«الخصوصيَّات» بين اليابان والعربان!
رُؤى ثقافيّة 251
-1-
ناقشتُ قبل بضع سنوات مع رئيس وفدٍ برلمانيٍّ يابانيٍّ قضيَّة الثقافة اليابانيَّة وتميُّزها، ومن ثَمَّ الصراع بين اللغة اليابانيَّة والإنجليزيَّة في بلده. فذكر بصرامةٍ- والعُهدة عليه- أن التعليم هناك باليابانيَّة، وأن الترجمة كانت السبيل إلى نقل العلوم والمعارف وتطويعها للغة والثقافة اليابانيَّتين. وأن الإنجليزيَّة لا تُعلَّم إلَّا في مراحل دراسيَّة متقدِّمة، من المتوسطة فما بعدها، بهدف أن يُحسِن الطالب الفهم لما يسمع بتلك اللغة.
أُهدي هذه السياسة لوزراء التعليم العرب!
في ذلك الحين لم تكن قد تفتَّقت عبقريَّات تعليمنا- في السعوديَّة نموذجًا- عن ضرورة جعل اللغة الإنجليزيَّة مقرَّرةً منذ السنة الرابعة الابتدائيَّة. ولا أدري ما السِّرُّ الخفيُّ وراء السنة الرابعة الابتدائيَّة تحديدًا؟! مع العِلم أن التلاميذ- بالتجربة الشاهدة- لم يحصِّلوا عربيَّة ولا إنجليزيَّة، وإنما حصَّلوا تيهًا واغترابًا عن لغتهم وأوطانهم.
قال الياباني: أمَّا في ما عدا هذا الحدِّ، فإن حضور الإنجليزيَّة في (اليابان) أضعف من حضورها في (الصين) أو (كوريا). على أنه استدرك أن هناك جدلًا في التعليم الياباني بين رأيين، رأي يرى ضرورة تعليم الإنجليزيَّة في مراحل مبكِّرة، ورأي لا يرى ذلك، بل يرى أن لغة اليابان يجب أن تبقَى لغة التعليم الأساس لما تمثِّله من شخصيّة اليابان وفكره وثقافته.
نحن، بحمد الله طبعًا، ليس لدينا جدلٌ في الأمر، ولم يُستشَر أحدٌ أساسًا في هذا الشأن من المتخصِّصين في اللغات حين قُرِّر، بل حُسِم بقرارٍ ارتجاليٍّ أعلَى، بُيِّتَ بليل، وانتهى الأمر!
وحين أشرتُ إلى أنَّني مع الرأي الآخَر: أن تبقَى لغة الوطن لغة التعليم الأساس، نهض من كرسيِّه وصافحني.(1)
تلك هي الخصوصيَّات المهمَّة، إذن- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- التي يجب الاعتزاز بها، وليس التمسُّك بتقاليد بالية- وبعضها غير إيجابيٍّ أو مُعيق لحياة المجتمع- مع عدم تطويرها، وذلك لفُقدان القدرة على تطويرها أصلًا. لتُصبح معول جهلٍ وتخلُّف، وعامل سقمٍ وقابليَّةٍ للذوبان؛ لأنها خصوصيَّات هشَّة، ولا تقوم على قواعد استراتيجيَّة في بناء الثقافة، وإنَّما على شكليَّات نمطيَّة، لا تُسمن ولا تُغني من جوع. تقاليد موروثة غير مسؤومة، مع ما في الطبيعة البشريَّة من نزوعٍ فِطريٍّ عامٍّ إلى التغيير والتجديد. وهذا ما نجده حتى في خطاب العربي التقليدي القديم، القائل شاعره (ثعلبة بن صعير بن خزاعي المازني):
سئِمَ الإقامة بَعدَ طولِ ثَوائِهِ(2)
وَقَضى لُبانَتَهُ فَلَيسَ بِناظِرِ
غير أن التقاليد الاجتماعية بخاصَّة تتحول إلى مقدَّسات، يصعب على أربابها الفكاك منها.
-2-
وعلى ارتباطٍ بشأن الخصوصيَّات المُهلِكة، لا ينبغي أن يخدعنا- في شأن التقاليد القَبَليَّة والمدنيَّة- القول إن المجتمع الفلاني مجتمعٌ مدينيٌّ مختلط، لا قَبَليَّة فيه، ولذا فهو بمنجاةٍ من التعصُّب والانغلاق! فما دام ذلك المجتمع يتشرَّب سموم التحيُّزات الأعمق، والتصنيفات الأفتك، فلا خير فيه ولا استقرار.
