الحالة الفلسطينية.. محاولة للفهم

لم يلقَ نداء القدس الذي وجّهه "وطنيون لإنهاء الانقسام" أي صدىً أو ردة فعل من طرفي السلطة في رام الله وغزة، مع أنّ هذا التجمّع الذي تشكّل من شخصياتٍ وطنيةٍ ذات اتجاه يساري، حاول، في ندائه الذي عنونه باسم القدس وانتصارها الأخير، أن يبني على لقاء الرئيس محمود عباس مع وفد القيادات الحمساوية في الضفة الغربية الذي ترأسه ناصر الدين الشاعر الذي كان قد شغل موقع نائب رئيس حكومة الوحدة الوطنية التي ترأسها إسماعيل هنية. 

لوهلة تخيّل بعضهم أنّ حديث المصالحة سيعود إلى أروقة صُنّاع القرار في شطري الوطن المقسّم والمحتل والمتحد حول القدس. فهناك اجتماع مباشر، ومن دون وسطاء، بين وفد من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والرئيس عباس. وثمّة مبادرة متوازنة ومتزامنة، تقوم على حلّ اللجنة الإدارية التي شكّلتها "حماس" لإدارة شؤون قطاع غزة، في الوقت الذي تُرفع فيه عقوبات السلطة الفلسطينية عن القطاع وأهله. لكنّ هذا الأمل تبخّر، قبل أن يصل أعضاء الوفد الحمساوي المبادر إلى منازلهم، وقبل أن يجفّ حبر الورق الذي كُتب عليه النداء. 

لم يتجاوز عمر تشكيل لجنة "حماس" الإدارية لإدارة شؤون غزة شهورا معدودة. وغزة، بهذه اللجنة أو من دونها، ومنذ عمر الانقسام قبل عشرة أعوام، تُديرها الحركة منفردة، ولم يتغيّر على غزة وأهلها وإدارتها شيء، على الرغم من اتفاقات عزام الأحمد من حركة فتح وموسى أبو مرزوق من "حماس" المتكرّرة عبر الأعوام، والتي لم يصدقها عاقل يومًا. 

عاش كلا الطرفين وتعايشا مع الانقسام، ويدرك كل منهما أنّ الانقسام مشكلة اختلاف في المسار السياسي، قبل أن تكون انقسامًا جغرافيًا، ومعلوم أنّ مبادرات المصالحة المتعاقبة جاءت إمّا استجابة لمتغيّرات إقليمية، مثلما حدث يوم اجتمعت الفصائل في القاهرة بعد الثورة المصرية في العام 2011، وفتحت الحدود مع غزة، أو للالتفاف على الضغط الشعبي المتصاعد مع الهبات الفلسطينية، أو للتلويح بملف المصالحة كلما تعثّرت المفاوضات، حيث استُخدمت ورقتها من أجل استئناف مسار الحل السياسي. ولعلّ العودة عنها أحيانًا كانت استجابة لمتطلبات دولية أو إقليمية.

نمت، في الأشهر الماضية، اتجاهات للتقارب بين الطرفين، تمثّلت في وقوف "حماس" بجانب "فتح" خلال عقد المؤتمر السابع، والسماح لمندوبي "فتح" من قطاع غزة بالسفر إلى رام الله، على خلاف ما حدث في المؤتمر السادس، حين منعتهم من الخروج، بل وتعدّى ذلك إلى مشاركة وفد من "حماس" في أعمال المؤتمر، ألقى فيه كلمة إيجابية باسم رئيس المكتب السياسي (السابق) للحركة الإسلامية خالد مشعل. وهو المؤتمر الذي صودق فيه على فصل مجموعة محمد دحلان من "فتح"، وأُعلن تجديد "الشرعية" الفتحاوية للرئيس محمود عباس. لكنّ الحدث الأبرز كان في اجتماع بيروت بحضور الفصائل كافة، والذي منحه شرعية فلسطينية. وبهذين الحدثين، تمكّن الرئيس عباس من إحباط مخطط الرباعية العربية (الإمارات ومصر والأردن والسعودية) الرامي، في حينه، إلى فرض محمد دحلان على المشهد السياسي الفلسطيني. 

لم يدُم شهر العسل هذا طويلًا، على الرغم من صدور وثيقة "حماس" الجديدة، والتي تقترب في بعض بنودها من مشروع السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو أمر يجب ألّا نفترض سلفًا أنّه سيُقابَل بارتياح من بعض الدوائر، فالاعتدال هنا يُدخل الأطراف ضمن دائرة التنافس، وإن افترض بعضهم أنّه سيؤدي إلى التكامل وتقريب المواقف. لكنّ للمشكلة أبعادا أعمق، فثمّة مبادرة أميركية لحلّ القضية الفلسطينية، أعلن عنها الرئيس دونالد ترامب، وكلّف صهره بمتابعتها، وذهبت وفود فلسطينية إلى واشنطن، وعادت تتحدّث عن سلام اقتصادي مقبل. ترافق ذلك مع الحملة الأميركية العربية ضد الإرهاب، والتي شملت "حماس" و"الإخوان المسلمين" ضمن قوائمها. وقاد هذه الحملة خصوم الرئيس عباس العرب وأصدقاء خصمه اللدود (دحلان). 

