الشاهد أنا.. والمشهود جوبر وعين ترما

بينما أتابع الصمود الأسطوري لمقاتلي فيلق الرحمن والفصائل الأخرى في جبهات جوبر بدمشق وعين ترما بالغوطة الشرقية، وتكبيدهم مقاتلي النظام السوري والمليشيات الطائفية الأجنبية خسائر فادحة اضطر على إثره موقع قاعدة حميميم للاحتلال الروسي في اللاذقية أن يُعلن عن فشل استراتيجية النظام في القدرة على السيطرة على حي جوبر الدمشقي ومعه عين ترما الصامدة..

تذكرت تلك الأيام الخوالي من شهر شباط من عام 2013 يوم كنت أول صحافي تحط قدماه في مناطق المعارضة السورية المسلحة في جوبر وما حولها، لتغطية ما يجري لقناة الجزيرة من تقدم ملحوظ يومها للمعارضة على مواقع النظام السوري، كنت يومها وعلى مدى شهرين متواصلين ألتقي المقاتلين هناك ومعهم أهالي جوبر الطيبين الذين أول من استقبلوا جيوش الصحابة في العاصمة، إبان الفتح الإسلامي بقيادة أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، ولا يزال قبر حرملة بن الوليد شقيق الصحابي خالد بن الوليد في جوبر شاهداً على تلك الأيام المفصلية في تاريخ دمشق والمنطقة..

الخسائر الفادحة التي ألحقها فيلق الرحمن والمؤيدون له كانت غير متوقعة على صعيد النظام السوري الذي يسعى إلى استعادة كل أحياء دمشق ليثبت للعالم أن العاصمة كاملة في قبضته، ولكن رغم كل الأسلحة التي استخدمها بما فيها الفرقة الرابعة التي دفع بها إلى الصفوف القتالية الأولى، والمعروفة بالتسليح الإيراني إلا أنها تلقت هزيمة ساحقة بعد الهزيمة النكراء التي تعرضت لها في الهجوم على درعا من قبل، أرغمها على وقف هجومها المغرور، ويحكي شهود عيان في المنطقة اليوم عن تكتيكات الكمائن التي ابتدعها فيلق الرحمن والذي يعود الفضل فيها إلى شخصية قائده النقيب المنشق عبد الناصر شمير أبو النصر الذي يقوم على هذه التكتيكات بشكل مباشر، وقد التقيته كثيراً خلال تغطيتي للثورة من عام 2013..

لم تنقطع متابعتي شبه اليومية لما يجري هناك منذ تلك الأيام الغنية صحافياً وإعلامياً، أتابعها عن بعد من خلال القادة الميدانيين فيها والأصدقاء الناشطين والإعلاميين وعمال الإغاثة، ويوماً بعد يوم تثبت الأيام أن خطوط الجبهات لم تتغير كثيراً.. كنا طوال الشهرين من تغطيتنا للثورة السورية عام 2013 نتحرك من جوبر إلى زملكا، ومنها إلى سقبا فحمورية فعين ترما فدوما وغيرها من بلدات الغوطة الغناء وسط فرحة الناس حيث كان النظام على وشك السقوط تماماً، ولم تكن قوات المعارضة المسلحة تبعد أكثر من مائة وخمسين متراً عن ساحة العباسيين الدمشقية الشهيرة..

دعاني يومها أحد القادة الميدانيين إلى كوب شاي في برج المعلمين بجوبر والذي يبلغ 14 طابقاً وذلك من أجل تكحيل عيني بالمسجد الأموي وقاسيون، وهو الذي كان يعرف شغفي بالشام التي حرمت منها لثلاثة عقود، رفض منتج الجزيرة الصديق الشهيد محمد عباس العرض، قائلاً لي يا أخي الوضع خطير، فألححت عليه بأن نذهب، وقبل على مضض رحمه الله، فكم كان حريصاً علينا وعلى فريق الجزيرة، وكان ذلك يوماً مشهوداً إذ صعدنا على الدرج للطابق الرابع عشر، لنحتسي الشاي وسط ظلام دامس في البرندة الخارجية المطلة على جبل قاسيون المغتصب من قبل قوات الفرقة الرابعة، والمسجد الأموي، تحاشياً لقناصة النظام السوري..

