بريجينسكي عقل الشيطان في عالم متحضّر

إبراهيم الجبين

زبيغنيو بريجينسكي لا يتحرّج في اعتبار الديكتاتوريات ضرورات ملحّة للمصالح الأميركية، وهو ينظر إلى أحداث العالم بصورة منفصلة عن سلسلة القيم المتفق عليها حضارياً.

أبو القاعدة يرى أن طبول الحرب تدق ومن لا يسمعها مصاب بالصمم 

سيسهل على المراقبين العرب، إدراج تصريحات زبيغنيو بريجينسكي تحت بند الهلوسات السياسية، وعدم حملها على محمل الجد، ولكنها في الغالب كانت ومنذ أواسط السبعينات تصنع الحضور الأميركي في الشرق الأوسط، وتؤسس لفلسفة خاصة مشت عليها السياسة الأميركية خطوة خطوة، والتزمت حذافيرها، وكأنها تعاليم، ولم تكن كلمات المهاجر البولندي بشيجينسكي وتحليلاته الذي غيّر اسمه إلى بريجينسكي ليسهل على الأميركيين لفظه، بأقل من خرائط جيوسياسية عميقة، حفرت أخاديد مؤثرة في العالم.

ولد في وارسو، ثم انتقل إلى فرنسا، ولايبزيغ في ألمانيا وكذلك أوكرانيا، ثم كندا، ليدرس في جامعة ماكجيل في مونتريال، ويحصل على درجة البكالوريوس في الآداب في العام 1950 ثم في العام 1953 يقدّم أطروحته لنيل الدكتوراه في “فن العلوم السياسية” في جامعة هارفارد، في عام 1961، وانتقل بعدها إلى جامعة كولومبيا، ثم أصبح رئيس لـ “معهد شؤون الشيوعية” بعد أن حصل على الجنسية الأميركية في العام 1958.

اللجنة الثلاثية

شكلت الإدارة الأميركية لجنة أطلقت عليها اسم “اللجنة الثلاثية” وترأسها بريجينسكي في العام 1973، وهي مجموعة من القادة السياسيين والأكاديميين والاقتصاديين البارزين من الولايات المتحدة و أوروبا الغربية واليابان، وكان الهدف من تأسيسها تعزيز العلاقات بين هذه النطاقات الثلاث في العالم، كان الرئيس جيمي كارتر أحد أعضاء تلك اللجنة، وهو ذاته الذي سيقرّب بريجينسكي، ويعيّنه مستشاراً للشؤون الخارجية فور وصوله إلى البيت الأبيض ثم مستشاراً للأمن القومي للولايات المتحدة.

تأسيس القاعدة

ضمن رؤيته المعادية بشدّة للاتحاد السوفييتي في ذلك الحين، اقترح بريجينسكي تأسيس قوة ردع إسلامية، للرد على الوجود الروسي في أفغانستان، وبدءاً من العام 1977 بدأ خلق ما عرف بتنظيم الجهاديين المناوئ للشيوعية، وبدأ ضخ السلاح والمال والتأهيل والتزويد بالمعلومات والخرائط والدعم الإعلامي، وطلب بريجينسكي أن تقدّم الدول الحليفة للولايات المتحدة الدعم الكامل لهذا التنظيم، في باكستان وأفغانستان بإشراف مباشر من المخابرات الباكستانية التي أنشأت معسكر تدريب بقيادة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وتلك البريطانية MI6.

وقال زبيغنيو بريجينسكي وقتها: ” إن تلك العملية كانت عملية سرية وفكرة ممتازة، وكانت نتائجها أن سقط الروس في الفخ الأفغاني، وفي اليوم الذي عبر فيه الروس الحدود رسميا، كتبتُ للرئيس كارتر: لدينا الآن فرصة لنخلق للاتحاد السوفياتي حربه الفيتنامية الخاصة. وبالفعل، وجدت موسكو نفسها خلال السنوات الـ 10 المقبلة مجبرة على خوض الحرب، التي لا يمكن أن تتحملها”. وفي ذلك الوقت، كان بريجينسكي يتصرّف بحريته في رسم العلاقات الدولية للولايات المتحدة، فأصرّ على توطيد العلاقات الأميركية الصينية، لاختراق خاصرة السوفيات، و حتى بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، طالب بريجينسكي بزعزعة الاستقرار المستمر على الحدود الجنوبية لروسيا كجزء من استراتيجية الولايات المتحدة في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” الذي تحدث فيه عن عصر الهيمنة الأميركية.

