صِنَاعَةُ الحَيَاةِ
مَعَ مَطْلِعِ التِسْعِينِاتِ مِنَ القَرنِ العِشْرينِ طَرَحتُ شِعَارَ"الحَيَاةُ فِي سَبِيلِ اللهِ أسْمَى أمَانِينَا"تَوازِيًا وَتَكَامُلاً مَعَ شِعَارِ"المُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أسْمَى أمَانِينَا"حَيْثُ اتَخذَ بَعْضُ الدُعَاةِ شِعَاَر"المُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ"أنْشُودَةً يُكرِرُونَهَا بِمُنَاسَبةٍ وَفي غَيْرِ مُنَاسَبةٍ..وكَأنَّ المُسْلِمَ لا غَايَةَ لَه إلَّا المُوتَ فِي سَبِيلِ اللهِ..وَنَسي هَذَا النَفَرُ الذينَ لَا نَشُكُ فِي غَيْرَتِهم وَإخْلَاصِهم وَحُسنِ نَوايَاهم أنَّ الإسْلَامَ قَدْمَ الحَيَاةَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى المُوتِ فِي سِبِيلِ اللهِ..وَأنَّ كِلَاهُما مَغْنَمٌ بِلَا شَكٌ..وَمِنْ جِهَةٍ أخْرَى غَفِلَ هَؤلاء الإخْوةُ كَذَلِكَ عَنْ أنَّ الحَيَاةَ فِي سَبِيلِ اللهِ هِي النَهجُ الصَحِيحُ لِلمُوتِ فِي سَبِيل اللهِ..فَالَذي لَا يَحيَى فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يُمْكِنُ أنْ يَمُوتَ فِي سَبِيلِ اللهِ..فَالحَيَاةُ فِي سَبِيلِ اللهِ هِي الضَامِنُ الحَقِيقيُّ لِلمُوتِ فِي سَبِيلِ اللهِ..وَ فِي إحدَى المُنَاسَبَاتِ عَلّقتُ عَلَى مَنْ اعتَرضَ عليّ مِنْ أنْصَارِ وَعُشَاقِ شِعَارِ"المُوتُ فِي سَبِيلِ اللهِ.."فَقُلْتُ لَه:يَا أخي الحَبِيب إنَّ صِنَاعَةَ الحَيَاةِ مُقدَمَةٌ فِي الإسْلَامِ عَلَى صِنَاعَةِ المُوتِ..وَطَرِبْتُ يَومَها أنْ وَرَدَت عَلَى لِسَانِي عِبَارَةُ:"صِنَاَعةُ الحَيَاةِ"وأخذتُ أردِدُها مُسْتَمتِعَاً بها..وَبَعدَ زَمَنٍ تَأملتُ عِبَارَةَ"صِنَاعَةُ"فَأحْسَسْتُ أنَّ شُبْهَةٌ مِنَ الخَلَلِ الشْرعيِّ تُخالِطُها..حَيْثُ أنَّ المُوتَ أمرٌ مُقدرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا يَسْتَطِيعُ أحدٌ مِنَ البَشَرِ أنْ يَصْنَعَه أو يُقدِمَه أو يُؤخِرَه..وَلَكْن لِكونِ العِبَارَاتِ تَبْقى عَادَةً عَزِيزَةً عَلَى نُفُوسِ مَنْ نَحَتُوها..وَلِكَوني طَرِبْتُ وَسُررتُ أنْ وفقْتُ لِنَحْتِ عِبَارَةِ"صِنَاعَةُ الحَيَاةِ"وَحِرْصًا مِني ألَّا ألغِيها وَأخْسَرَ عُذُوبَتَها تِرْدَدِها عَلَى لِسَانِي..فَقُلْتُ فِي حِوارٍ مَعَ نَفْسِي:لَعلَّ تَعْدِيل العِبَارَةِ لِتَكونَ"صِنَاعَةُ أسْبَابِ المُوتِ"يُخْرجُنِي مِمَّا سَاورَنِي مِنْ حَرَجٍ شَرْعيٍّ بِشَأنِها..وَلَكنَّنِي عُدتُ لأقُولَ لِنَفْسي وَأنَا لَا زِلتُ في حِوارٍ مَعَها:ألَيسَ المُوتُ وأسْبَابُه كُلُّها مِنْ قَدرِ اللهِ..؟وَهُنَا تَدَاعى إلَى ذَاكِرَتِي قَوْلُ الخَلِيفَةُ الرَاشِدِ أميرِ المؤمِنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه:"إنَّا نَفّرُ مِنْ قَدرِ اللهِ إلَى قَدرِ اللهِ"فَقُلْتُ لِنَفْسِي:كُلُّ عَمَلِ المُسْلِمِ وَقَولِه مُرْتَهَنٌ بِقَدرِ اللهِ تَعَالَى..فَارتَاحَت نَفْسِي لِلتَعْدِيلِ الَذِي أدخَلْتُه عَلَى العِبَارَةِ لِتُصبِحَ"صِنَاعَةُ أسْبَابِ الحَيِاةِ فِي الإسْلَامِ مُقدَمَةٌ عَلَى صِنَاعَةِ أسْبَابِ المُوتِ فِي سَبِيلِ اللهِ"وَلِأنَّ العربَ تُحِبُ الإيجَازِ وَيَدْخُلُ فِي بَلَاغتَهم اللغَويَّةِ..أخَذَ النَّاُس يُردِدونَ عِبَارَةَ "صِنَاعَةُ المُوتِ"إلَّا أنَّ البعضَ مِنْهم أسْرِفَ فِي استِخْدَامِها فَألحَقوا بِها مُسِميَّاتٍ مُتَنوعَةٍ مِنْها مَا هو مُستَسَاغٌ وَأخْرَى غَيْرُ مُسْتَسَاغٍ..فَأصبَحَ يَتَرَدَدُ عَلَى ألْسنةِ النَّاسِ وَفِي كِتَابَاتِهم عِبَاراتٌ مثل:(صِنَاعَةُ الذكَاءِ،و صِنَاعَةُ المُواهبِ،و صِنَاعَةُ الثقافةِ،و صِنَاعَةُ القائدِ،و صِنَاعَةُ الفكرِ،و صِنَاعَةُ الثقةِ،و صِنَاعَةُ التفاؤلِ،و صِنَاعَةُ الإخلاصِ،و صِنَاعَةُ الإيمانِ،و صِنَاعَةُ الحبِ،و صِنَاعَةُ الكراهيةِ،و صِنَاعَةُ الأعداءِ،و صِنَاعَةُ الأصدقاءِ..إلخ)وَهَكذَا أخَذت العِبَارَةُ تَفقِدُ جَمَالَها وَدِلَالَاتِها العَمِيقَةِ الموضُوعيَّةِ..وَاختَلَطَت صِنَاعَةُ المَادِيَّاِت بِصِنَاعَةِ المَعنَويَّاتِ وَالقِيَمِ اختِلَاطاً مُسْرِفاً مُخِلاًّ.
وسوم: العدد 707