عندما سجن الدكاترة زكى مبارك

أبو الحسن الجمّال

  clip_image001_e0670.jpg

    شارك الدكاترة زكى مبارك في ثورة 1919، كان خطيباً مفوهاً فى المساجد، يحث الشعب على النزول والمشاركة، مبيناً لهم نير الاحتلال البريطاني، الذي وعد الأمة وعوداً عديدة ثم نكث على عهديه وآخرها حينما وعد الدول العربية بالاستقلال مقابل دعم هذه الدول له فى الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية وحلفائها ثم صحونا على المآسى والخطوب، فما أن وضعت الحرب أوزارها حتى صدم الجميع بوعد "بلفور" الأثيم 1917، والذي يضمن لليهود إقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، ثم صدمنا أيضاً بتقسيم الأمة العربية في معاهدة "سايكس بيكو"..

 

    طلب سعد زغلول السفر إلى مؤتمر الصلح في باريس لعرض مطالب الأمة فرفض طلبه واعتقاله ونفيه ورفقائه إلى جزيرة مالطة، فهب الشعب المصرى بقيادة الزعيم عبدالرحمن فهمي بالثورة ضد المنحتل الغاشم فى كل مكان فى القاهرة، والإسكندرية، والأقاليم المصرية في الشمال والجنوب، ولقد سطر الشعب الأبي حكاية أبهرت العالم وتوحدت قوى الشعب فى هذه الثورة، وشارك فيها الطلبة والمرأة.. وتم التعامل بشدة مع هذه المظاهرات بواسطة القوات البريطانية يشاركها البوليس المصري الذى كان ملكياً أكثر من الملك نفسه، وهناك نماذج سيئة من عناصر البوليس كان المستعمر يستعين بهم لأنه كان يبتعد عن التورط فى جرائم حرب فستأجر عناصر خبيثة للقيام بهمامه بالنيابة عنه وليس حادثة دنشواى عنا ببعيد.. فلقد استعان بوزير الحقانية بطرس باشا غالى الذى أصدر الأحكام الجائرة التي اهتز لها الرأى في مصر وأوربا ..بل استنكرها الأحرار في بريطانيا من أمثال الكاتب الكبير "جورج برنارد شو" .. ومن الذين تعاملوا بقسوة تجاه هذه الثورة: اللواء سليم زكى باشا، والبكباشى شاهين الذى كان يجر الطلاب فى الخيول في مدينة المنيا حتى تتهشم رؤوسهم ويقضوا نحبهم.

  سرد الدكاترة زكى مبارك ذكريات اعتقاله أثناء ثورة 1919، ومطادرة الانجليز له، فأراد أن يختفى عن أعينهم، فلم يذهب إلى سكنه في ذلك الوقت فى الغورية، ففكر في المكوث في الجامع الأزهر الشريف، فقال: "لم تكن لى رغبة في الاعتقال، مع أنه فرصة للراحة من متاعب الحياة التى كنت أقاسيها أيام الثورة (يقصد ثورة 1919) فقد عشت مشردا مدة تزيد على شهرين، لأنه كان من الخطر أن أبيت في منزلى وهو فى ذلك الوقت شقة صغيرة في شارع الغورية، ومن أدب الانجليز احترام المعابد، وإذن فلا خوف من الإقامة في الأزهر الشريف بالليل، ولكنها إقامة متعبة، فقد كان يتفق أن أقضى بعض الليل بدون عشاء"..   

    ويواصل الدكاترة زكى مبارك سرد ذكرياته عن الاعتقال: "في إحدى الليالى مضيت إلى المنزل، وأوقدت مصباحا فاستهوتنى القراءة وأنا أجهل ما سيقع فقد طرق الباب طارق يقول: أفتح يا أستاذ، فقلت من الطارق؟ هو مأمور قسم الدرب الأحمر ومعه خمسة عشر جندياً، ذلك المأمور هو المرحوم الشيخ محمد فرج وكان هواه مع الثورة، فعلم يعتقل أحداً من الثائرين إلا وهو راغم، فقد كانت أمور الحكومة إلى السلطة العسكرية .

قلت: أنا أفهم ما تريده يا حضرة المأمور، ولكنى أرجوا أن تمهلنى لحظات، ثم أهويت على الكتب فاخترت ما احتاج إلى مراجعته من الأدب العربى والأدب الفرنسى، وربطت تلك الكتب فى بطانية وخرجت محروساً بعناية الله المصورة فى المأمور والجنود"..