خالق المفاهيم

لم يكتف بريجينسكي بابتكار مفهوم “قوس التوتر” الذي طرحه على شكل مقال، تلك القوس الممتدة من أفغانستان مرورا ببحر قزوين، وصولا إلي البحر المتوسط، وباب المندب جنوبا وأرجع توترها إلى أن الدول القائمة بها متعددة الأديان والطوائف. ورأى أن “إزالة ذلك التوتر يقتضي تحويل تلك الدول إلى دول أحادية الدين والطائفة، وحدد عدداً من الدول المحورية التي يجب تعديل كيانها الموحد ومحاولة تقسيمها ومنها العراق والسودان والسعودية ومصر”.

تنبأ بريجينسكي بأن روسيا والصين لن تقفا موقف المتفرج، وقال: نحن نمهد الطريق أمامنا وحين سيستيقظ الدب الروسي والتنين الصيني، سيكون نصف الشرق الأوسط على الأقل قد أصبح إسرائيلياً وستصبح المهمة ملقاة على عاتق الجنود الغربيين، ومن وسط ركام الحرب هذه سيتم بناء قوة عظمى وحيدة قوية صلبة منتصرة هي الحكومة العالمية التي تسيطر على العالم، وهي الولايات المتحدة

طرح بريجينسكي مفهوم ” Tittytainment ” الذي يرغب برؤيته عالمياً، وهو تركيب لفظي مشتق من كلمة في اللغة الإنجليزية titty (تعبير عامي يطلق على الثدي ) وما تبقى من المقطع يعني “الترفيه”. ويعني أنه لو استمر ارتفاع الإنتاجية في المستقبل، فإن الكثير من سكان العالم (قرابة 80 بالمئة) سيتأثرون بهذا النمو، رابطاً ذلك بالعلاقات الإنتاجية، وتحوّلات رأس المال، ووسائل الإنتاج “التافهة” كما سمّاها، و طرح بريجينسكي المصطلح حين اجتمع 500 من كبار السياسيين ورجال الأعمال والعلماء من جميع القارات بدعوة من ميخائيل غورباتشوف في فندق فيرمونت في سان فرانسيسكو.

رجل الأوسمة

في العام 1963 تم انتخاب بريجينسكي في غرفة التجارة الأميركية كواحد من عشرة رجال أميركا هم الأكثر تميزا وفي عام 1969 أصبح عضوا فخريا في “الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم”. وفي عام 1981، حصل على الوسام الرئاسي للحرية لدوره في تطبيع العلاقات السياسية بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة الأميركية وكذلك لمساهمته في مجال حقوق الإنسان والأمن القومي لسياسات الولايات المتحدة، ولإسهاماته في استعادة استقلال بولندا في عام 1995، حصل على ” وسام النسر الأبيض “، وهو أعلى تكريم مدني في بولندا.

الاختيار

أصدر بريجينسكي كتابه “الاختيار” ليعلن للشعب الأميركي أنه ليس عليه ألا يخلط بين قوته والقوة غير المحدودة، “فرفاهية الولايات المتحدة الأميركية متشابكة مع رفاهية العالم، والانشغال الناجم عن الخوف بالأمن الأميركي المنعزل والتركيز الضيق على الإرهاب وعدم المبالاة بشواغل الإنسانية القلقة سياسيا لا يعزز الأمن الأميركي ولا يتوافق مع حاجة العالم الحقيقية للقيادة الأميركية، وما لم توفّق الولايات المتحدة الأميركية بين قوتها الطاغية وجاذبيتها الاجتماعية المغوية والمضطربة في آن معا فقد تجد نفسها وحيدة وعرضة للهجوم فيما تشتد الفوضى العالمية”.