صباح اليوم التالي دُعيت على عجل من قبل فصيل تحرير الشام بقيادة النقيب المنشق فراس البيطار وكان يوم جمعة، وإذ بجثث ملقاة على الأرض تشي الوجوه بأنها أفغانية، قمنا بتصوير الجثث وشاهدت الوثائق التي تثبت على أنهم أفغان، يومها كانت أول إشارة على تواجد المليشيات الطائفية الأجنبية في معركة دمشق، الأمر الذي أثبت أن كفة الثورة رجحت، فما كان من النظام السوري إلاّ أن طلب من أسياده الإيرانيين التدخل بقواتهم المرتزقة لإنقاذه وانتشاله من ورطة السقوط، وقد وثّق ذلك كله قائد التدخل الإيراني العميد حسين همداني في كتابه الشهير بعنوان "رسائل الأسماك" والذي ابتلعه مثلث برمودا الشامي كما ابتلع غيره من قادة الحرس الثوري الإيراني في معارك الشام..

أفتح بعد هذه الفترة الطويلة دفتر الذكريات لأجدني قد اختطيت في دفتيه: ".. اليوم الثامن عشر من شباط 2013 قمنا بزيارة إلى زملكا وسقبا ثم توجهنا إلى جوبر حيث عاينّا بأنفسنا طريق الرعب المسمى بالمتحلق الجنوبي.. الدمار والخراب في كل مكان، والجيش السوري الحر يستعد لشن هجوم على مقر الأركان وثكنة المشارقة، تولّت قوات الجيش الحر في البداية بضخ الزيت والقير على بناية يتحصن فيها مقاتلو النظام ثم أضرموا النار فيها.. كانت الشوارع خالية من المارة.. باستثناء المسلحين وبعض الحيوانات الأليفة، بينما هجر عشرات الآلاف الحي، وكأنه لم يغن بالأمس، تذكرت يومها ما قاله أبي عبد الله اللاسكي في رثاء الدولة السامانية:

ألم ترى دورهم تبكي عليهم *** وكانت مألفاً للعز حيناً

وقفنا معجبين بها إلى أن    *** وقفنا عندها متعجبينا

كان كل شيء في هذا الحي الصامد يذكرك بالتاريخ، ويذكر قائد الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في سوريا أيام الثمانينيات المهندس أيمن شربجي في كتابه "على ثرى دمشق" المطبوع أخيراً والذي وثق بشكل دقيق لما جرى في تلك الأيام من المواجهة مع الأسد الأب، يذكر الكثير عن العمليات القوية التي نفذت في حي جوبر خلال فترة الثمانينيات وهو ما كلف النظام يومها خسائر فادحة جداً".

اليوم تُعيد جوبر وعين ترما سيرة صمود تاريخية، واليوم تدفع جوبر ثمن الثورة الشامية كلها، فالغضب عليها غضب على الثورة كلها، كونها مخلب الثورة في العاصمة، وسقوطها لا سمح الله تعالى سقوط للثورة في العاصمة، وبالتالي هزيمة سياسية وعسكرية، لكن توقيع الروس مع فيلق الرحمن الذي يقود المعركة هناك يؤكد فشل النظام في مساعيه لاستعادته، وإن كان سريعاً ما سعى إلى نسف الاتفاق عملياً على الأرض مما يشير إلى ضعف النفوذ الروسي على الأرض..

وتظل قناعتي أن ثورة ضحت بمليون شهيد واثني عشر مليون مشرد ومئات الآلاف من المعتقلين، لن تُهزم بإذن الله، ونظام فقد أربعة أخماس مقاتليه بحسب معهد تشاتام هاوس البريطاني العريق، باختصار نظام انتهى إلى الأبد، ووجوده اليوم فقط عبارة عن بيدق ومبرر لاحتلال روسي وإيراني للبلد، فمن يفقد نصف قواته العسكرية يصبح خارج نطاق الجاهزية العسكرية، فكيف بحال من فقد أربعة أخماس قواته العسكرية هكذا تقول أبجديات العلوم العسكرية؟!

وسوم: العدد 735