كيف حسم حافظ الأسد صراع العلويين على السلطة؟ .. الحكاية كما يرويها شهود

كان الرئيس الأسبق الراحل اللواء أمين الحافظ  يتهم اللواء صلاح جديد بإنشاء تكتل طائفي ضمن الجيش، وخلال اجتماع للتنظيم الحزبي العسكري في مطار المزة عام 1965، قال صراحة: “لن نسمح لأقلية بالسيطرة على البلد وسنغير ذلك بالقوة”. ما اضطر الأمين العام للبعث آنذاك “منيف الرزاز” إلى معارضته. فيما رد جديد مُتهماً الحافظ بالسعي إلى الفردية بالحكم.

لم يكن الرئيس أمين الحافظ أول من تحدث علناً عن تكتل علوي داخل الجيش السوري، إذ سبقه في ذلك الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر باتهامه ضباط اللجنة العسكرية الذين استولوا على السلطة في الثامن من آذار عام 1963 بالطائفية.

لكن شخصيات قيادية في البعث، ومنها معارضة” للأسدين” الأب والابن تنفي الحالة، وتضعها في خانة  “التجني والافتراء” خصوصاً ما قبل انقلاب حافظ  الأسد على رفاقه عام 1970، في حين أن آخرين من تلك القيادات يجزمون بوجود تلك النزعة بل النوايا الطائفية للانقضاض على السلطة لدى المسيطرين على اللجنة العسكرية.

الخديعة :

في دردشة مثيرة مع “الغراب” يذهب الدكتور محمد أحمد الزعبي “الأمين العام المساعد للبعث لشؤون الحزب، ووزير إعلام أسبق إلى حد اعتبار أنهم ( تعرضوا للخديعة).

يقول د. الزعبي “كنا مخدوعين، وأنا شخصياً كنت من البعثيين المصدقين والمخلصين لحكاية الحزب، ولم يكن لدي ما بين عامي 1063 – 1965 أدنى شك بوجود نوايا طائفية لدى الممسكين بزمام اللجنة العسكرية”.

وبحسب د. الزعبي، كانت الشكوك والريبة تطبع علاقات البعثيين فيما بينهم منذ اعتلائهم سدة الحكم، وظهرت إلى العلن عبر ما سمي لاحقاً بـ “القوميين أو “اليمين” بزعامة ميشيل عفلق وبين ما عرف بـ “القطريين أو اليسار” بقيادة اللواء صلاح جديد.

وفي رد مباشر على من ينفي طائفية البعث منذ إمساكه بالسلطة عام 1963، يقول الزعبي: “الماء تُكذب الغطاس،  إذ أن أحد أهم المبررات التي سيقت للقيام بحركة 23 شباط 1963، هو الإدعاء بمعالجة الصراع الطائفي الذي أخذ ينتشر في صفوف الجيش والعمل على تصحيح بنيته وإعادة القيم الحزبية إلى صفوفه”.

الرفاق الطائفيون:

يستذكر القيادي البعثي السابق وقائع شخصية تلمس مدلولاتها لاحقاً، ومنها ، أن لجنة حزبية جمعته في عضويتها بحافظ الأسد للتحقيق مع اللواء محمد عمران عضو القيادتين القومية والقطرية في البعث، والذي كان متهماً بإجراء اتصالات مع جماعة أكرم الحوراني، وكذلك بالتلون والتظاهر بتأييد عفلق، إضافة إلى السعي لخلق تيار خاص به داخل الجيش.

يضيف الزعبي، استمر التحقيق لساعات طويلة قبل اتخاذ القرار بإبعاد عمران، وتعيينه سفيراً فوق العادة في اسبانيا بشكل فوري، دون الرجوع إلى القيادات البعثية المسؤولة، وبالفعل تم الأمر حيث نُقل من دمشق إلى مدريد.

يومها، فوجئ الزعبي  بحافظ الأسد يعاتبه على تشدده مع عمران خلال التحقيق، ولم ينتبه في حينه أن العتاب وموقف حافظ المُهادن للمتهم أثناء الاستجواب مردهما خلفية طائفية.

 ووفق ما يعتقده الزعبي، يتمتع اللواء محمد عمران بخلفية مماثلة مستنداً باستنتاجه إلى العقلية وراء بعض تصرفاته مثل طريقته في معالجة تداعيات ما يُعرف “بأحداث جامع السلطان”، واعتصام الشيخ مروان حديد، وآخرين داخله عام 1965.

أدت الأزمة حينذاك، إلى انفراط حزب البعث في حماة، وإلى توقف فرعه عن العمل والنشاط نهائياً، ما دفع القيادة إلى تكلُيف اللواء عمران بمعالجة أوضاع الحزب في المحافظة، لكنه تصرف بغرابة، حيث قسم الفرع إلى فرعين، أحدهما للمدينة “سني” يتبع القيادة القومية. فيما الأخر “علوي” يتبع للريف، ويرتبط  مباشرة بالقيادة القطرية. الأمر الذي رفضته الأخيرة، ودفعها  إلى إرسال د. الزعبي ذاته يصفته عضواً في القيادة ، ليتولى إعادة توحيد فرع حزب البعث. نزولاً عند رغبة كوادره، الذين اختاروا بدورهم  مصطفى رستم أميناً للفرع، والذي أصبح لاحقاً عضواً في القيادة القطرية.