ويؤكد بريجينسكي أن “القوة الأميركية أصبحت الضامن الأساسي للاستقرار العالمي، لكن المجتمع الأميركي يحفز الميول الاجتماعية العالمية التي تضعف السيادة الوطنية التقليدية، وتستطيع القوة الأميركية والقوى المحركة الاجتماعية الأميركية معاً الحض على الظهور التدريجي لمجتمع عالمي ذي مصلحة مشتركة، وإذا ما اصطدمتا أو أسيء استخدامهما فقد تجرّان العالم نحو الفوضى وإلى حصار الولايات المتحدة الأميركية”.

الهيمنة الأميركية ضرورية للعالم

لا يرى بريجينسكي بديلاً عن هيمنة الولايات المتحدة على العالم، ” باعتبارها العنصر الذي لا غنى عنه للأمن العالمي، وفي الوقت نفسه تمهد الديمقراطية الأميركية الطريق لتغيرات اقتصادية وثقافية وتكنولوجية تعزز الاتصالات البينية داخل الحدود القومية وخارجها، وهذه التغييرات يمكن أن تزعزع الاستقرار الذي تسعى القوة الأميركية إلى ضمانه، بل أن تولّد العداء لكل ما هو أميركي”.

ينصب بريجينسكي نفسه معلماً لصف الرؤساء الأميركيين، يضع لهم علامات تقييم السلوك والأداء، فقد منح بوش الأب الدرجة الأعلى وهي B، وأعطى لكلينتون الدرجة الثانية C، أما جورج بوش الابن فقد منحه علامة F، أي راسب

يقول بريجينسكي إنه “يجب أن يبدأ السعي وراء سياسة خارجية حكيمة تدرك أن (العولمة) تعني في جوهرها التكافل العالمي، ومثل هذا التكافل لا يضمن المساواة في المكانة ولا حتى المساواة في الأمن بين جميع الدول، لكنه يعني أنه ما من دولة تتمتع بالمناعة الكاملة من عواقب الثورة التكنولوجية التي زادت بدرجة كبيرة من قدرة الإنسان على ارتكاب أعمال العنف، ومع ذلك عززت أواصر الصلة التي تجمع على نحو متزايد بين البشر”.

بريجينسكي مناقضاً لقيم العالم

لا يتحرج بريجينسكي في اعتبار الديكتاتوريات ضرورات ملحّة للمصالح الأميركية، وهو ينظر إلى أحداث العالم بصورة منفصلة تماماً عن سلسلة القيم المتفق عليها حضارياً، ويضع السيناريوهات الخاصة به، والتي غالباً ما تحقق في أروقة الإدارة الأميركية، يرى الأوضاع في سوريا على الشكل التالي: ” حال من الفوضى الشاملة، تسير من سيئ إلى أسوأ؛ وهي حال تمنح الولايات المتحدة فرصة استمالة إيران إلى اتفاق إقليمي شامل، يتضمن الملفّ النووي أيضاً، وينتهي لصالح إسرائيل في المقام الأوّل. فما يجري في سوريا، منذ آذار ـ مارس من العام 2011 ليس سوى أزمة، شاركت في التخطيط لها السعودية، وقطر، وحلفاؤهما الغربيون”.

ويعتقد أنه “في أواخر العام 2011 حدثت اضطرابات في سوريا، تسبّب بها الجفاف واستغلها نظامان أوتوقراطيان في الشرق الأوسط، هما قطر والسعودية”.

