الحقوق البيئية في الإسلام

مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات

 هناك ترابط وثيق بين حقوق الإنسان وبين وجود بيئة صالحة لتطبيق تلك الحقوق، بل تبقى حقوق الإنسان شعارا دون واقع؛ ما لم تُهيئ لها بيئة ملائمة، تساعد على تحقيقها واستمراريتها، وكلما تقلصت البيئة الملائمة أنخفض مستوى تطبيق حقوق الإنسان، والعكس صحيح تماما.

 يقول المختصون في مجال حقوق الإنسان إن "التمتع ببيئة آمنة ونظيفة وصحية ومستدامة جزء لا يتجزأ من التمتع الكامل بمجموعة كبيرة من حقوق الإنسان، من بينها الحقوق في الحياة والصحة والغذاء والحصول على المياه وخدمات الصرف الصحي. ومن دون بيئة صحية، لا نستطيع أن نحقق تطلعاتنا أو حتى أن نعيش في مستوى متناسب مع المعايير الدنيا لكرامة الإنسان. ولهذا يمكن القول إن البيئة والحفاظ عليها هي من صميم حقوق كل إنسان؛ إذ إنها تؤثر على صحته ومعيشته هو وأسرته والمجتمع الذي يعيش فيه، وحقه في هواء نظيف أو مياه نظيفة".

 وكما أن هناك قناعة أن انتهاك حقوق الإنسان في بلد ما لم يعد أمرا قاصرا على حكومة وشعب هذا البلد، ولكن ذلك يتعدى إلى المجتمع الدولي بأسره، فان ذات الشيء أصبح ينطبق أيضا على موضوع البيئة، فلا تستطيع أي دولة أن تحتج أن تلويث البيئة داخل حدودها هو شأن من شؤونها الداخلية ليس لأي دولة أخرى أو حتى للمجتمع الدولي علاقة به. وقد أشار تقرير الأمم المتحدة إلى ما يشبه هذا، حيث أعتبر أن كل الدول بلا استثناء مسؤولة بدرجة ما عن ظاهرة الاحتباس الحراري الذي سيقود العالم إلى كارثة بيئة خطيرة.

 وفي الأعوام الأخيرة، تزايد بدرجة كبيرة الاعتراف بالصلات بين حقوق الإنسان والبيئة. وحدث نمو سريع في عدد ونطاق القوانين الدولية والمحلية والقرارات القضائية والدراسات الأكاديمية الخاصة بالعلاقة بين حقوق الإنسان والبيئة. وتدرج دول عديدة الآن في دساتيرها حقاً في بيئة صحية. بيد أن أسئلة كثيرة بخصوص العلاقة بين حقوق الإنسان والبيئة ما زالت بلا حل وتتطلب مزيداً من البحث. ونتيجة لذلك، قرر مجلس حقوق الإنسان، في آذار/مارس 2012، إنشاء ولاية بشأن حقوق الإنسان والبيئة، ستضطلع بدراسة الالتزامات المتعلقة في مجال حقوق الإنسان بالتمتع ببيئة آمنة ونظيفة وصحية ومستدامة، وتعزيز أفضل الممارسات المتعلقة باستخدام حقوق الإنسان في رسم السياسات البيئية.

 ما هي البيئة التي ينبغي أن يحافظ عليها الإنسان؟ وما هي التصرفات التي تتسبب في تلوث البيئة من حولنا؟ وكيف لنا أن نتصرف على نحو نتعايش مع بيئة نظيفة وصحية ومستدامة؟ وما هي المبادئ والقيم التي تحكم علاقة الإنسان بالبيئة من نظر الدين الإسلامي؟

 البيئة في اللغة مشتقة من الفعل (بوأ) و (تبوأ) أي نزل وأقام. والتبوء: التمكن والاستقرار. والبيئة: المنزل. والبيئة بمعناها اللغوي الواسع تعني الموضع الذي يرجع إليه الإنسان، فيتخذ فيه منزله ومعيشته. فنقول: البيئة الزراعية، والبيئة الصناعية، والبيئة الصحية، والبيئة الاجتماعية والبيئة الثقافية، والسياسية. ويعني ذلك علاقة النشاطات البشرية المتعلقة بهذه المجالات.