إن الجاهليَّة العربيَّة، بكل بشاعتها، لم تُدِر تحيُّزها ضد (النبيِّ محمَّدٍ، عليه الصلاة والسلام) على أساسٍ عائليٍّ أو قَبَلِيٍّ، بل على أساسٍ دِيني، وفكري، وعاداتي تقاليدي. لأجل ذلك كان أقرب الناس إليه أشدَّهم عداءً له، وأذًى له، كعمِّه (أبي لهب)، وأبعدهم عنه أقربهم إليه، كـ(بلال الحبشي)، و(صهيب الرومي)، و(سلمان الفارسي). وقد قيل قديمًا: «لا كرامة لنبيٍّ في أهله». وجاء عن (السيد المسيح) القول: «أعداء الإنسان أهل بيته».(3) ولو كان الرجل ذا فكرٍ تقليديٍّ، محسوباتيٍّ، عشائريٍّ، عائليٍّ، يُسلِّم بما ساد في مجتمعه من أعراف، لكان أوَّل المنضوين تحت لوائه أعمامه، كما يحدث في المجتمعات النَّسَقيَّة. في تلك المجتمعات ليس للفرد أن يخرج عن الجماعة برأيٍ مختلف، أو بفِكرٍ جديد، أو بقولٍ يُعارض ما تواطؤوا عليه، فضلًا عن المجيء بـ«نُبوَّة»، وإلَّا أعلنوا براءتهم منه، ولعنوه، وحرَّضوا عليه؛ حيث لا مجال لفرديَّةٍ مطلقًا في مثل تلك المجتمعات المحنَّطة؛ فالفرديَّة مروق. وذلك ما حدثَ، إضافةً إلى أن ما جاء به (محمَّدٌ) كان ضِدَّ امتيازاتهم ومصالحهم وفكرهم، فوقع التصدُّع بينه وبين عِلْيَة الرؤوس فيهم.
-3-
على أن فكرة (المدنيَّة) نفسها لا يصلح أن تتحوَّل إلى «أيديولوجيا»؛ وإلَّا أمست كـ(الشيوعيَّة)، نظريَّةً مثاليَّةً تُحلِّق في السحاب، والناس على الأرض لا يفهمونها، ولا يريدونها! ذلك أن الأمر محكوم في نهاية المطاف بعاملَين: (الشعب)، و(آلية الاقتراع). فالشعب الجاهل، والجائع، والمغيَّب، لن يصوِّت للمدنيَّة! فأين ستتحقَّق؟ والأدهى حين لا يرضَى مدَّعي المدنيَّة بنتائج الانتخاب، إنْ أُجري الانتخاب. وهنا يتحوَّل بدوره إلى اعتناق «دِينٍ» بديل، أو إلى معسكرٍ إقصائيٍّ؛ فيكون بأدلجة نهجه قد وقع في الشَّرَكِ نفسه، مهما احلَوَّت في نظره أهدافُه.. وكلُّ حزبٍ بما لديه فرحٌ، دائمًا، على كلِّ حال. وإنَّما النجاة من الغَرَق في هذه المستنقعات يكمن في أمور:
1- مبدأ الاحتكام إلى الآليَّة الديمقراطيَّة، مهما تنافرنا مع نتائجها مبدئيًّا.
2- تثقيف الناس، وتمدينهم، عبر التعليم، وأقنية التنوير، ثمَّ بالممارسة العمليَّة.
3- قبل ذلك، إرساء القوانين المدنيَّة الكفيلة بنجاح التجربة، حتى لا تستحيل إلى محسوبيَّات وقَبَليَّات جديدة، ومحاصصات، وفوضى، كما هي الحال في دعاوَى الديمقراطيَّة العربيَّة.
غير ناسين أن الأحلام الورديَّة، عبر هذا المخاض- كما في غيره- لا تتحقَّق بين عشيَّةٍ وضُحاها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وتظل لكلِّ شعب، وحضارة، مميِّزاتهما وسلبيَّاتهما. فمع الإنجاز الباهر للتجربة اليابانيَّة، قياسًا إلى الإخفاق الظاهر للتجربة العربيَّة، فما يعشينا ذلك عن حقائق سلبيَّة مقابِلة هناك. منها، على سبيل المثال لا الحصر، أن نسبة الانتحار في الإمبراطوريَّة اليابانيَّة مرتفعة جدًّا، قد تصل إلى الألوف سنويًّا. وهذا مؤشِّر- يُغني دلالةً وحده عن سِواه- على مدى المعاناة النفسيَّة والذهنيَّة والاجتماعيَّة والحضاريَّة لمجتمعٍ، بحيث تبرز فيه ظاهرة الرغبة عن الحياة، وإلى هذا الحدِّ المريع!
(2) وردَ البيت في (الضبِّي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليات، تحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون (القاهرة: دار المعارف)، 126/ 2): «... من بعد طول ثوائه». ووزنه مكسور، صوابه: «بعد طول ثوائه».
(3) (إنجيل متى، الإصحاح 10: 36). وهذا واردٌ عن (يسوع) أيضًا، (م.ن، الإصحاح 13: 57): «ليس نبيٌّ بلا كرامةٍ، إلَّا في وطنه وفي بيته».
(الأستاذ بجامعة الملك سعود، بالرِّياض)
.............................
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: ««الخصوصيَّات» بين اليابان والعربان!»، المصدر: صحيفة "الرأي" الكويتية، الخميس 30 مارس2017، ص١٩].
وسوم: العدد 715