أوكرانيا

يرى بريجينسكي ضرورة توحيد القوة السياسية العاملة في أوكرانيا، على غرار ما حصل مع المعارضة السورية، مشيرا إلى ضرورة ظهور رمز لهذه الوحدة. ويضيف بريجينسكي في مقابلة مع محطة “سي أن أن ” أنه “يتعين على الاتحاد الأوروبي الانخراط بصورة قوية في تدعيم أوكرانيا ولا يكتفي بمجرد طرح شعارات”، ودعا الاتحاد الاوروبي إلى ضرورة تقديم مساعدات مالية خاصة وأن الاقتصاد الأوكراني على شفا الانهيار بمعنى الكلمة، وحذّر من أنه “ما لم يقدم الغرب أية مساعدات لأوكرانيا في الوقت الذي يعلن فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العون فسيذهب كثير من الشعب الأوكراني تجاه روسيا لإيجاد فرص العمل. ونصح بريجينسكي قادة الولايات المتحدة بضرورة التحدث بصراحة مع الرئيس بوتين والتأكيد على أن أوكرانيا تمر بمرحلة دقيقة وعليه عدم إشعال الحرب الباردة لأن الشعب الأوكراني على استعداد ليكون من أصدقاء روسيا وليس عبيداً لديها.

بريجينسكي والعراق

قال بريجينسكي في شباط ـ فبراير من العام 2003: “إذا قررت الولايات المتحدة المضي قدما في خططها الخاصة بالعراق، فسوف تجد نفسها بمفردها لتتحمل تكلفة تبعات الحرب، فضلا عن ازدياد مشاعر العداء والكراهية الناتجة عن تلك الحرب”، وفي كتابه “فرصة ثانية” Second Chance الذي صدر في العام 2007 أي بعد احتلال العراق، انتقد بريجينسكي السياسة الخارجية الأميركية في عهد كل من جورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن، وقال إن الولايات المتحدة خلال حكم هؤلاء الثلاثة قد فرطت وأهدرت فرصتها الأولى لقيادة العالم عندما سنحت هذه الفرصة مع انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي. ورغم ضياع الفرصة الأولى في ظل أداء ضعيف يفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية لكل من الرؤساء الثلاثة، فإن بريجينسكي يرى أن الولايات المتحدة ما تزال لديها فرصة ثانية، ويؤكد على أهمية السنين القليلة القادمة في حسم اضطلاع الولايات المتحدة بقيادة العالم.

لا يرى بريجينسكي بديلاً عن هيمنة الولايات المتحدة على العالم باعتبارها العنصر الذي لا غنى عنه للأمن العالمي، وفي الوقت نفسه تمهد الديمقراطية الأميركية الطريق لتغيرات اقتصادية وثقافية وتكنولوجية تعزز الاتصالات البينية داخل الحدود القومية وخارجها، وهذه التغييرات يمكن أن تزعزع الاستقرار الذي تسعى القوة الأميركية إلى ضمانه

علامات الرؤساء

ينصّب بريجينسكي نفسه معلماً لصف الرؤساء الأميركيين، يضع لهم علامات تقييم السلوك والأداء، فقد منح بوش الأب الدرجة الأعلى وهي B، وأعطى لكلينتون الدرجة الثانية C، أما جورج بوش الابن فقد منحه علامة F، أي راسب، ويقيّم أداءهم على أساس أنهم بزوال الاتحاد السوفييتي، بات كلٌ منهم الشخصية الأهم في العالم، “ومع ذلك لم يكن هناك رؤية استراتيجية واحدة، فأصبح كل منهم يلعب طبقاً لطريقته الخاصة بغض النظر عن أصول اللعبة”.

وقد كتب الباحث جواد كاظم البكري في مقال هام له، أن بريجينسكي كان قد حدد عشرة تحولات رئيسية شهدها العالم منذ عام 1990 خلال انحسار التنافس الدولي، والتي لم تستطع السياسة الخارجية الأميركية الاستفادة منها والتفاعل معها على النحو الأفضل، وتلك التحولات العشر طبقا لبريجينسكي هي:

1. انحسار نفوذ الاتحاد السوفيتي في أوربا الشرقية، ومن ثمة سقوطه لتنفرد الولايات المتحدة بقيادة الساحة الدولية.

2. نصر الولايات المتحدة العسكري في حرب الخليج عام 1991 تم التفريط فيه سياسيا، كما أن الولايات المتحدة لم تهتم باستئناف محادثات سلام الشرق الأوسط، فبدأت مشاعر العداء والكراهية ضد الولايات المتحدة في العالم الإسلامي تتزايد.

