هل يدور بالفعل صراع داخل المجتمع المغربي بين مكوناته ؟
إن الذي يقارن الوضع الاجتماعي للمجتمع المغربي اليوم مع وضعه منتصف القرن الماضي يدرك بسهولة ويسر تغييرا كبيرا طرأ على مكوناته الاجتماعية بسبب الأحداث التي عرفها العالم ،والتي لها بطبيعة الحال تأثيرات على بلد يتموقع جغرافيا بين ثلاث قارات ، وهو في ممر بحري استراتيجي بالغ الأهمية . ويحاول المغرب المحافظة على هويته الإسلامية والقومية والوطنية والإفريقية والإنسانية ،وذلك بانخراطه في منظمات وهيئات تضمن له صيانة هويته بأبعادها الخمسة . وتنعكس هذه الهوية على مكونات المجتمع المغربي ، ويوجد بينها احتكاك ،ونوع من الصراع من أجل إثبات الذات.
وعندما نستعرض هذه المكونات الاجتماعية نجد قطبا يضم المكون المتشبث بالهوية الإسلامية تمثله جماعات دينية تتراوح بين التيار الديني الطرقي وله شكلان : شكل يحاول الظهور بأنه قد طلق ظاهريا السياسة طلاق الثلاث ، وانغمس في العبادة والتصوف إلا أن الاعتقاد السائد هو انحيازه الكامل للنظام ، وهذا اشتغال بالسياسة بشكل ما وإن تبرأ هذا التيار من السياسة . أما الشكل الثاني من هذا التيار الديني الطرقي، فيصرح علانية باشتغاله بالسياسة ، ويقوم بدور المعارض للنظام مقابل نده وشريكه في الطرقية المنحاز للنظام .
وإلى جانب التيار الديني الطرقي يوجد التيار الديني السلفي ،وهذا له أشكال تتسمى بأسماء تدل إما على الراديكالية التي تصل حد تبني العنف وإعلان العداء للنظام ولكل مكونات المجتمع أيضا بذريعة مناهضة الضلالات والبدع ، وإما تدل على الاعتدال الذي يتبنى الصلح والتعايش مع النظام ومع مكونات المجتمع الأخرى التي لا تشاركه اعتقاده سواء كان ذلك عن قناعة منه أم كان تقية على . وإلى جانب هذا التيار يوجد تيار ديني حركي ،وهذا له أيضا أشكال، ولكنها تلتقي عند القناعة بضرورة الانخراط في العمل السياسي كباقي مكونات المجتمع لأن هذا الانخراط في اعتقادها هو السبيل إلى صيانة الهوية الإسلامية . وقريب من هذا الشكل يوجد شكل دعوي لا يراهن على السياسة ، وإنما يراهن على التربية الدينية التي تجعل المجتمع يتغير تلقائيا إلى مجتمع متدين حين تصير قاعدته الواسعة هي المكون المتدين وفق منهج الخضوع للتربية الدينية .
ولقد بدأ مع حلول القرن الواحد والعشرين ظهور تيارات دينية وافدة بسبب مؤثرات خارجية تمثلها أقليات صارت تتنامى باطراد كالأقلية الشيعية التي تكونت في أوروبا ،وامتد تأثيرها عبر البوابة الأوروبية إلى المجتمع . وفي السنوات الأخيرة بدأ الحديث عن تيارات دينية أخرى منها ما يسمى بالأقلية المسيحية ، والأقلية الأحمدية . فهذه التيارات تلتقي مع التيارات السابقة في كونها تنتسب للدين مع اختلاف كبير بينها في الاعتقاد .
وإلى جانب هذه المكونات توجد مكونات أخرى لها أشكال مختلفة أيضا منها : الشكل العلماني ، وله صورتان : صورة العلمانية المتنكرة للدين علانية ، وصورة العلمانية التي تعتمد التقية بخصوص إعلان موقفها من الدين نظرا لغلبة طابع التدين على المجتمع ، وهذا الشكل بصورتيه يشتغل بالسياسة ،وينضوي تحت تشكيلات حزبية .
ومن الأشكال الموجودة أيضا شكل عرقي وطائفي وله صورتان أيضا: صورة راديكالية يرى أصحابها بأن عرقهم أولى بهذا الوطن من عرق يعتبرونه دخيلا، وصورة معتدلة لا تجاهر بعرقيتها وطائفيتها، ولا ندري هل ذلك قناعة منها أم أنها تمارس هي الأخرى التقية إلى حين .
ومن الأشكال الموجودة أيضا التنظيمات الحزبية، وهي تتراوح من حيث مواقفها السياسية بين يمين، ووسط، ويسار ، وتكوّن باعتبار هذا التصنيف الثلاثي تكتلات تحكمها المصالح والرغبة في الوصول إلى مراكز صنع القرار . والمنضوون تحت هذه التنظيمات الحزبية لهم انتماءات أخرى أو تعاطف خارج الإطار الحزبي مع الأشكال التي مر الحديث عنها بحيث يصعب فصل ما هو ديني أو علماني أو عرقي وطائفي عما هو حزبي .
وهناك مكون يمثل أغلبية أو قاعدة عريضة لا تتبنى الدين أو العلمانية أو العرقية أوالطائفية أو الحزبية ، وهذا المكون يمارس التدين بشكل تقليدي وبطريقة مخالفة لتدين الجماعات الدينية التي مر الحديث عنها ، وإن كانت شرائح منه تتعاطف مع تدين الجماعات دون الانخراط فيها ، وقد يتوجس شرائح أخرى منها ، وهو موقف يتكرر كذلك مع العلمانية والطائفية والعرقية والحزبية.