 وفي الاصطلاح: البيئة عبارة عن الإطار الذي يعيش فيه الإنسان، ويحصل منه على مقومات حياته من غذاء وكساء ودواء ومأوى ويمارس فيه علاقاته مع أقرانه من بني البشر. أو هي عبارةٌ عن الوسط المكاني الذي يعيش به الإنسان وما يحيط به من جماداتٍ أو أحياءٍ أو غازاتٍ في الغلاف الجوي، ويؤثر في هذه المكونات ويتأثر بها، ويمكن أن يكون هذا الوسط ضيقاً لا يتجاوز البيت الذي يعيش به الإنسان وقد يتّسع ليشمل منطقة واسعة. وقد عرّف علمُ البيئة بأنه: الوسط أو المجال المكاني الذي يعيش فيه الإنسان، بما يضمّ من ظواهر طبيعية وبشرية يتأثر بها ويؤثر فيها.

 وإذا كانت البيئة تشمل الأرض والماء والهواء والبحار وكل ما يتعامل معه الإنسان بشكل مباشر أو غير فان ملوثات البيئة كثيرة من أهمها التلوث الإشعاعي الذي يُعتبر من أخطر أنواع الملوثات، حيث يدخل إلى جسم الإنسان والكائنات الحية الأخرى دون شعور أو حتى سابق إنذار، ووسائل المواصلات والنقل المختلفة، وتعرُّض الغابات والمناطق المزروعة بالأشجار والنباتات المختلفة إلى حرائق هائلة تمتد لساعات طويلة وربما لأيام لإخمادها، وحدوث الزلازل والبراكين والأعاصير التي تنتج عن التفاف الهواء البارد بهواء ساخن مشكلة إعصاراً قوياً وعواصفَ ورياحاً شديدة تنتقل من منطقة إلى منطقة أخرى بعيدة ناقلة معها الأجواء الملوثة المغبّرة، فضلا عن إنتاج الأسلحة الكيميائية الفتّاكة، والغازات المضيئة، والخانقة، والأنشطة الصناعيّة المختلفة والتي تسهم وبشكل كبير في تلوث الجو، فهي تعتبر ثاني أكبر مسبب للتلوث البيئيّ لكثرة أعدادها، وتعدد أنواعها، والحجم الهائل لكمية الدخان المنبعث منها.

 ربما تختلف رؤية الإسلام للطبيعة والبيئة على وجه التحديد عن رؤية العالم المعاصر وقوانين البيئة، فهي رؤية شاملة تتسع إلى العلاقة بين الخالق والمخلوق وأهداف الخلق، فمن المعلوم لكل مسلم، أن الله تعالى خلق هذا الكون بدقّة عجيبة لا مثيل لها، وبترابط وتناسق وثيق فيما بين مخلوقاته، وجعل لهذه المخلوقات خصائص وصفاتٍ وتراكيب وعددًا حسبما اقتضتْهُ إرادتُه الـمبْنِيَّةُ على الحِكَم البالغة، وخلق سبحانه كلّ شيء في زمان خاصّ، ومكان خاصّ، وترتيب وحالة خاصّة. يقول الله تعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر) ويقول (وخلق كل شيء فقدره تقديرا) أيْ أن كلّ شيء في الدنيا من الماء والأرض والهواء والجبال والحيوانات والنباتات خلقها الباري عزّ وجلّ بقدَر وترابط وتناسق فيما بينها، إذا اختلّ هذا الترابط ولو قليلاً نتج عنه مصائب شتى، وربما أدّى إلى هلاك الطبيعة والإنسانية.