3. اتساع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي شرقا بانضمام المزيد من دول أوروبا الشرقية ليصبح حلف الأطلسي أكثر التجمعات الدولية تأثيرا ونفوذا على الساحة العالمية.

4. دخلت فكرة العولمة حيز التطبيق والمؤسسية من خلال تأسيس منظمة التجارة العالمية WTO وتعاظم الدور الذي يقوم به صندوق النقد الدوليIMF…

5. الأزمات المالية الآسيوية التي شهدتها النمور الآسيوية في التسعينات أدت إلى نشوء مجتمع اقتصادي جديد في شرق أسيا أهم ملامحه سيطرة الاقتصاد الصيني أو التنافس الصيني الياباني على السيطرة عليه، كما أدى انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية إلى تعاظم دور الصين التجاري والسياسي ونفوذها في العالم.

6. حربان في الشيشان وصراع الناتو في كوسوفو ومنطقة البلقان وانتخاب فلاديمير بوتين رئيسا لروسيا ساهمت هذه العوامل السابقة في تصاعد الفاشية والقومية الروسية، وبدأت روسيا في استغلال مواردها من الغاز والنفط لكي تصبح قوة عظمى في مجال الطاقة.

7. غض الطرف من قبل الولايات المتحدة وغيرها عن الأنشطة النووية الهندية والباكستانية، فتحدت الدولتان المتنازعتان الرأي العام الدولي وأعلنتا عن كونهما قوتين نوويتين، كما واصلت كل من كوريا الشمالية وإيران سعيهما لامتلاك قدرات نووية في ظل أداء ضعيف من الولايات المتحدة.

8. هجمات 11 سبتمبر صدمت الأميركيين، وحولت الولايات المتحدة إلى دولة خوف، وقررت أن تنهج سياسة وقرارات أحادية، وأعلنت الحرب على الإرهاب.

9. انقسام مجتمع حلف الأطلسي إزاء الحرب في العراق، وفشل الاتحاد الأوروبي في تطوير هويته السياسية ونفوذه.

10. الانطباع الذي ساد العالم في مرحلة التسعينات بالتفوق العسكري الأميركي وأوهام واشنطن بتفوقها العسكري واتساع نفوذها قد تحطمت على صخور الفشل في العراق.

ومن خلال تلك التحولات فإن بريجينسكي يقر أن الشرق الأوسط قد أصبح في الوقت الراهن وسوف يظل مقياس نجاح قيادة الولايات المتحدة للعالم أو فشلها”.

إيران الحجر المتبقي قبل الحرب

يؤمن بريجينسكي أن الولايات المتحدة رغم فشلها فقد نجحت في التخلص من كافة الخصوم، وقد حقق العسكريون الأميركيون هذا الهدف تقريبا “أو هم في سبيلهم الى تحقيقه استجابة لطلباتنا، وبقي حجر واحد علينا إسقاطه من أجل إحداث التوازن وهو المتمثل في ايران، إن كلا من الدب الروسي والتنين الصيني لن يقفا موقف المتفرج، ونحن نمهد الطريق أمامنا خصوصا بعد أن تشن إسرائيل حربا جديدة بكل ما أوتيت من قوة لقتل أكبر قدر من العرب، وهنا سيستيقظ الدب الروسي والتنين الصيني، وقتها سيكون نصف الشرق الأوسط على الأقل قد أصبح إسرائيلياً وستصبح المهمة ملقاة على عاتق الجنود الأميركيين والغربيين المدربين تدريباً جيداً والمستعدين في أي وقت لدخول حرب عالمية ثالثة يواجهون فيها الروس والصينيين، ومن وسط ركام الحرب هذه سيتم بناء قوة عظمى وحيدة قوية صلبة منتصرة هي الحكومة العالمية التي تسيطر على العالم، وهي الولايات المتحدة التي تملك أكبر ترسانة سلاح في العالم لا يعرف عنها الآخرون شيئا، وسوف تقوم بعرضها أمام العالم في الوقت المناسب، إن طبول الحرب تدق ومن لا يسمعها فهو مصاب بالصمم”.

