توهيمات وتساؤلات

حين نقارع المصطلحات من حيث الاشارات والمداليل والحركية التي يتم توظيف المصطلح من اجله نعيش حالة من التوهيم الذي غالباً ما ينتج عنه تساؤلات لاحدود لها، فنكون وقتها اشبه بالسائح الذي لا دليل له، وبذلك نخرج من دوائر القصدية في التوظيف الى مساحات التوهيم الذاتي بمعنى ادق الوقوع في تصور غير حقيقي ، وحينها تكون النتائج في كينونتها اقرب الى الوهم من الحقيقة المراد الوصول اليها، كما هو الامر في الواقع واللاواقع حين ننظر الى المسارات التي تتخذها القضية الكوردية في وقتنا الحالي.

وفي خضم هذا المعترك الشائك كثيراً ما نسمع كلمة "واقعية".. أو "واقعي".. أو أن يقول لك أحدهم.. " كن واقعيا!"، يقول الكاتب عماد البليك حول موضوع الواقعية " لا أحد يقف ليحدد لك ما المقصود بالضبط من "كن واقعياً"، هل الواقعية شيء حقيقي وملموس وواضح يمكن الاستناد عليه في تعريف العالم وفهم الذات والأشياء عموما أم أنه حاجة ضبابية لا يمكن السيطرة عليه، التأويل الثاني يبدو أقرب للتمثيل والتطبيق والفائدة العملية، والسبب ببساطة أن طرح الواقعية في شتى صورها سواء كانت في الفلسفة أو الفنون أو السياسة او الاقتصاد ومنذ القدم، وإلى اليوم ظلت تطرح نفسها ليس كشيء مستقل بل كردة فعل لما يعرف بالمثالية.. التي غالبا ما يتم ربطها بالتخييل وربما المجازات المفتوحة غير قابلة التطبيق أو بشكل أكثر وضوحا الانطلاق لآفاق غير محددة من وعي الأشياء بما يفارق صور العالم الخارجي والمحدد في ظن البعض.."، وبذلك حين نضع القضية على طاولة التداول ونحاول دراسة ماهو الواقعي واللاواقعي من الحيثيات والصيرورة التاريخية والوقائعية المستمدة صورها من الحدثية السابقة والانية والتأويلية المستقبلية وقتها نعيش حالة من التعتيم الضبابي حول الماهيات والكيفيات التي تستند عليها الحركة الكوردية اجمالاً، فنكون في اغلب الاحيان امام سيل من الاسئلة التي تطرح نفسها وفق معطيات عقلانية واخرى وجدانية عاطفية واخرى شائعة بين الاوساط العاملة ضمن دوائر وجغرافية الحركات الكوردية.

لذا السؤال الذي يعبر  دائرة التوهيمات ليصل بنا الى حدود وجغرافية التأمل هو.. ماهو الواقعي بنظر الكوردي..؟ في ظل سياقات وانساق داخلية وخارجية كلها تنسج خيوطها من النَفَسّ الكوردي المنهك تاريخياً والمنهك جراء السعي المستمر لادراك خيط الحرية الضائع بين المصالح الحزبية والاقليمية والدولية.. انه بحق تساؤل لطالما ارهق المتمعن في صيرورة الحراك التحرري الكوردي، ولم يزل يؤثر سلباً على المعطيات التي يتبناها في اتخاذ القرارات والاراء بشأن الحركة الكوردية نفسها، ففي حين تسقط الايديولوجيات امام القيمة المصلحوية الحزبية نجدها في الوقت نفسه شعار يلتحف به تلك الاحزاب من اجل الهيمنة الداخلية والسطوة الخارجية وفق تحالفات بنظر البعض هي اشبه بالمقصلة ولكنها في الوقت نفسه بنظر البعض اشبه بحبل النجاة في ظل ظروف داخلية وخارجية واقليمية ودولية ضبابية لامعالم لجغرافيتها، ولا معالم تحدد ملامحها ضمن هيكلة العالم الجديد او لنقل تبعيات النظام العالمي المستحدث.

