موجز قصة النكبة

تعد قصة إنشاء إسرائيل من أهم القصص التي يجب أن تدرسها الحركات الإسلامية وكافة الساعين إلى التغيير، كما ينبغي أن يتعلمها أبناء المدارس وأبناء جيل الصحوة، ذلك أنها نموذج لنجاح باهر في تأسيس دولة من العدم، ثم إنها ليست أي دولة بل هي الدولة التي ينعقد على وجودها وفنائها مصير العالم، إنها جوهر الصراع الحضاري العالمي، كما يقول د. جمال حمدان في "استراتيجية الاستعمار والتحرير".

تبدأ القصة حين نشر هرتزل كتابه "الدولة اليهودية" (1896م)، وكان في التاسعة والثلاثين من عمره، وقد تمتع بصبر وعزيمة وذكاء يثير الإعجاب وإن كرهنا، واستطاع أن يسوِّق للغرب حلا للمشكلة اليهودية المزمنة بأن يجعلوا منهم قاعدة استعمارية غربية متقدمة في الشرق. في العالم التالي كان هرتزل يحول كتابه إلى برنامج عمل في اجتماع بازل السويسرية (1897م)، ويناقش مسائل السياسة والأموال والكوادر البشرية.

لم يتوقف رغم فشله مع الدولة العثمانية والألمان، ولم يتوقف عمله رغم موته المبكر (1904) وهو في الرابعة والأربعين من عمره، فقد ورثه من لا يقل عنه كفاءة ودأبا وذكاءا: حاييم وايزمان، عالم الكيمياء سابقا، وزعيم الصهيونية الثاني والأهم على الإطلاق.

صرح رئيس الوزراء البريطاني كامبل (1907م) بضرورة إنشاء كيان غريب في منطقة شرق المتوسط وعلى مقربة من قناة السويس يكون مواليا للغرب، في تلك اللحظة التي اقتنع فيها ساسة بريطانيا بمشروع الدولة اليهودية  كان وايزمان في فلسطين يبحث عن أراضٍ يمكن شراؤها، ويؤسس شركة "تطوير أراضي فلسطين".

لم يمض عامان على هذه اللحظة إلا وتأسست بذرة الجيش الصهيوني (1909م) كحرس لحماية المستوطنات اليهودية، بعدها بعامين آخرين (1911م) رفع اليهود مطلب الاعتراف باللغة العبرية لغة رسمية.

وصل الاختراق الصهيوني إلى درجة وزير في الحكومة البريطانية، ذلك هو هربرت صموئيل المؤسس الحقيقي لإسرائيل، وكان من الذكاء والفهم بحيث رفع مذكرة للحكومة (1915م) يقول فيها بأن الوقت غير مناسب لإنشاء وطن يهودي في فلسطين، ولا بد من احتلال بريطاني يمهد الأوضاع ويهيئ الأرض لهذا المشروع!

وبالفعل، انتهت الحرب العالمية الأولى، واحتلت بريطانيا فلسطين (1917م)، ودخل الجيش البريطاني القدس وضمن صفوفه أول ميليشيا يهودية مدربة على يد الإنجليز، وساعتها زار حاييم وايزمان القدس، لا باعتباره مستثمرا كما في أول مرة، بل باعتباره زعيم المشروع الذي يجري تأسيسه.

لم يكن المشروع ليتم لولا غفلة العرب وسذاجة وخيانة حكامهم، فقد أغرى الإنجليز فيصل بن الشريف حسين ليوافق على قيام دولة يهودية في فلسطين، وقد وافق "الثائر" الذي كان يرجو مساعدة بريطانيا في حركة استقلال العرب عن العثمانيين وتنصيب أبيه خليفة (1919م)!

منذ نزلت الحركة الصهونية إلى فلسطين في ظل الاحتلال البريطاني أنشأت نواة جهازها الاستخباري (1919م) ليجمع المعلومات المفصلة ويرسم خريطة واضحة عن: مدى القبول الشعبي بالمشروع الصهيوني، خريطة الأراضي الفارغة، خريطة السكان، الأراضي التي يسهل شراