هلاَّ وُضعت هذه اللبنة ...
عند أهل السعيِ من رجالات الهدى ، لاتوجدُ خططٌ تُعلق على الجدران ، أو توضع على الرفوف بانتظار أن يُنجزَها آخرون ! أو توضع تحت بند التأجيل بانتظار جيشان نفسي ، أو هيجان مشاعر خاصة حتى يتمَّ السعيُ . فحاجة الأمة للعلاج الشامل ـ اليوم ـ يحتم عليها أن لاتهتمَّ بالجرعات الإسعافية الطارئة لمشاكلها الكبيرة والمستعصية . ولن ينفع القعودُ لأن إصلاح آخر هذه الأمة لابدَّ له من السعي ، سعي البصير بعقيدته الإسلامية ، وبدربه الذي يسير عليه، سعي الذي عرف البداية ، وعرف الأعباءَ التي تنتظره على امتداد المسيرة ، والحرص على الوصول ـ بتوفيق الله ـ يتيح للسعي قوةً وعزيمةً ومضاءً تؤصِّلُ عملية الإقلاع الدائم نحو الأعلى ... فلا مكان للتسويف ، وإنما هو الإيمان واليقين بالله وحده الذي يؤكد للمسلم قدرته الفائقة على حسم الأمور ، وتجاوز الصعاب . وعدم الرضوخ للفشل ، وعدم الانصياع للعثرات . فالقلوب التي تسمو على حطام الدنيا لاتكترث مطلقا بزينة سراب الأهواء والملذات الفانية ، فليس لهذا السراب من حظوة أو تقدير عند أهل تلك القلوب الطاهرات . فكل البيانات التي ترتفع بدرجات هذا السراب تتهاوى بسرعة أمام حقائق الفطرة التي فطر الله عليها هذا الكون ومن فيه . فلا بقاء إلا لتلك التفاعلات المباركة من قِبَلِ أهل الدعوة الربانية مع أحداث هذه الدنيا الفانية . وبالتالي فلا نجاة ولا فوز إلا بما جاء به وحيُ السماء ، حيث تتطهر الأجسادُ من أقذار الدنيا ، ويسمو العقل بفكره ومنطقه ومآتيه ، ويصنع للمسلم المشاعر الصافية التي توجه مسيرته الإنسانيه المتوجة بالفتح من عند الله ربِّ العالمين .فبالأعمال الصالحات وبهذه القيم النَّيِّرات يتشكل المحورُ ذو الارتباط الوثيق بالله ، فيستعيد المسلم نشاطه المتقدم وحيويته المتوازنة ، فينأى عنه الارتباك والقلق مهما كانت الظروف ، ومهما كثرت الضغوط واشتدت الأزمات ، فإنه لاحول ولا قوة إلا بالله .
إنَّ سعي الرعيل الأول من هذه الأمةِ عند بدءِ الدعوة الإسلامية ، وعند اشتداد الأذى بالقلة المؤمنة ، وفي أيام الهجرتين ، وأيام لقاء العدو ... منح أولئك الأبرار الأطهار الابتسامة المشرقة أمام ظلمات القهر والظلم والبأس . وأراها ما وعدها اللهُ سبحانه ، فلاحت الجنَّةُ من وراء أُحد ، واستبشر الفردوس الأعلى بقدوم الشهداء يوم بدر ، وامتدت دروبُ الفتح نيِّرةً يوم الخندق ، وكانت العزةُ لله ولرسوله وللمؤمنين ، وهي باقية هكذا إلى يوم الدين . إذْ لو أن الدنيا تعدل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى فيها كافرا بوحدانيته شربة ماء . وبذلك السعي استبدل المؤمنون بالله ورسوله r ، العاملون بكتابه وسُنَّة نبيِّه r سفاسف الجاهلية الأولى بقيم انتمائهم إلى الأسفار الإلهية، فتغيَّرت أنفسُهم وأشرقت أرواحُهم ، واستشعروا بكل حواسهم الحيَّة المتألقة أن الأفراح الروحية الحقيقية ليست في طعام لذيذ أو شراب بارد أو لباسٍ زاهٍ أو في الترف البغيض مهما كان ، وفي أيِّ مكان وُجِد ،وإنما هو في اطمئنان القلوب وتعاطيها وتعايشها مع أسباب السكينة التي يمنحها الله للأصفياء من عباده ، فهم لايهربون من أيِّ واقع مهما كان مريرا ، ولا يعيشون وهما يبتغون من ورائه نوعا من الراحة ، ولا يتحركون مع ضباب التسويف الذي يستهوي النفوس المترهلة التي تذعن غالبا لدوامات القلق ، وتلجأ إلى ورشات الإصلاح الجزئي ، فلا هي استخارت ربَّها وأحيت نورَ إيمانها بربها ، ولا هي استشارت أولي الحكمة في أمرها ، وشدَّت ساعد التمكين لقدراتها . ولكنها استكانت لوسوسة إبليس ، واطمأنتْ في ميادين اللهو الذي أعدَّه بإتقان وخبثٍ مع عساكره من شياطين الإنس والجن . فتمتعت بإثارات باردة ، عمرُها سحابةُ صيفٍ مرَّتْ عجلى ، ثمَّ كانت أثرا بعد عين .
إنَّ السَّعي باستثمار قدرة المؤمن على تخطي الصعوبات ، وإزالة العقبات ، والخروج من منازل الظلمات ، بإضافة نور الهداية إلى تلك القدرة ، وتحويلها إلى عمل يُؤجر عليه السَّاعي العامل عند الله عـزَّ وجلَّ ، فالعمل المرضي عند الله عبادة ، والعمل الخالص لوجه الله ،والخالي من هوى النفس تحمله التقوى على رفارف النور . إذ تستقيم الأعمال بحُسْن النيَّة مع السعي الذي هو باب توطيد وتوطين القدرات الإيمانيةمن أجل عملية التغيير الخاصة بالمسلم كفرد ، وتغيير واقع المجتمع والأمة المسلمة بشكل عام . والسعي بالأعمال الراشدة المبنية على محض طاعة الله ورسوله r كان مفتاح أبواب الفتوحات الإسلامية ، لقلوب العباد ، ورحاب البلاد ، وفي العلوم والمعارف ، وفي صياغة مناهج الرقي ، وبناء الإنسان البصير بالغاية والنهاية التي لابدَّ منها . فكان المجتمع الإسلامي بهذه المعادلة يقظا واعيا ، تسعى به مشاعرُه النظيفة السامية إلى مرابع السعادة ، حيث يتوسع هذا الشعور ليشمل جوانب الحياة كلها .
في بداية الدعوة الإسلامية ، ومع إسلام نفر قليل من الناس ظهرت آثار الصدمة على أهل الجاهلية الذين يمثلون الشرك والظلم والاستهتار ، فعملوا على ترجمتها إلى أنواع من الأذى لرسول الله r ولأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين . وهنا جاء السعيُ باستثمار طاقات المؤمنين ، من خلال حُسْن الصِّلةِ بالله ، وحسن الفهم عن رسول الله r فجاء التأييد من الله ، وظهرت معالمُ الفتح مشرقة في ظلمات الجاهلية الأولى ، وقد علم كلُّ مؤمنٍ ماله وما عليه فضحَّى ونال ماوعده الله ، حين سعى وأدلج وهو خفيف الظَّهْرِ ، قوي العزيمة ، فلم يبال بالأذى ، ولم يخش سطوة القوى الظالمة الباغية ، رغم عنفوانها وكبريائها ، وقد علم بأنه صاحبُ الدعوة الخالدة ، دعوة التوحيد والرحمة لسائر بني آدم ، آدم عليه السلام ، وهو اليوم يسعى لإتمام بناء الحياة الفاضلة على منهج رسول الله r الذي قال : ( إنَّ مثَلي ومثلَ الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية . فجعل الناس يطوفون فيه ويعجبون له ، ويقولون : هلاَّ وُضعت هذه اللبنة ؟! فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيِّين ) متفق عليه . فصلى الله وسلم عليه ، وجزاه عن الأمة خير الجزاء ، وفداه أرواحنا وما نملك r . لقد صبر المسلمون في مكة ، وصبروا في المدينة ، وازدادوا صبرا يوم انطلقوا إلى أرجاء الدنيا يعمرونها بالإسلام رغم الطغاة من علوج العرب والعجم . وكتب الله لهم النصر كثمرة من ثمرات ذلك السعي الكريم .
وسوم: العدد 838