 أرايت معاملة البوليس فى هذا التوقيت، دخل البيوت من أبوابها لم يستيعنوا بسلم كهرباء للدخول من الشرفات، ولم يفاجؤه وهو نائم فى سريره، ولم يحطموا محتويات المنزل أو ينهبوا منها شيئاً بالرغم من أنه سجين سياسى خطير يستباح معه كل شيء، ولم يكهربوه بالصواعق الكهربائية أمام ذويه إمعانا فى إذلاله...وهو ما يحدث اليوم بعد أن رحل الاستعمار البريطانى عنا بست عقود...

 

     ويواصل زكي مبارك سرد ذكرياته في المعتقل قائلا: "ودخلت المحافظة وعلى باب المحافظة وجدت قسيساً يقول: أنا الشيخ زكى مبارك فاعتقلونى واتركوه .. ولكن هذا لا ينفع بشيء.. فعمامة القسيس سوداء وعمامتى بيضاء ..دخلت المحافظة أولاً فقد كان هذا واجباً "إدارياً" ثم مضت العربة إلى قصر النيل، وهناك قال الجندي الذي يصحبني: في أمان الله يا أستاذ ..ثم أصعدونى إلى غرفة في المعسكر تشرف على النهر المبارك، فنظمت كتبى وأخذت أقرأ ما اختاره من الأدب الفرنسى، وجاء الليل فآويت إلى مضجعى وصحوت مع الفجر فتوضأت وصليت، ثم نظرت فرأيت منظر في غاية من الجمال، رأيت أسرابا من الحمام ترفرف على النهر مع الشروق ، ورأيت صور النخلات القائمة بالشاطىء الأيسر تتموج مع الأمواج ..إنه منظر رائع ...لا أنساه ما حييت ..كنت وحدي فى الغرفة ..ولكن زائراً يجيء بعد أسبوع، وذلك الزائر هو حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبداللطيف دراز مدير الأزهر لهذا العهد .. كنا صديقين فأصبحنا غريمين ..أنا أصحو بعد منتصف الليل فأوقد المصباح وأقرأ بصوت مرتفع كما أوصانى من علمونى اللغة الفرنسية، فينزعج الشيخ دراز، ويقول: الله ينكد عليك ..ثم يتدثر ويسلم أجفانه إلى النوم العميق ...

 وحين يصحو يعاتبنى فأقول إن أيام الاعتقال فرصة ندرس ما يمكن درسه من علوم فيضحك ويقول : الله يفتح عليك .

 ثم تكون الفجيعة التالية : خطاب من رئيس المعسكر يقول فيه إننا منقولون إلى جهة مجهولة، فإن كانت لنا وصية إلى أهالينا فلنكتبها بصورة واضحة لتبلغلها إليهم السلطة العسكرية ..وهنا ينخرط الشيخ دراز في البكاء فأصرخ في وجهه، وأقول : ما الذى يبكيك يا أستاذ؟ ... فيكون جوابه :نحن ذاهبون إلى مالطة.

فأضحك وأقول، وهل نؤذن هناك؟

في ظلام الليل نقلنا القطار إلى الجهة المجهولة ، وهى صحراء سيدى بشر بالإسكندرية فحمدنا الله على قرب مكان الاعتقال.

الشيخ مصطفى القاياتى سمح له طبيب المعتقل بالخروج نهائياً ، لأنه كان في هزال ضعيف ، والشيخ دراز سمح له الطبيب بالخروج نهائيا لأنه كان مصابا بالزائدة الدودية وليس فى المعتقل مكان للعمليات الجراجية .

خرج المعتقلون جميعاً وبقيت وحدى ، فقد كانت وزارة الداخلية أرسلت مفتشاً اسمه محمد فتحى، ومعه وعد بنجاتنا إذا كتبنا إقراراً بعدم الاشتغال بالوطنية فرفضت، وبعد أيام خرجت وأنا لا أصدق أنى خرجت" .

 هذه هى مقتطفات من ذكريات الدكاترة زكى مبارك أمير البيان وقد ذكرناه اليوم لنفضح فيها بعض المصريين حينما يحكمون يكونون أشد وطأة من المستعمر نفسه..كان الاعتقال نزهة خلوية، وكان مكان اعتقاله فى ثكنات قصر النيل الموجود مكانها اليوم فندق رمسيس هيلتون بالقرب من ميدان عبدالمنعم رياض ..كان يسمح له بالقراءة والبحث والتريض ومرافقة أقرانه من المثقفين والأدباء وكبار الشيوخ الذين لم يفتوا للمستعمر بأن معارضيهم من الخوارج يستحقون القتل كما يفعل اليوم مفتو العسكر ..كان طبيب المعتقل إنساناً وليس جزاراً من ضعاف النفوس الذى يفعل ما يؤمر منه ... كلمته سيف فأمر الشيخ مصطفى القلياتى من المعتقل لسوء حالته، ولم يذكر ان أحدا أهانه أو عذبه أو وضعه فى سجون المغول .

وسوم: العدد 738