هل اعتقدت سلطة رام الله أنّ هذا هو الوضع الملائم للانقضاض على "حماس" في قطاع غزة. ليست الإجابة سهلة ولا قاطعة. قد تكون مثل هذه الأفكار مبرّرة ومفهومة في الأيام الأولى لإجراءات السلطة، لكنّ المبادرة الأميركية لم تتقدّم، وهبّة القدس جعلت الرئيس عباس يرفض استقبال المبعوث الأميركي، وبدأت الدائرة تدور حول نفسها من جديد، والدول العربية التي حرّضت السلطة على "حماس" هي نفسها التي أرسلت إليها وقودًا بدلًا من الذي منعه الرئيس عنها، ووعدت بفتح معبر رفح مقابل تقاسم السلطة في غزة بين "حماس" ودحلان. 

لماذا لم يلتقط الرئيس عباس ذلك كله، ويعدل عن إجراءاته، بعد هبّة القدس والتقارب الدحلاني الحمساوي، على الرغم من زيارة وفد من "حماس" له، كان واضحا أنّه يمثّل تيارًا فيها يرى في المصالحة الفلسطينية الداخلية خيارًا أفضل من تقاسم السلطة في غزة برعاية مصرية؟

ندرك بالطبع حجم معاناة أهل غزة بعد حصار عشرة أعوام، وانقطاع مصادر الرزق وأبواب العمل وحرية السفر والتنقل، والاكتفاء بجرعاتٍ محدودة من الكهرباء. وندرك أكثر أنّ ثمّة أزمة ثقة عميقة بين "حماس" والسلطة، من الصعب ردمها ضمن المعطيات الحالية. لكنّ ما يجري ليس أكثر من نقل أدوات الحصار من طرفٍ إلى أخر، فهل ستُغلق المعابر مع الضفة من خلال "إسرائيل" لتصبح مسؤولية الحصار مسؤولية عربية، حيث يُخفّف أو يُشدّد من خلال السلطات المصرية، وبحسب تجاوب "حماس" وكتائب عز الدين القسام لمتطلبات المرحلة، مع ملاحظة أن جزءًا كبيرًا من الوعود لم يُنفّذ، وأنّ الحال في غزة بقي على ما هو عليه في مجالات الحياة اليومية المختلفة؟ فهل يكون ذلك مقدّمةً لمتطلبات جديدة على حركة حماس أن تلبيها؟ ومن المسؤول عن دفع الأمور بهذا الاتجاه؟ 

من المهم الانتباه إلى نقطتين إضافيتين؛ أولهما بيان القسّام الذي يهدّد بإحداث فراغٍ سياسي وأمني في القطاع، وأحسب ذلك يتضمن تهديدًا للأطراف المختلفة؛ بدءًا من إسرائيل، على اعتبار أنّ احتمال الحرب مع استمرار الحصار أصبح حتميًا، ومرورًا بالسلطة الفلسطينية التي تتحمل قسطها ممّا آل إليه الوضع في غزة، ومصر التي تتلكأ في تنفيذ التزاماتها الجديدة، وانتهاءً بقيادة "حماس" نفسها في القطاع، والتي وافقت على التقاسم الجديد للسلطة، وعلى استبدال الحصار الإسرائيلي بالإجراءات المصرية السياسية والأمنية. 

النقطة الثانية، وهي تتعلّق بقرار السلطة الفلسطينية عقد اجتماع في رام الله للمجلس الوطني الفلسطيني بمن حضر، أو بحسب تعليق أحد الأصدقاء "بمن احتضر"، وذلك بعد نحو 30 عامًا من آخر اجتماع للمجلس لم تتغيّر فيه العضوية، ووفاة عدد كبير من أعضائه، في مخالفةٍ واضحةٍ لمقرّرات اجتماع بيروت التي قضت بإعادة تشكيله عبر لجنة تحضيرية لم تجتمع، وبعقده في الخارج. إنّها مقامرةٌ كبيرةٌ يُقدم عليها الرئيس، تهدّد بهدم آخر بناء كان يجمع الشعب الفلسطيني، في محاولةٍ لتجديد شرعيات زائفة لم تعد تقنع أحدًا. أو ترتيب ممجوجٍ لانتقال سلطةٍ من المشكوك يه دوامها. وإذا كان لهذا البحث صلة، بعد أن تتحدّد ملامح ما سيُقدمون عليه، فإنّ أي محاولة لفهم الحالة الفلسطينية في مثل هذه الأوضاع لن تقود إلّا إلى مزيدٍ من التمّزق والانقسام، والوقوع تحت هيمنة قوىً لا تريد الخير لشعبنا وقضيتنا. أمّا الفهم الحقيقي للحالة الفلسطينية، فلن يتعدّى التمسّك بمشروع وطني فلسطيني مقاوم وجامع لمكونات الشعب كلها في الأرض المحتلة والشتات.

وسوم: العدد 733