قلم رصاص ومسّاحة؟!.. ألف مبارك يا محروسة!
منذ بضع سنوات، أخبرني صديق كريم أثق فيما يقول أن شابا أعرفه يملك محلا متواضعا في المدينة تحول إلى مليونير في وقت قصير. لم يكن الخبر على هذا النحو مثيرا، فكثيرون يتحولون إلى مليونيرات سريعا. ولكن ما وراء ذلك كان هو المثير بالنسبة لي.
كان الشاب المذكور وفقا لفحوى الخبر يجمع مليون جنيه، ويذهب إلى الصين ويشحن سفينة بقيمة المبلغ المذكور أدوات كتابية (أقلاما، كراسات، برايات، مسّاحات، مسطرات، خرامات، دباسات، دبابيس، ملفات، علب ألوان، أدوات رسم، رزم ورق، ظروف رسائل،.....)، ثم يصل بالبضاعة إلى مصر فيبيعها لتجار الجملة بسعر معقول؛ أقل مما يشترون به من التجار الكبار، فيجمع نحو خمسة ملايين جنيه، وتتكرر المحاولة مرة كل عام على الأقل.. وهكذا انتقل الشاب من خانة العامة إلى خانة الخاصة وتوسع محله وصار علما بين تجار المدينة.
حين سمعت الخبر صعدت إلى ذهني فكرة تصنيع هذه الأدوات في بلادنا، وقلت: ماذا لو أن هذا الشاب ذهب بالمليون الذي جمعه إلى سيناء وأقام هناك مصنعا صغيرا، ينتج هذه الأدوات أو بعضها، ثم راح يتوسع بعدئذ عن طريق الإسهامات أو الشركاء، فيحقق لنفسه وبلاده خيرا عميما، يوفر العملة الصعبة أولا، ويجعل وطنه ليس في حاجة إلى الاستيراد، والارتهان لمشيئة دول أخرى، ويعمر قطعة غالية من الوطن، ويمكن فيما بعد أن يكون عنصر تشجيع لآخرين على تصنيع هذه الأدوات وإنتاجها فيتاح لبلادنا تصديرها والإفادة منها؟!
بعد حين أحضر لي أحد أبنائي بعض الأدوات المكتبية من شارع الفجالة، ورأيت على بعضها، (صنع في فيتنام)، فاندهشت، وقلت في نفسي: فيتنام! فيتنام تصدر إلينا أقلاما؟!
كانت فيتنام في الستينيات مجرد غابات ومستنقعات، وقرى ومدنا بائسة يدمرها الأميركيون الغزاة يوميا، ويقصفونها على مدار الساعة بالطيران والمدافع وغيرها، وقاوم الفيت كونج بقيادة الشيوعي هوتشي منه الغزو الأميركي، وأجبروا الغزاة على الرحيل، وترْك الشعب الفيتنامي حرا في ظل زعامة المقاومة لتضمه دولة واحدة بعد أن كان مقسوما إلى نصفين.
لم يكن من المتوقع أن تنهض فيتنام سريعا بعد هذا الدمار، ولكنها بعد عقود قليلة شاركت بالمنافسة في مجال الإنتاج والتصدير، بينما أم الدنيا ذات العراقة والتاريخ الممتد إلى خمسة آلاف سنة أو يزيد، لا تستطيع أن تصدّر قلما أو ممحاة، بل لا يمكنها أن تكتفي من هذين النوعين!
وأعتقد أني أحسست بالسرور والبهجة حين نشرت جريدة المصري اليوم الانقلابية في 21/7/2017 أن إحدى المجموعات التجارية المتخصصة في الأدوات المكتبية قررت إنشاء أول مصنع لإنتاج الأستيكة والأقلام الرصاص والجاف باستثمارات تصل إلى ٥ ملايين دولار. وأن طارق قابيل، وزير التجارة والصناعة الانقلابي، استعرض مع وليد شتلة، رئيس مجلس إدارة مجموعة مكتبات «سمير وعلى»، مراحل تنفيذ المشروع الذى ينفذ بالتعاون مع إحدى الشركات الأجنبية الرائدة في هذا المجال.
وقال «قابيل»، في بيان أصدرته الوزارة، إن الشركة انتهت من إعداد الدراسات، على أن تبدأ الإنتاج وطرحه في الأسواق نهاية العام المقبل، موضحاً أن الإنتاج المحلى الحالي من الأقلام الرصاص والجاف يلبى ما بين ١٥ إلى ٢٠% فقط من إجمالي احتياجات مصر، بينما تتم تلبية احتياجات السوق المحلية من ( الممحاة (الأستيكة) عبر الاستيراد فقط، وهو ما يمثل فرصة كبيرة لدخول استثمارات جديدة للعمل في هذا المجال.
