقدمون على أي شيء من شأنه أن يُشتت السوريين ، وأن يصعّد القتال فيهم كما لو أن الهدنة تلحق بهم أذى على المستوى الشخصي، ويستبعدون أي فكرة للتصالح والتسامح والجلوس إلى التحاور، ولا يتحدّث أحدهم بكلمة حب واحدة، وهؤلاء يقبعون في كبرى فنادق العالم، ويجعلون من أنفسهم ممثلين عن الشعب السوري كله.
هذه هي ثقافة الكراهية، وثقافة التباغض، وثقافة المنافع الشخصية التي علينا تجاوزها بكثير من الشجاعة، وأن يجلس السوريون جميعاً إلى بعضهم البعض دون شروط، ودون إملاءات من أحد، وأن نقتنع جميعاً بفكرة واحدة، وهي أننا لن نكون أقوياء إلاّ ببعضنا البعض، ولن نكون واهنين إلاّ دون بعضنا البعض. لقد أخطأ الجميع بِنِسَبٍ مختلفة، سواء عن عمد، أو دون عمد، سواء عن حسن نية، أو سوء نية، سواء بأفعال، أو ردود أفعال، وهذه حقيقة علينا جميعاً أن نكون على شجاعة الاعتراف بها، ومواجهتها كالرجال.
وسوم: العدد 700