مراجعات(8) النخب السورية و حصاد الانقلابات

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

كانت خاتمة الانقلابات الخمسة، التي وقعت مابين عامي1949 و 1954 قد أدت إلى النتائج المختلفة على المستويين؛ الرسمي و الشعبي. وقد أمكن يومئذ حصر هذه النتائج بثلاث:

أولا – النتائج العسكرية:

كان الجيش السوري إلى تاريخ الانقلاب الرابع الذي قام به العقيد أديب الشيشكلي في الثاني من كانون الثاني من سنة1951 محكوما بأوامر قيادته. وقد نصت فاتحة الخدمة" أن يحوز الرئيس على طاعة مرؤوسيه التامة، و أن تنفذ الأوامر بحذافيرها بدون تردد أو تذمر، و السلطة التي تصدرها مسؤولة عنها." و نصّ فاتحة الخدمة هذا؛ كان بمثابة التقليد المتبع في أوساط العسكريين. ولذلك كانت الانقلابات محكومة بالأوامر، و كانت الأوامر هي التي تحرك العسكر، و هي التي تفضي إلى إذاعة البيان رقم واحد من كل انقلاب! إلا أن الانقلاب على الشيشكلي من قبل ماسمي في حينه باسم(تجمع القوى الوطنية) في 25 شباط من سنة 1954م أخرج العسكريين بعامة من دائرة (تنفيذ الأوامر بحذافيرها) وزج بهم – من حيث يدرون ولايدرون – في دائرة (التمرد الضمني) الذي كان يقوده يومئذ حزب البعث العربي الإشتراكي. الذي كان محكوما بنظريته الانقلابية؛ وقد كان مؤدى ذلك أن تكوّن ولأول مرة مجلس أعلى للجيش و القوات المسلحة تحت مسمّى (مجلس القيادة العسكرية) الذي أخذ يتصرف و كأنه الوصي على الدولة السورية؛ أو أنه السلطة العليا في البلاد!! و هذه العقلية جعلت من تجمع القوى الوطنية الذي أسقط الشيشكلي بالقوة الأكثر فاعلية في الجيش العربي السوري، كما جعلت من العسكريين الذين لم يعودوا رهن أمر القيادة التي كان تقليدها أقرب إلى مايسمى بـ (بيت الطاعة) أن يصبحوا رهن أمر الثلاثي:( أكرم الحوراني و ميشيل عفلق و صلاح البيطار). و الثلاثة وقد كانوا من نفّاخي كير الانقلابات كانت قد أهلتهم زلاقة ألسنتهم و براعتهم في لملمة مؤيديهم من أن يتصرفوا و كأنهم القيادة العليا لذلك الجيش الذي أصبح من حيث الواقع رهن إشارتهم. وهذه مسألة كان لها مابعدها على المستوى العسكري؛ سيما في مرحلة مابعد الشيشكلي. وقد أفضت بعد إلى أمرين يعدان غاية في الأهمية:

 الأمر الأول – وهو انضباطي، وقد قضي فيه على ظاهرة (الإنقلابات) وقد أصبح تكتل القوميين بعامة؛ غير قابل للحركة إلا إذا كانت تلك الحركة صادرة عن تجمع القوى الوطنية أو المجلس الأعلى. و بفضل ذلك ضيق على أصحاب النزعات الفردية، ولم يعد بإمكانهم أن يتحركوا دونما اتفاق مسبق.

 الأمر الثاني – وهو أكثر ضررا وقد كان أدى إلى إدخال السياسة من حيث المفهوم إلى الجيش، وبذلك أصبح ضمنا أشبه مايكون بالتجمع الحزبي الذي يجمع أكثر من حزب بين صفوفه، و هذا أمر كان له مابعده على صعيد الجيش و القوات المسلحة بعامة؛ وقد كان الجيش قبلها حرفيا، و ممنوعا عليه التدخل في الشؤون السياسة للبلاد.

