وما أدراكَ ما حلب؟!

لو كان البكاء يجدي لكانت حلب أجدى أن تُبكى.

لقد انتصر الطاغية على شعبه. أو هكذا يُظَنّ. وقالوا: احتفلت حلب الغربية بدمار حلب الشرقية. أهذا معقول؟!.

أسئلة مُرّة تلوكها الألسن، وتحليلات ينطق بها العارفون والجاهلون، والمشفقون والشامتون. والفاجعة أكبر مما يراه الناس، والمشكلة أعقد مما يكتبه المحللون. ولا بد من وقفات تجلّي ما حدث، وتتوقع ما سيكون.

حلب قديمة قِدَم التاريخ، فهي أقدم مدن العالم، أو من أقدمها. وقد تعرضت عبر التاريخ لمحن ودمار، وبقيت شامخة عبر التاريخ بثقافتها وأدبها وصناعتها وعمرانها وفنونها. وقد تعايش فيها منذ قرون، أصحاب ديانات وطوائف وقوميّات شتى، وترسخت فيها قيم الشهامة والنّبل والكرم والوفاء.

ومنذ أن جثم عليها حزب البعث بدأت مرحلةٌ من التضليل والتفسيق والإفساد تعُمّ سورية كلها، ولم تنجُ حلب من هذا كله، وتدريجياً كان دور هذا الحزب يتوارى لحساب تسلط طائفي بغيض، ويطبع حياةَ البلد استبداد وقمع وتكميم للأفواه، وتعدّد لفروع المخابرات، وافتتاح للمزيد من السجون، وتصفيات جسدية للمعارضين... وصار المجتمع الحلبي خاصة، والسوري عامة، بين توجّهين، يمتزجان أحياناً، ويتمايزان أحياناً. توجّهٌ يشدُّ الناس إلى القيم الشامية الأصيلة التي ترجع، في معظمها، إلى الإسلام، وتوجّه نحو الفجور والفساد والنفاق والجُبن والميوعة.

ومع ما كان يظهر على السطح من استقرار، كان هناك جمر يتّقد تحت الرماد.. هو الذي أشعل الثورة عام 2011م.

وقد تأخر التحاق حلب بالثورة بضعة أشهر، لأن ذوي التأثير في المجتمع الحلبي فئتان:

فئة العلماء والمشايخ، وهذه الفئة قد تعرّضت للضغط والتهجير والسجن... فلم يكد يبقى منها إلا من يُوصَفون بأنهم مشايخ السلطان، ومن شأن هؤلاء التخذيل والخبال والفتنة.

وفئة رجال الأعمال، وقد عمل النظام على التحالف مع هؤلاء، حيث لا يتمكن أحد من تأسيس عمل تجاري أو صناعي ذي جدوى إلا إذا كان له شريك، بصيغة من صيغ الشراكة، بواحد من ضباط الجيش أو المخابرات من الطائفة الحاكمة. وكما يقال فإن رأس المال جبان. وقد عملت الفئتان على الحيلولة دون قيام الثورة حتى انطلقت بعدئذ رغماً عنهما.

وهذا يفسّر توسع الثورة في الأحياء الفقيرة والأحياء الشعبية، أكثر بكثير مما حصل في حلب الغربية حيث أصحاب رؤوس الأموال.

أما أكذوبة أن حلب الغربية تحتفل ابتهاجاً بتدمير حلب الشرقية وتهجير قتلها، فهي أكذوبة سمجة مقززة. إن نحو نصف سكان حلب الغربية اليوم هم من سكان حلب الشرقية الذين انتقلوا إليها منذ عقود، كالذي يحدث من انتقالات دائمة بين حي وآخر من أحياء أي مدينة، فضلاً عمن نزحوا إليها هرباً من المعارك في حلب الشرقية، كما أن لكل مواطن من حلب الغربية أقرباء كُثُراً في حلب الشرقية. أفيحتفل بقتل أقاربه وتهجيرهم؟.

القصة وما فيها أن النظام وداعميه يريدون أن يُحدِثوا تغييراً ديموغرافياً، فيتخذوا الذرائع لتفريغ مدنٍ وبلدات وأحياء ويُحلّوا محلهم مخلوقات من "الطائفة الكريمة".. ومع ذلك يُغَطّون جريمتهم بأنهم إنما ينتقمون من إرهابيين، وأن الشعب الشريف مؤيد لهم.

إنها حلقة من مسلسل سبقته حلقات تفريغ أحياء حمص وداريا وغيرها..

النظام قادر على حشد بعض العملاء والأجراء، وينْجرُّ معهم آخرون، خوفاً من انتقام السلطة، ليقوموا بهذه المسرحية القذرة.. وإليكم مقطعاً مما نشرته صحيفة التايمز عن مشاهد من عملية التهجير (ترجمته عربي 21 في 19/12/2016م):

"محمد غانم: 58 عاماً، نجا من القنابل، وتحمل حصار حلب، وركض نحو الحافلات الخضراء التي تنقل سكان حلب الشرقية المدمرة إلى إدلب. وفي الممر الذي يعبر حلب الغربية وجد غانم نفسه أسيراً لدى نظام أسد، بناء على اتهامات غير محددة. فقد توقفت الحافلة عند نقطة تفتيش وجاء جندي يفحص الهويات، فاعتقل غانماً هذا وثلاثة مواطنين آخرين... وتحدث المواطنون عن عملية قتل أسرة بكاملها، وُضِعتْ أمام الجدار ثم أُطلِق النار عليها، في الوقت الذي تقدمت فيه الجماعات الطائفية الموالية للنظام..

