الهجرة النبوية: المقدمات والنتائج..
كانت للهجرة النبوية العديد من المقدمات، غير أن الذين يدرسونها يعولون فقط على جانب النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان ترتيبه لها استباقًا وليس أمرًا اختياريًا منه صلى الله عليه وسلم، ولا يعولون على جانب الخصم للدعوة الإسلامية في مهدها وهم كفار مكة، ولا للأساليب التي مارسوها لكي تكون دوافع لفعل أيًا ما كان هو هذا الفعل، والأقرب لتصورهم هو عودة الرسول صلى الله عليه وسلم عن دعوته وفض الناس من حوله من الذين آمنوا معه، وبالطبع لم تكن فكرة الهجرة ماثلة في أذهانهم، وانصب ذكر ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من جانب من يؤرخون للسيرة النبوية المطهرة في تبيين مدى ما قاساه وعاناه الرسول صلى الله عليه وسلم من صنوف التعذيب في سبيل نشر الدعوة الإسلامية فقط.
كانت مقدمات معسكر المشركين تتمثل في تقديم حزمة من الإغراءات التي تمثلت في جمع المال للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون أكثر سادة قريش مالاً، أو تنصيبه سيدًا أو ملكًا عليهم، أو علاجه بالطب إن كان قد أصابه مس من الجن، فلمَّا لم يستجب الرسول صلى الله عليه وسلم لمغرياتهم.
لجأوا إلى أسلوب التعجيز والمطالب التى يحاولون فى نهايتها إن لم يستجب لهم أن يشنعوا عليه بالإدعاء الرخيص بأنه لا يملك مقومات النبوة ولا براهينها، وبذلك يصرفون عنه من آمن به أو من سيؤمنون به، وقد سبقت تلك المحاولة الفاشلة محاولة أخرى من سلسلة محاولات الإغراءات والعذاب التي لقيها الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل محاولة أشراف قريش في الضغط علي عمه أبي طالب بعد ما استيئسوا من إثناء بــن أخيه عما هو ماضٍ فيه، وقالوا له: (يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنــــا وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك علي مثل ما نحــــن عليه من خلافه فنكفيكه).
ولن ينسى لهم التاريخ محاولتهم اللا إنسانية في استبدال الرسول صلى الله عليه وسلم بعمارة بن الوليد بن المغيرة الذي أعدوه ليكون ولدًا لأبي طالب باعتباره أشد وأقوي وأجمل فتىً في قريش، وذلك شريطة أن يسلم عمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلونه.
هذا غير محاولة أبى جهل قتله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يصلي، ثم زادت قريش من سعير الحرب على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
لقد أحسوا أن مهمتهم في وأد الدعوة إلى الإسلام تزداد صعوبة خاصة وأنهم جربوا كافة الأساليب التى تقضى عليها وعليه صلى الله عليه وسلم من سخرية وتحقير واستهزاء وتكذيب وتضحيك بُغية التهوين منه وصد الناس عنه لإبعادهم عنه وعن دعوته، ثم طوروا الأداء فأطلقوا الشبهات حوله صلى الله عليه وسلم حيث رموه بالكذب حينًا، وباتصاله بالجن والشياطين حينًا هذا غير إدعائهم عليه صلى الله عليه وسلم بالكهانة والسحر والجنون والشعر أحياناً أخرى، ثم أغروا سفهاءهم فكذبوه وآذوه، وغمز أشراف قريش له أكثر من مرة بالقول وهو يطوف صلى الله عليه وسلم، وأنقذه ذات مرة أبو بكر الصديق عندما قاموا عليه قومة رجل واحد.
اختلفت المقدمات عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن همه معاداة قريش بل هدايتهم، ومسالمتهم، غير أنه كان يعلم مدى إصرارهم وبأسهم وعنادهم وتشبثهم بالكفر، فعرض الإسلام على القبائل في السنة الرابعة من البعثة، ثم استأنفه في العام العاشر من البعثة أثناء موسم الحج غير أنه كان يطلب إلى جانب الإيمان بالله الواحد المؤازرة والنصرة والمنعة من القبائل التي ستدخل في الإسلام، وكان ما كان من إسلام ستة من أهل يثرب ثم أحداث العقبتين الأولى والثانية، وسفارة الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة لتعليم أهلها شرائع الإسلام ونجاحه في مهمته، وهجرة المسلمين من أهل مكة بعد تمام بيعة العقبة الثانية، ولم تفلح محاولات قريش في ردهم دون الخروج.
أحس معسكر المشركين بالخطر الجسيم في قيام كيان إسلامي يعترض طريق تجارتهم، فاجتمعوا في دار الندوة واستقر أمرهم على أن قتل نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم هو الضمانة الوحيدة لانتهاء هذا الأمر برمته، فأبلغ جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دار.
من هنا وجب العلم أن الهجرة كانت قرارًا لا فرارًا، وكانت اضطرارًا لا اختيارًا، وكانت أمرًا إلهيًا واجب النفاذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بيَّن الأمين جبريل للرسول عليهما السلام كيف تدار الأمور للخروج الآمن من قبضة قريش الآثمة.
كانت هذه المقدمات من كلا الجانبين والتي كان لابد أن تنتهي إلى الهجرة التي كان من نتائجها: إقامة الدولة الإسلامية الوليدة بالمدينة المنورة، إقرار التعايش السلمي داخل أطر المواطنة طبقًا لصدور صحيفة أو وثيقة المدينة التي مازال العالم يشيد ببنودها التي فاقت الخمسين بندًا، كشفت نفسيات اليهود الموتورة الحاقدة على العرب وعلى المسلمين خاصة، وأنهم قوم بهت ينقضون العهود والمواثيق، فكان لابد من إجلائهم عن المدينة التي تسللوا إليها ولم يكونوا من أهلها، الإعداد لفتح مكة ودخولها بعد ثماني سنوات دخول الفاتحين من أهل المرحمة دون عقد محاكمات، أو انتقام، أو إقصاء، أو سلب أو نهب، انتشار الإسلام في الجزيرة العربية وما حولها من اليمن والبحرين وغيرهم، نفي كافة مظاهر الشرك والكفر التي كانت تدنس الجزيرة العربية.
لقد كانت الهجرة النبوية أمرًا إلهيًا، وسنة من سنن الأنبياء السابقين على الرسول صلى الله عليه وسلم ينجون بأنفسهم ومن معهم حفاظًا على تبليغ دعوة الله إلى الناس، كما كانت عملًا استراتيجيًا يعلم الأمة الإسلامية كيف يكون الإعداد، والتخطيط، ونبذ التواكل بتمام التوكل على الله تعالى، ونبذ العشوائية، والأخذ بالأسباب، وبالأحوط، كما أنها تعطي للمسلم الحق في النجاة بدينه وأهله وماله إذا وجد العنت والمشقة في الأرض التي يقيم فيها، ومازالت أحداث السيرة النبوية العطرة عامرة بكل جديد ومفيد لمن قرأها بقلب وعقل ويقين.
وسوم: العدد 739