لاريب أن إقامة مشروع إنتاجي حقيقي يملأ الشعور العام بالفرح، فما أكثر مشروعات الفشنك التي أعلن عنها الانقلاب العسكري الدموي الفاشي، فلم تحقق نجاحا، وإن حققت خسائر فادحة استهلكت كثيرا من الرصيد المالي الذي تملكه الدولة ويدخره الناس، وفي الوقت ذاته ما زال هناك عدد ضخم من المصانع المنتجة متوقفا عن الإنتاج أو يعمل بطاقة محدودة، أو متعطلا جزئيا، بينما الانقلاب في واد آخر يبحث عن معارضيه ليضعهم في السلخانات أو يصفّيهم في الشوارع والبيوت أو يعقد لهم المحاكمات الظالمة، وتصدر ضدهم مئات الأحكام بالإعدام والمؤبد والمشدد، ثم يدفع للأذرع والأبواق والدعاية في الداخل والخارج ليحسّن صورته القبيحة، وشرعيته المدّعاة.
لم تثمر مشروعات القناة الجديدة او استصلاح المليون ونصف المليون فدان، ولا الطرق التي تخدم طبقة النصف في المائة، أو العاصمة الإدارية التي لا يحتاجها المجتمع حاليا وتكلفت المليارات.. وكان الأولى لوكان هناك تفكير سليم أو تخطيط صحيح أن يتم تشغيل آلاف المصانع المتوقفة كليا أو جزئيا، وبحث مشكلات الزراعة وخاصة المياه، للاكتفاء أو محاولة الاكتفاء بمحاصيل الأرز والقمح والذرة، فضلا عن فواكه التصدير.. ولكن الاهتمام كل الاهتمام يتركز لتصدير الرعب إلى الشعب المظلوم أو الظالم، والانفاق السفيه على وزارات الدعاية والكلام التي تجرد المصري من معرفة الحقيقة أو القيم الصلبة أو الأخلاق النبيلة وتحوله إلى كائن هش، قيمه سائلة، يغني تسلم الأيادي بينما دماء الأبرياء تجري من أمامه ومن خلفه، دون أن يستشعر وخزا لضمير أو خوفا من رب العباد؟
بعد انقلاب 1952 قام البكباشي بتأميم المصانع التي أنشأها طلعت حرب، ومؤسسات المجتمع الصناعي، وأضاف إليها الحديد والصلب، ولكنها بيعت جميعا لتجار الخردة واللصوص، وأطلق الناس النكات على الإعلان التلفزيوني الذي كان يشير إلى عودة طلعت حرب، حيث قالوا إنه رجع في الطريق حين علم أن إمارة الأعراب تشتري كل شيء في مصر بتراب الفلوس!
مصنع الأقلام والمساحات يمثل خطوة يمكن أن تتكرر في كل مكان، وكان يمكن لصحيفة المصري اليوم التي انفردت فيما يبدو بنشر الخبر وحدها أن تخبر القارئ أن صاحب الجريدة نفسه كان يستطيع أن ينشئ مصنعا إنتاجيا لسلعة مهمة تحقق جزءا من الاكتفاء الذاتي بدلا من محل الحلويات الفخم الذي يتذوقه كبار القوم ويحقق عائدا ضخما دون إنتاج أو تصدير. صحيفة الانقلاب تجاهلت ذلك ونقلت غزليات المسئول الانقلابي في مصنع الأقلام والمساحات وكلامه الإنشائي حول المشروع الذي يعكس نجاح خطة الوزارة في السعي لتحول الشركات التجارية إلى العمل في مجال الصناعة، بما يسهم في إحلال المنتجات المحلية محل المستوردة، وهو ما ينعكس إيجاباً على خفض العجز في الميزان التجاري لمصر. وكلام مسئول آخر يسوغ تخلفنا في صناعة الأقلام والمساحات إلى رفض الشركات الأجنبية نقل تكنولوجيا هذه الصناعة إلى مصر، وإني أسأله كيف وصلت هذه التكنولوجيا إلى فيتنام؟
يبدو أننا- الشعب وليس الانقلاب- محتاجون إلى تقديم اعتذار شديد إلى طلعت حرب، حيث فرطنا في منهجه وتراثه جميعا!
الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
وسوم: العدد 733