ثانيا – النتائج السياسية:

 كانت الانقلابات و ما أثير حولها من شبهات و أكثرها تدخل في خانة ( التآمر و العمالة) قد أدخلت المجتمع السوري في ( عنق زجاجة) بعد (خذلان المقاتلين) الذين كانوا يقاتلون في فلسطين، و بعد (صفقة الأغذية الفاسدة) التي افتضح أمرها إبان حكم الزعيم، و بعد (صفقة خطوط التابلاين) التي تنقل البترول إلى الموانئ التي يسيطر عليها الصهاينة في فلسطين، و بعد (جنوحات الفرد) إبان حكم الشيشكلي. كل ذلك قد جعل الشعب السوري أقلّ ثقة بالجيش. و كذلك أقلّ ثقة بالحكومات الوطنية المتعاقبة، و أهمها التي تعاقبت على السلطة في المرحلة مابين 1946 و 1954م . فأصبح أكثر تنديدا بها و بسياساتها و من ثم تولدت مشاعر غاضبة في الأوساط السياسية بعامة. و هو أمر حكم بـ(غوغائية الشارع) وقد خرجت النخب إلى الميادين الرئيسة في المدن الكبرى، لتعبر عن ذاتها أولا. و لتتحدث عن أيدلوجياتها ثانيا. ليس بلغة الحوار؛ و إنما بالعصي و الجنازير، و في هذه البيئة، برز الزعماء التقليديون، من البعثيين بخاصة، وقد لعب الأستاذان (ميشيل عفلق و صلاح البيطار) يومئذ دورا في تأزيم (النخب المثقفة) بعامة، فشهدت البلاد توترا غير مسبوق، سيما أن ذلك تزامن مع العدوان الثلاثي على مصر سنة1956م، و بماسمي في حينه الحشود التركية على الحدود الشمالية لسورية و ماتبعها من إرسال قوة مصرية إلى سورية، و أخيرا التهديدات الأمريكية الأمر الذي نتج عنه توجه الساسة السوريين إلى الكتلة الشرقية (الاتحاد السوفيتي سابقا)، و اعتماد العقيدة الشرقية بدل العقيدة الغربية في تدريب الجيش و تسليحه.

ثالثا – النتائج الاجتماعية:

 و كانت الأحزاب التي بدأت نشاطاتها بقوة بعد رحيل الفرنسيين قد وسعّت من مهادها الاجتماعي، الذي كانت في حاجة إليه؛ من أجل (نعم – أو – لا) في الدوائر الانتخابية أولا؛ و من أجل النصرة الميدانية في الشارع ثانيا. و من أجل مددها الشعبي الذي تعده بمثابة الضروري من أجل طموحاتها اللامنتهية ثالثا.

 و كانت الأرستقراطية السورية و الممثلة بحزبي الشعب (في حلب) و الوطني (في دمشق) التي بدأت مد نفوذها في مرحلة مابعد الاستقلال قد عقدت أولى تحالفاتها مع الإقطاع و رأس المال، ثم عضدته بما هو أقوى مع المتنفذين من (البيكاوات و الأغوات و شيوخ القبائل) فتوافر لها جراء ذلك الهيمنة الاجتماعية الواسعة، على القطاعات الشعبية العريضة، وقد عنى ذلك في حينه تحالفا بين الإقطاع ورأس المال من ناحية، و بين كبار المتنفذين من ناحية ثانية. وقد كان لذلك أثره السيء على القطاعات الاجتماعية المختلفة و قد تماهت أمامها العلامات الفارقة فلم تعد تميز بين الأسود و الأبيض، فباتت و لسان حالها يقول: مرحبا بالمخلص كائنا من كان! كل ذلك في ظل سيوبة شعبية، و قلق و حيرة في المواقف لدى الأحزاب بعامة يضاف إليها توجهات الجيش و القوات المسلحة و قد شكلت بمجموعها القاسم المشترك لحال السوريين، الذين كانوا يبحثون عن المخلص؛ بفارغ الصبر. وقد صحب ذلك ضعف وفقر على مستوى من الخطورة. فالسلع نادرة و شبه مفقودة، و البطالة شبه عامة، و الناس في الريف و المدينة، مشغولون بلقمة عيشهم، و أكثرهم متذمر و مضطرب، و هو يحتاج إلى المساعدة. و مرافق الحياة، تعيد إلى الأذهان واقع الحياة في العصور الوسطى و ماكانوا عليه يومئذ من ضيق و ضنك، وقد كانوا مؤهلين لتقبل أي تغيير على أمل الانفراج و التخلص مماهم فيه من أزمات قاتلة.