 ومن منظور إسلامي، علاقة الإنسان بالبيئة والكون تبدو من ناحيتين: الأولى: أنه خليفة الله فيه وهو مكلف باستثماره والانتفاع به ومسخّر لخدمته، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وهذا يقابله بالضرورة واجب يقتضي المحافظـة على ما فيه من موارد وخيرات. والثانية: أنه مجال رحب للتدبر والتفكّر والتأمل للوصول إلى معرفة خالقـه ومـدبره وهـذه العلاقة أشارت إليها الآية الكريمة وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

 وقد تحدثت الآيات الكريمة بإفاضة عن موارد الأرض، سواء أكانت موارد زراعية أو حيوانية أو المعدنية، ففي مجال الموارد الزراعية، بيّنت الآيات الكريمة ان إنبات الأرض بالمطر إحياء لها (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وفي مجال الموارد الحيوانية، قال تعالى (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) وفي مجال الموارد المعدنية، قال تعالى (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) وفي مجال الثروة المائية قال تعالى(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)وأن البحر خَلَقه الله سبحانه وسخره للإنسان وأودع فيه من الموارد ما فيه خير الإنسان ومصلحته، وهيأ فيه إمكانات عديدة يستطيع الإنسان أن يستفيد منها في إقامة حياته المستقرة على هذه الأرض (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْر لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا...) وفي مجال الثروة البرية والبر، فقد تحدثت الآيات عن خلق الله البر وتهيئته للإنسان كما في تهيئة صيد البر، وتمكين الإنسان من السير في البر(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ(هذا فضلا عن أهمية الريح أو الهواء أو الغلاف الجوي، قال تعالى (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

 من هذا المنطلق، فقد عني الإسلام بالبيئة والكون عناية كبيرة، وحث على الاهتمام بهما والمحافظـة عليهمـا، وشرع لتحقيق ذلك كماً كبيراً من التشريعات التي تهدف إلى تحقيق التوازن البيئي والاستقرار في هذا الكون الفسيح. وقد اعتبر الإسلام حماية البيئة ورعايتها مسؤولية الجميع، وهي أمانة في أعناق الأمة، تتحمل وزر التقصير في أدائها أمام الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (ولن يكون الإنسان جديرا بحمل أمانة الخلافة إذا أساء استعمال هذه النعم التي تتكون منها عناصر البيئة، أو تصرف فيها على نحو غير مشروع، جريا وراء منفعة خاصة، أو استسلاما لأنانية مقيتة.

 نخلص مما تقدم إلى ما يأتي:

 -إن حماية البيئة واجب كل إنسان، لأن المجتمع الراقي هو الذي يحافظ على بيئته، ويحميها من أي تلوث أو أذى، لأنه جزء منها، ولأنها مقر سكناه وفيها مأواه، ولأنها عنوان هويته، ودليل سلوكه وحضارته، وكما يتأثر الإنسان ببيئته، فإن البيئة تتأثر أيضا بالإنسان.

- إن الشريعة الإسلامية وضعت تصوراً شاملاً للبيئة شمل الإنسان والحيوان والنبات والجماد والماء والهواء، وجعلت الإنسان مكرماً على سائر المخلوقات وسخرتها له، انطلاقاً من قاعدة الاستخلاف.

- نهي القرآن الكريم عن الفساد في الأرض بأي صورة من صور الفساد المعنوي أو المادي، فقال الله تعالي: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) وقال الله تعالي: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين).

- أمر الإسلام بالحفاظ على مختلف أنواع الكائنات الحية، كما حث على ضرورة ممارسة نشاط الزراعة، حتى أثناء قيام الساعة، فالزراعة تجلب الفوائد الجمة للإنسان ولسائر الكائنات الحية؛ ذلك أن النباتات تعتبر من أهمّ العناصر البيئية على سطح الأرض.

وسوم: العدد 743