وبسبب هذا الخليط العجيب يصعب الجزم أو القطع بانتماء هذا المكون ذو القاعدة العريضة إلى المكونات الأخرى ، وكل ما يجمع بينه وبينها وجود شكل من التعاطف أو عدمه ، بل قد توجد قطيعة بينهما ، فيبدو هذا المكون ذو القاعدة العريضة مستقلا بذاته وكيانه ،ولكنه لا يحدث تأثيرا كبير في المجتمع سياسيا وإعلاميا كما هو الشأن بالنسبة لباقي المكونات بالرغم من قاعدته العريضة . ومع أن هذا المكون لا يشارك في الحياة السياسية من خلال مقاطعته للانتخابات، فإنه لا يؤثر في الواقع السياسي بل بالعكس يقدم موقفه خدمة كبرى لتيارات حزبية قد يدعي بعضها أنه يمثل أغلبية لمجرد تقدمه على الفئات الأخرى بنسبة تفوق نسبها .
وتسود قناعة في البلاد بوجود صراع بين مكونات المجتمع ، وهو صراع له وجه عقدي ، وآخر سياسي وثقافي . فالمكونات الدينية على اختلافها تقف على الضفة المقابلة لأشكال من المكونات الأخرى كالعلمانية والعرقية والطائفية . ويدور الصراع بين هذه المكونات تحديدا حول دور الدين في الحياة أو إقصائه. ومقابل إلحاح وتمسك هذا الطرف بضرورة تأطير الدين للحياة إلى حد التطرف عند بعض التيارات الدينية ، نجد المبالغة في التنكر له لدى التيار العلماني والطائفي والعرقي إلى درجة التعاطف مع التهتك والإباحية بكل أشكالها الرضائية والمثلية ، و الردة ...إلى غير ذلك من الأمور الشاذة التي لم تعرف في المجتمع من قبل .
ويبدو الصراع جليا وعلنيا في المجال السياسي والحزبي بين القطب الديني والقطب العلماني بينما يبدو خافتا في المجالات الأخرى . ويعتبر الإعلام هو الأداة الحربية التي يستعملها كل قطب . وتنفخ وسائل التواصل الاجتماعي الواسعة الانتشار بين مختلف مكونات المجتمع في هذا الصراع وتؤججه بشكل غير مسبوق .
والأسئلة التي تفرض نفسها هي : هل سيظل هذا الصراع على هذه الحال لمدة طويلة حتى يصير أمرا مألوفا يميز هذا البلد أم أنه سينتهي بسيطرة أو هيمنة هذا القطب على ذاك ؟ وفي هذه الحال هل يستطيع القطب المهيمن إخضاع الشريحة العريضة التي توجد الآن خارج هذا الصراع ، وإن كان موقف المقاطعة أو التفرج الذي تتبناه هذه الشريحة يخدم هذا القطب أو ذاك دون شعور أو وعي منها ؟ ولا ندري كيف يمكن لكل قطب أن يجمع شتاته ليكون جبهة متراصة ذات تأثير وقادرة على المواجهة . فالقطب المتدين منقسم على نفسه بسبب اختلاف رؤى المنظرين له، وهذا الانقسام يخدم القطب العلماني ، فهل سينجح المنظرون للقطب المتدين في لمّ شتاته تحت راية واحدة أم أن التشتت يعتبر قدره الذي لا مفر منه ، وسيكون سببا في تراجعه أمام المد العلماني ؟
ولا يمكن إغفال تأثير المجتمعات الغربية العلمانية في مكونات المجتمع المغربي الذي تعيش جالية ذات وزن في تلك المجتمعات ،وشريحة منها تحمل الجنسية المزدوجة وهي موزعة الهوى بين وطنها الثاني وبين وطنها الأم . ولا يخلو تأثير تلك الجالية في باقي مكونات المجتمع خصوصا تلك التي تعتقد أن تلك الجاليات محظوظة بسبب وضعية هجرتها إلى المجتمعات الغربية ، بل تسود القناعة لدى بعض المكونات أن الحياة على النمط العلماني الغربي هي أفضل الحياة ، وهي الحياة المنشودة لديها ، وهذا يقوي من نفوذ القطب العلماني الذي يتخذ من العلمانية الغربية نموذجا يحتذى.
ومعلوم أن المجتمعات الغربية تؤثر بشكل كبير في الصراع الدائر بين القطب المتدين والقطب العلماني بل هي متورطة بشكل مباشر في هذا الصراع وترجح كفة هذا الأخير من خلال مواقف تتخذها في مختلف المجالات .
ولا يمكن أن نغفل كذلك تأثير المجتمعات العربية في المجتمع المغربي بسبب القواسم المشترك بينهما . ومعلوم أن الصراع الموجود في المجتمع المغربي بين القطب المتدين والقطب العلماني هو نفسه الموجود في باقي المجتمعات العربية ، وقد أخذ في بعضها شكلا مسلحا وداميا . ويوجد الصراع المسلح والدامي حتى داخل القطب الواحد كما هو الشأن بالنسبة للقطب المتدين في بعض بؤر التوتر.
وأخيرا لا ندري ما الوضع الذي سيسود المجتمع المغربي ، وباقي المجتمعات العربية في ظل صراع نشأ بين القطب المتدين والقطب العلماني ؟
وسوم: العدد 748