وقامت إحدى الأسر بجمع بعض مقتنياتها ثم أحرقت ما تبقى حتى لا يقع في أيدي عناصر الميليشيات".

هذا عدا ما ذكرته جهات كثيرة عن عمليات سرقة واختطاف واغتصاب...

أهل حلب الغربية، كما أهل سورية، كما كل المسلمين وكل أحرار العالم، مشفقون على حلب الشرقية، ناقمون على المجرمين.

وإن الجريمة التي يرتكبها النظام في حلب تجعل سكان المدينة بين خيارين: إما أن تبقوا في مساكنكم فنقتل منكم من نقتل، ونعتقل من نعتقل، ونغتصب من نغتصب... وإما أن تهاجروا إلى المجهول، ولستم في مأمن وأنتم في طريقكم إلى المهجر، أو بعد وصولكم إليه.

ولنعُدْ إلى بداية الثورة، إلى آذار 2011م. لقد كان واضحاً أن النظام لن يستجيب لثورة سلمية ومقاومة مدنيّة. ومع ذلك فقد بدأ الشعب ثورته سلمية سلمية، إعذاراً للتاريخ، فكان رد فعل النظام القتلَ ثم القتلَ ثم القتل... وبعد نحو سنة اضطر الشعب، تدريجياً، إلى حمل السلاح دفاعاً عن نفسه. وهنا بدأت أجزاء كبيرة من سورية تتحرر من سلطة النظام، حتى لم يبق في يد النظام أكثر من ربع مساحة سورية، فاستقدم الميليشيات الطائفية من لبنان والعراق وغيرهما، وتدخلت القوات الإيرانية ثم القوات الروسية: تقصف وتذبح وتدمّر... وبذلك بدأت بعض المناطق المحررة تعود إلى الاحتلال، وكان المنتصر في ذلك إيران وروسيا، اللتين اتفقتا على حماية بشار ومن معه، وعلى قتل الشعب السوري، بحجة القضاء على "الإرهابيين"، وإن اختلفت دوافع كل منهما، ولا أظنهما اتفقتا على تقسيم الغنائم، إذ أصبحتا المسيطرتين على السلطة في سورية، ولم يبق لبشار إلا الاسم والرسم. حتى إن الذي يعلن بدء هدنة أو انقضاءها إنما هو وزير الدفاع الروسي وليس بشاراً أو وزير دفاعه.

وماذا كان دور المعارضة السياسية أو المعارضة العسكرية؟!.

إذا كنا لا نريد أن نخوّن أحداً أو فئة أو فصيلاً، فإن مما لا يمكن تجاهله وجود هذه الحقائق:

1- تمكّنت جهات كثيرة، إقليمية وعالمية، من دسّ عملائها، أو شراء عملاء، أو تطويع عملاء... في عدد كبير من الفئات السياسية أو الفصائل العسكرية.

2- كان هناك انفصام واضح بين التشكيلات السياسية والفصائل العسكرية. حتى إن السياسيين لا يملكون شيئاً ذا بال على الأرض، أو يقدرون أن يثبّتوا هدنة لو أرادوا، ولا أن يحرّكوا معركة.

3- كان هناك صراع على النفوذ والزعامة بحيث لا يكاد يتفق فصيلان على خوض معركة حتى يختلفا، ولا يكاد يتشكل تجمّع حتى يعود ويتفرّق. (لنتذكر أن الشعب منذ خمسين سنة يعيش تحت كابوس حزب البعث و"الطائفة الكريمة" ويعاني التجهيل والتفسيق والمحسوبية...)

4- في السنتين الأوليين من الثورة كان معظم الداعمين أفراداً متعاطفين، وليس لهم شروط، أو أنهم غير قادرين على فرض شروط، فكان كل فصيل يملك قراره إلى حد كبير.

أما بعدئذ فقد جفّت منابع الدعم الفردي، وراحت بعض الدول الإقليمية تقدم الدعم، لكنه الدعم المحدود والمشروط.

5- ومهما تحدثنا عن الدول الإقليمية فإنها تابعة، لسبب أو آخر، لدول كبرى، ولا تستطيع الخروج عن سياساتها.

6- انقسمت الدول الفاعلة تجاه الثورة إلى قسمين:

قسم مؤيد للنظام يمدّه بالدعم السياسي واستخدام حق الفيتو وبالمستشارين وبالمقاتلين وبالطيران وبالصواريخ... وقسم مؤيد للثوار يُمدّه بالكلام الجميل، وببرامج الفضائيات، وقد يمدّه بمعونات إغاثية أو عسكرية بشروط مُجحِفة: يجب أن تقع هذه المعونات بأيدي تشكيلات تنام على أيدينا، ولا يجوز استخدامها ضد مناطق معينة...

7- لو كان شعب سورية يهودياً أو مجوسياً أو ملحداً... فلربما تحركت قوى عالمية فعالة تؤيده وتحميه وتنصره... أما، وهو شعب مسلم، فما الداعي لنصرته؟ أليس الدم المسلم مباحاً للجميع؟ ولا بأس بتقاسم الأدوار: فريق يقدّم إلى النظام المال والسلاح والمقاتلين، ويقصف ويدمّر... وفريق يغض الطرف وقد يتظاهر باستنكار ما يجري.

أظنني بهذه الخلاصة أشرت إلى ما يُمثّل العوامل المؤثرة فيما جرى في سورية عامة، وفي حلب خاصة، وليست دول المنطقة بمنأى عن امتداد اللهب إليها، بل إن تداعيات ما جرى لن تقف عن حد معين، لا داخل سورية ولا في أنحاء العالم كله.

(ولينصُرنّ اللهُ من ينصره. إنّ اللهَ لقويٌّ عزيزٌ)

وسوم: العدد 709