«إسلام معتدل» مصطلح فضفاض لإعادة تعريف الإسلام

«الإسلام واحد، ولا يوجد شيء اسمه إسلام معتدل أو غير معتدل، مصطلح الإسلام المعتدل نشأ في الغرب، ولا نريد أن يتعلم الناس حقيقة الإسلام من هناك».

ليس ذلك المقطع جزءًا من خطبة ألقاها أحد فرسان المنابر، وليس نصًا مقتطعا من كتابٍ لعالم أو داعية إسلامي، إنما مقولة عبّر بها الرئيس التركي أردوغان عن فهمه للإسلام، خلال اجتماع لمنظمة التعاون الإسلامي في أنقرة، ذلك الفهم الذي غاب عن كثير من زعماء الوطن العربي أو تجاهلوه، فجعلوا يبشرون بإسلام وسطي معتدل.

العبارة على بساطتها تتضمن وصفا جامعا شافيا للإسلام، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو سبيل واحد لا حاجة إلى إعادة تعريفه، فمن السخَف تعريف المُعرّف، ويتضمن ثانيا حقيقة قطعية مفادها أن مصطلح الإسلام المعتدل وافد من الغرب كسائر المصطلحات الأخرى: إسلام ديمقراطي، إسلام مُتحضّر ، إسلام شعبي، إسلام صوفي، إسلام شيعي، إسلام قديم ومعاصر. لقد عمد المستشرقون إلى الترويج لأن الإسلام ليس واحدا، وقالوا إنه يتضمن تعدّدية تختلف بحسب اختلاف العوامل الثقافية وتنوُّع أطياف الشعوب، فوضعوا هذه التقسيمات، التي بنت عليها المراكز البحثية المُعاصِرة، والتي تُعتبر امتدادا لدوائر الاستشراق، وتزيد عليها أنها تُسهم في صناعة القرار وتخدمه، خاصة المراكز الأمريكية مثل: مؤسسة راند، معهد نيكسون، وغيرهما، فترى في بعض تقارير راند التأكيد على إسلام ديمقراطي معتدل، كما تتداول في تقاريرها مصطلح الإسلام الشعبي.

إن من شأن هذه التعددية والتقسيمات المزعومة إقصاء الأمة عن المنهج الأصيل، وقبول تغيير مضمونه وشكله وفقا للنتاج الثقافي للشعوب المتنوعة. كالعادة، تُخترع لنا الألفاظ فنرددها كالببغاوات حتى تصير نهجا، فرأينا نتيجة لذلك مصطلحات تُزاوِج أحيانا بين الشيء ونقيضه، كما هو الحال في مصطلح الإسلام الليبرالي، لكن التعددية المقبولة هي التي تشترك في الأصل، كما هو الحال في المذاهب الفقهية المختلفة، أما التي تختلف في تلك الأصول فإن التوليف بينها ضربٌ من الأوهام.

السمفونية التي يعزفها كثير من حكام العرب هي «إسلام وسطي معتدل»، وبعضهم يطالب بالثورة على النص الإسلامي ومُحاكمة التراث، مثل رئيس النظام المصري، والبعض الآخر ينسف كل الجهود التي بذلت للدفاع عن بلاده ضد تهمة التطرف والإرهاب، فيقول ـ ضمنًا - بأن بلاده لم تكن طيلة العقود السابقة على الإسلام الوسطي، وأنه في طريقه للأخذ بها في هذا الاتجاه، عن ولي العهد السعودي أتحدث. من المؤسف أننا ارتضينا المصطلحات الوافدة التي تضرب الأمة في خاصرتها، ونتداولها ونتعامل معها باعتبارها واقعًا وحقيقة، فرضينا بتداول مصطلح الإرهاب الإسلامي، بسبب بعض الكيانات الإرهابية، مع أن العالم بأسره لم يربط بين الإرهاب وسائر الأديان والملل، فلم يتحدثوا مع الجرائم المنظمة والفردية الدموية عن إرهاب بوذي أو يهودي أو مسيحي أو شيوعي أو هندوسي.

الدين الإسلامي في جوهره وشكله، يتسم بالوسطية والاعتدال، يراها المُنصف بغير عناء، ويشهد بها التاريخ، فَإنْ تمرُق بعض الكيانات عن مفاهيم الوسطية والاعتدال، فلا يعني أن نُحاكم الإسلام وندّعي فيه الخلل، بل الواجب هو التفريق بين الدين وبين من يسيئون إليه، فالمُتعيِّن هو تقويم المارقين وردّهم إلى المنهج، لا محاكمة المنهج ذاته. كان الأحرى بهؤلاء إن أرادوا إسلاما وسطيا، أن يوجِّهوا إلى العودة إلى المنابع، والاستقاء المعرفي والسلوكي من عهد النبوة والقرون المفضلة، لا إطلاق الدعوات لمصطلحات فضفاضة تتسع لكل غرض.

الذين يتحدثون عن إسلام وسطي معتدل، يتجاهلون الحديث عن محددات هذا التوصيف، يتجاهلون التطرق إلى النموذج، فمِن ثَمَّ يكون الإسلام عُرضة لتفسيراتِ العقلية السياسية ومنطق المصلحة. لم يكتف هؤلاء بالجهود المُضنية في محاربة الإرهاب التي طالت غير الإرهابيين وألحقتهم بهم، لكنهم أقرّوا التُّهم الموجهة للإسلام بأنه ينتج التطرف، عن طريق محاولة تقديم نموذج إسلامي يتوافق مع التوجهات الأمريكية والغربية عموما.

أصدرت مؤسسة راند تقريرا في 2002، قالت فيه: «العالم الإسلامي المفضل، مُلزم بالمساهمة في منع أي صدام للحضارات» ثم يستطرد التقرير: «من الحكمة والاتزان تشجيع تلك العناصر المتواجدة في داخل الخلْطة الإسلامية، التي تُظهر أكبر قدر ممكن من التعاطف والانسجام تجاه السلام العالمي والمجتمع الدولي والديمقراطية والحداثة». تقرير آخر للمؤسسة نفسها عام 2007 بعنوان «بناء شبكات مسلمة معتدلة»، يؤكد على ضرورة احتواء المد الإسلامي عن طريق إدارة صراع فكري تقوم به بعض التيارات الموجودة في المجتمعات الإسلامية كالعلمانيين والحداثيين، وما أطلقوا عليه التيار التقليدي المعتدل، الذي يتمثل في الطرق الصوفية والمغرمين بالأضرحة. فالنموذج الإسلامي المرغوب فيه، هو الذي يتوافق مع التوجّهات الأمريكية والغربية بصرف النظر عن ماهيتها. الذين يتحدثون عن إسلام وسطي معتدل، لا يمكن النظر إليهم بمعزل عن السياق الحالي الذي يكشف دخولهم في العباءة الأمريكية، وتسليمهم المطلق لإدارتها التي تقترب من بناء شرق أوسط جديد.

إن أخطر ما في هذا المصطلح أنه يتسع لاحتمالات وتفسيرات متعددة، يتم تطويعها للمصالح السياسية، وتهدد الهوية الثقافية للمجتمعات الإسلامية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 746