 الخاتمة:

 لقد كان حصاد النتائج؛ العسكرية و السياسية و الاجتماعية حزمة من المسائل الهامة، التي تتطلب كل واحدة منها حلا مستقلا. وهذه المسائل تتلخص بمايلي:

 المسألة الأولى – عسكرية: وهي تتعلق بالجيش و القوات المسلحة، وقد دخلت وحداته بعد الانقلاب على الشيشكلي بدائرة التمرد الضمني. و بسبب من تغلغل الأحزاب في مفاصلها الرئيسة أصبحت تأتمر بأوامر القادة الذين جمعهم يومئذ (تجمع القوى الوطنية) و (مجلس القيادة العسكرية.) و معنى ذلك: أن القرار فيها أصبح بيد العسكريين الذين كانوا أسرى انتماءاتهم.

 المسألة الثانية – سياسية: وقد عنت ضمنا تسرب السياسة إلى عقلية الجنود، وقد كانوا قبل ذلك حرفيين و ممنوعا عليهم التدخل في الشؤون السياسية للبلاد. فأصبحوا بعد، و المقصود (الضباط منهم) أكثر تدخلا في السياسة ودليل ذلك أن الوحدة التي تم الاتفاق عليها كانت بين الضباط و بين القيادة المصرية، و لم تكن سياسية بحال من الأحوال. وتسرب السياسة إلى الجيش، تمكن رجال الأحزاب من أن يمدوا أصابعهم إلى الجيش، كما تمكنوا من أن يكون لهم نفوذهم في الشارع. حيث كانت المظاهرات في سورية شبه يومية، وقد اتخذت شكلا دراميا وقليل منها أدى إلى نتيجة تذكر!!

 المسألة الثالثة – اجتماعية: وقد تمثلت بالضعف العام وببعض الشروخ الاجتماعية، التي انتشرت على ضفتيها مشاعر كل مايقال عنها أنها غاضبة جدا. فعلى إحدى الضفتين كانت طبقة (الأرستقراطيين) الذين عبروا عن ذواتهم بحزبي الشعب و الوطن اللذين لم يحفظ لهما الشعب السوري في شمالي البلاد وفي جنوبيها فضيلة تذكر، وقد كانوا على درجة كبيرة من الاستعلاء على الآخرين، و من الشعور بالتمايز، و الاستئثار بخيرات البلاد، و إهمال الطبقة الدنيا ، مما يذكر بنظام الأقنان الذي كان سائدا في العصر الوسيط. أما تحالفهم مع الإقطاع ورأس المال و مع المشايخ المتحالفين مع رجال العشائر و الفتوّات فقد مثل مدخلهم إلى السيادة الاجتماعية. أما على الضفة الأخرى من تلك الشروخ فقد انتشر أبناء الريف الذين أظلهم الفقر بمظلته، و عضتهم الحاجة، وقد عدموا اليد الخيرة التي تمتد إليهم بالمساعدة و العون، فكانوا ينطوون على مشاعر غاضبة، و على أحقاد استثمرها الطائفيون و عملوا على الإفادة منها، في المراحل اللاحقة.

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

رئيس وحدة الدراسات السورية

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

وسوم: العدد 749