لا شك أن كل ما قاله بريجينسكي قد تحقق، وفي شخصيته تتجوهر الحقيقة الأميركية المتناقضة، القوة والمعرفة، الهيمنة والاستغلال، النمو والانحسار، إلى ما لا نهاية.

__._,_.___

              ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أمريكا تائهة في أوهام القوة ..

"فورين بوليسي" الأمريكية 

كتب "ستيفن م. والت" مقالا في مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية بعنوان: "عودة الأيام القديمة السيئة"، رأى فيه أن حسابات واشنطن القائمة على سياسات القوة، من الصين إلى أوكرانيا، أتت بنتائج سيئة للغاية، غير أن أمريكا لا تدرك ذلك.

وقال الكاتب إن الإعلان عن وضع حدَ لسياسات القوة هو من التقاليد الأمريكية العريقة، ذلك أن رؤساء كثر على تنوعهم، مثل وودرو ويلسون، فرانكلين روزفلت، جورج دبليو بوش وباراك أوباما قدموا بيانات كاسحة عن نهاية وشيكة للجغرافيا السياسية القديمة، وبشروا بفجر من الديمقراطية على نحو متزايد، العولمة، الوصول إلى السوق، المؤسسية والنظام العالمي بادعاءاته الخيرة. بطبيعة الحال، فإنه من السهل القول بهذا عندما تمثل قوة عالمية مهيمنة وليس لك أعداء أقوياء في مكان قريب وتمتلك الرادع النهائي في شكل الآلاف من الأسلحة النووية.

في الواقع، كانت فكرة اختفاء سياسة القوة مسألة اعتقاد في دوائر السياسة الخارجية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. وقد احتضن كل من المحافظين الجدد والليبراليين الأمميين فكرة تلاشي سياسة القوة لأنها تنسجم مع معتقداتهم الخاصة بشأن الدور الإيجابي لأمريكا في العالم.

وبالنسبة للمحافظين الجدد، فإن سياسات القوة انتهت، وهذا في جزء منه لأن البشرية قد وصلت إلى "نهاية التاريخ" وديمقراطية السوق الحرة على وشك الاعتراف بها بوصفها الصيغة الوحيدة الممكنة لمجتمع حديث، وكذلك بسبب أن هيمنة الولايات المتحدة جعلت من المستحيل بروز منافسين "جغرافيين سياسيين" خطرين.

من جانبهم، رحب الليبراليون الأمميون بهذا الادعاء لأنه يرى أنه يمكن للولايات المتحدة استخدام قوتها، ثروتها، هيبتها ونفوذها لتصحيح الأخطاء في العالم ونشر الديمقراطية والأسواق الحرة وحقوق الإنسان للقاصي والداني.

حتى الصين الصاعدة، لن تثير أي مشكلة في هذا العالم المعولم الجديد الشجاع، ذلك أن أمريكا القوية والخيَرة في آن واحد، سوف ترحب صعودها و"اندماج" بكين التدريجي في نظام عالمي تحكمه المؤسسات المصممة و(في الغالب) المصنوعة في أميركا .

ولأن هذه الرؤية كانت مغرية، فليس من المستغرب أن الكثير من أعضاء النخبة في دوائر السياسة الخارجية الأمريكية استسلموا لذلك. عالم خال من سياسة القوة يضع الولايات المتحدة في مركز نظام يُفترض أنه هادئ ويرسم دورا عالميا إيجابيا لأميركا بشكل مستمر.

مع تلاشي سياسات القوة، يمكن لكبار مسؤولي السياسة الخارجية الأمريكية التركيز على مجموعة من "الدول المارقة" غير القوية جدا وعلى نشر الديمقراطية ووقف انتشار أسلحة الدمار الشامل ومطاردة فلول الإرهابيين ونشر حقوق الإنسان..

للأسف، فإن العقدين الماضيين شهدا خمسة تطورات سلبية تآكلت معها فكرة النهاية الدائمة لسياسات القوة:

المشكلة الأولى نشأت من الغطرسة. اقتناعا منها بأنه لا أحد يستطيع الوقوف في وجه أميركا المروعة الجامعة بين القوة والحق، بدأ أعضاء من نخبة السياسة الخارجية بتوسيع حلف شمال الأطلسي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ولكن دون التفكير مليَا في التكاليف والمخاطر المحتملة، وأبرزها احتمال أن هذا من شأنه أن يؤثر سلبا في العلاقات مع روسيا.