من هنا تصبح التساؤلات قيد التفعيل، وقيد الحراك، وقيد التأثير، اذا ما هو الواقعي، وهل يمكن تحديد ملامح الواقعية الكوردية..؟، في ظل الانشقاقات الداخلية التي هي اعمق من صورها التي تبث علناً لكونها انقسامات ايديولوجية نابعة من تصورات وحيثيات خارجية تدعمها في سبيل التفرقة والانشقاق خدمة لمصالحها وتحقيقاً لاجنداتها المعادية للكورد من جهة، والمعادية للاطراف الاخرى التي يتحالف الكورد معها من جهة اخرى، وهذا ما يجعلنا امام صورة مبهمة تمنطق مبدأ التوهيمات التي تتبناها الاطراف الكوردية الساعية لتحقيق مكاسب على ارض الواقع، ولكن ما هو الواقع بنظرهم ؛ ولماذا هذا الواقع لايغدوا واقعاً كوردياً عاماً تدعمه الاطراف الكوردية الاخرى الساعية حسب شعاراتها وحراكاتها لتحقيق الهدف نفسه من حيث الظاهر ، ومن حيث المبدأ.. وهنا تبدأ الاشكالية بالظهور علناً لتطرح التساؤلات السابقة حول الواقعي واللاواقعي، وليس من حدود واضحة يعتمد عليها الباحث الكوردي المحايد ليعرف اين يمكنه البدء لرسم ملامح الواقعي، فيعيش حالة ضبابية لايمكن السيطرة عليها، وبالتالي  يبقى الواقعي كشيء مستقل بل كردة فعل لما يعرف بالمثالية، التي غالبا ما يتم ربطها بالتخييل وربما المجازات المفتوحة غير قابلة التطبيق أو بشكل أكثر وضوحا الانطلاق لآفاق غير محددة من وعي الأشياء بما يفارق صور العالم الخارجي والمحدد في ظن البعض ، وبذلك تتحول الاشكاليات التي تقف حجر عثرة امام المساعي الكوردية لتحقيق اهدافها الى توهيمات معقدة، تثير الكثير من ردات الفعل اللاواقعية بنظر الكثيرين، وهذا ما يحقق في الاجمال ما يسعى اليه الاطراف الخارجية باجنداتها المنوعة ورغباتها المختلفة.

وبذلك يمكننا القول ان الواقعية الكوردية في ظل المعطيات الحالية تتحول تدريجياً الى سياقات مبهمة، واذا لم يتحرك القادة وفق منهجية عقلانية لن تتحول تلك الواقعية الى سياقات اكثر شمولية من المدركات المباشرة والتي يراد تحقيقها، لكون الواقع في مجرداته وحقيقته لايشتغل بالمحسوسات المباشرة انما يتجلى فيها او عبرها، وهذا بنظري اهم ركائز الاشكالية الكوردية الحالية، حيث لايتم تحليل المواقف وفق التجليات والاغراض الماورائية بعقلانية، انما تستمد الاحكام عليها وفق دوائر حزبية مقيدة باجنداتها، فتتحول تلك التجليات الى مواقف سلبية، ليس لانها في الجوهر سلبية، انما فقط لان النظر اليها يتم من خلال المحسوسات الانية التي لاتعبر دوائرها المصلحوية، وبذلك تكون الحلول المفترضة للمشكلات المختلفة ضمن السياقات السياسية غير مجردة او منفصلة عن سياقات اللاوعي واللامحسوس في نظم التفكير الحزبي " اللاواقعي" ووقتها تكون المسالك شائكة غير مرئية في سياقاتها وصياغاتها البلاغية اللغوية، فيحدث الشرخ الموجود اصلاً بين الفيؤية الحزبية لتتحول كوباء على القضية الاساسية وعلى القاعدة التي تطيع ولاتتساءل.

ومن هنا نوجه كلامنا الى الساسة الكورد كي يخرجوا من دائرة المحسوسات الوقتية الانية المجردة الى التجليات التي يمكن من خلالها توثيق الرؤية الكوردية الموحدة تجاه القضية الاساس للشعب الكوردي، ولايتوقف هولاء عند البوابات المغلفة بالامنيات الزائفة التي تقوم بعض الاجندات الخارجية بفرضها عليهم وفق تداعيات مذهبية ودينية وقومية لايحتاجها الكورد لاثبات وجودهم، لكون وجودهم سبقي او تزامني لايمكن انكاره الا من قِبَل جاحد حاقد، وهولاء ملامحهم غير مخفية بل ظاهرة للعنان بشكل واضح ودقيق.

وسوم: العدد 714