ما بعد انقلاب القطريين “جناح جديد”  في 23 شباط 1966 على القوميين “جناح عفلق”، انحصر الصراع على السلطة  ضمن “عصبة الضباط العلويين” داخل اللجنة العسكرية، التي أسر أحد أعضائها “موسى الزعبي” للدكتور محمد ، بأن “الشباب في إشارة للضباط العلويين علقانيين ببعضهم سراً دون علم مدنيي البعث، ووصلت بينهم إلى مرحلة تبادل الشتائم غير المقبولة أخلاقياً”.

الجيش والطائفة:

يتفق الأمين العام المساعد لشؤون البعث الأسبق د. محمد أحمد الزعبي مع الرأي القائل، بأن خطأ اللواء صلاح جديد القاتل كان في تخليه عن موقعه داخل الجيش، وتركه منصب وزارة الدفاع لـ حافظ الأسد في بلد يحسم فيه العسكر موازين القوى، لكنه لم  يجزم ما إذا كان الأمر يتعلق فقط بموازين القوى العسكرية في الجيش أم بأمور أخرى أيضاً.

سعى جديد، بحسب “الكثيرين” من سياسي تلك الفترة إلى  نقل التجربة “السوفيتية” بالحكم وتطبيقها في سورية، حيث الحزب الشيوعي يسيطر بالمطلق على السلطة، من خلال لجنة مركزية مُنتخبة من كوادر الحزب ومؤتمراته، تنتخب بدورها مكتباً سياسياً يرأسه أمين عام، ما يجعل من الأمانة العامة أعلى منصب سياسي.

اقترح اللواء صلاح جديد تغيير “مراكز القوى” بعد هزيمة حزيران، وكان يأمل بتنفيذ قرار القيادة بالتغيير الشامل في المسؤوليات الحزبية والحكومية، مع عدم إحداث شرخ في القيادة أو المنظمة الحزبية، بحسب ما يُذكر عضو القيادة القطرية للبعث الأسبق والمعارض الحالي “مروان حبش” في مخطوط كتابه عن “البعث”.

يوضح حبش، أن عضو القيادة القطرية عبد الكريم الجندي خلافاً لرأي جديد، كان يرى ضرورة “حسم التناقض”، الذي لا ينجم عنه سوى تفريخ أزمات.

لكن ما حدث، أن  الجندي انتحر كماخاب أمل جديد، إذ حسم حافظ الأسد التناقض لصالحه اعتماداً على ثنائية “الجيش والطائفة” برأي د.الزعبي، الذي يستحضر معلوماته حول وساطة تمت بالفعل بين جناحي الأسد وجديد، تولاها عضو القيادة القطرية “كامل الحسين”، وهو علوي محسوب على جديد، تمكن من التوصل فعلاً إلى اتفاق لكنه فوجئ بالشرطة العسكرية  تقتحم منزل رئيس الوزراء آنذك الراحل يوسف زعين، وتعتقل الدكتور الأتاسي واللواء جديد، إضافة إلى بعض أعضاء القيادة، وحين اتصل الحسين بالأسد مستفسراً، ادعى الأخير بأن الإجراء مؤقت ولن يتجاوز بضع أيام، غير أن الاعتقال استطال إلى نحو ربع قرن، وشمل لاحقاً الوسيط الحسين نفسه.

القائد المناضل .. باع وقبض:

ولعل ما ذكره مروان حبش عضو القيادة القطرية والسجين السابق، يكشف خفايا ما دفع حافظ لنقض اتفاقه. إذ كتب في مقال بعنوان: “ما يقارب ربع قرن في المعتقل” قائلاً: “كان السفير السوفييتي نور الدين محي الدينوف على موعد مع الأمين العام المساعد اللواء المتقاعد صلاح جديد، صباح يوم 13/11/1970 ، حيث طلب السفير الاعتراف بقرار ” الأمن 242 القاضي بالاعتراف الضمني بإسرائيل مقابل الضغط لإيقاف إجراءات الانقلاب الذي بدأ الفريق حافظ الأسد باتخاذها ، و تبلغ السفير بأن القيادة لا ترى أي مبرر للاعتراف بالقرار ، كما اعتذر الأمين العام المساعد عن قبول عرض السفير باستعداد الاتحاد السوفييتي لاستضافته والإقامة فيه.

بعد مغادرة السفير السوفيتي، انتقل الأمين العام المساعد  إلى منزل الدكتور يوسف زعين المجاور لمبنى القيادة وبعد دخوله بقليل، فوجئ الحاضرون بدورية مسلحة تقتحم المنزل، وتقذف الشتائم المهينة، واقتادتهم إلى مبنى قيادة القوى الجوية”

 بدوره، يعتقد الزعبي بأن  الغرب تعامل مع الأسد حينها، بصفته الرجل الأقوى عسكرياً، لكنه شكك بوجود رغبة لدى الغرب بالتعاون مع جديد أصلاً حتى لو كان هو الأقوى، بسبب مواقفه المُتشددة خصوصاً رفض جناحه القبول بقرار مجلس الأمن 242، المتعلق بالقضية الفلسطينية، والذي صدر بتوافق أمريكي – سوفيتي آنذاك.

*كاتب سوري.

وسوم: العدد 711