كما التزموا أيضا باحتواء الولايات المتحدة للعراق وإيران في وقت واحد، وفي نهاية المطاف قرروا محاولة تحويل جزء كبير من الشرق الأوسط تحت تهديد السلاح. وكانت النتائج سلبية بشكل مؤلم: الخطر المتزايد للإرهاب، الكارثة المكلفة في العراق، المستنقع في أفغانستان وتدهور العلاقة مع موسكو.

ولكن حتى هذه النكسات لم تنه المغامرات الأمريكية بشكل كامل، مع تدخل حلف الناتو المشؤوم في ليبيا في العام 2011 وحروب الطائرات من دون طيار، والتي طال أمدها، في اليمن وباكستان وأماكن أخرى. وهذه الأخطاء لم تكلف عدة تريليونات من الدولارات وآلاف الأرواح، وفقط، ولكنها صرفت الأنظار أيضا عن تحديات أكثر أهمية على المدى الطويل.

ثانيا، التحدي الأكثر وضوحا كان صعود الصين. ففي الوقت الذي أصبحت فيه الصين أكثر ثراء، لم يتقبل قادتها الدور السلبي الذي أرادته النخب الأميركية لها. ورغم أن البلاد لا تزال تواجه تحديات داخلية كبرى وأضعف بكثير من الولايات المتحدة، فإن بكين لا تقبل أيا من عوامل النظام الجغرافي السياسي الحالي.

كما إنها، وهذا الأهم، ليست على استعداد للتضحية بأهدافها الإقليمية الخاصة ورغباتها (على المدى الطويل) لحساب دور مهيمن في آسيا أو مساعدة واشنطن في متابعة سياساتها في أماكن مثل إيران.

ثالثا، هناك روسيا. عندما بدأت روسيا تتعافى تدريجيا من انهيار الاتحاد السوفيتي، فإنها ما عادت تقبل بأي أي إهانات مفروضة من واشنطن.

ورغم أن موسكو لن تستعيد أبدا موقع القوة نفسها كما كانت عليه أيام الاتحاد السوفياتي القديم، فإنها تبدو قوية بما فيه الكفاية للعب دور المفسد في بعض الأحداث (كما هو الحال في سوريا)، وبالتأكيد قوية بما يكفي لممارسة النفوذ على مقربة من حدودها (كما في أوكرانيا أو جورجيا). كما هو متوقع، فإن وروسيا تدافع الآن عن مصالحها بفعالية، حتى لو كان الثمن تدهور العلاقة مع الولايات المتحدة.

رابعا، شجع التفوق الأمريكي اعتماد حلفاء واشنطن على الحماية الأميركية أكثر مما هم فاعلون. كما خفض الحلفاء في أوروبا وآسيا ميزانيات الدفاع الخاصة بهم وعرضوا (في معظم الحالات) ما لا يزيد عن دعم رمزي لتدخلات أميركا النائية.

وفي حين لا تزال واشنطن تنفق ما يزيد على 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، فإن حلفاءها الأغنياء مثل بريطانيا وألمانيا تنفقان بالكاد أكثر من 2 في المائة، بينما لا تزال اليابان تحوم حول 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الرغم من تصاعد التوترات مع الصين.

وليس من السهل للمرء أن يلومهم على هذا السلوك، وذلك لأن واشنطن لا تزال متمسكة بعنوان "الأمة التي لا غنى عنها" ومصرة على تمكينها من ممارسة "القيادة العالمية". ثم إن المسؤولين الأمريكيين يفضلون حلفاء ضعفاء نسبيا يسهل انقيادهم.

أخيرا، خفَض الانهيار المالي لعام 2008 إمكانات أمريكا في توليد الطاقة الكامنة وتقويض الكفاءة الاقتصادية التي تمتعت بها خلال التسعينيات من القرن الماضي.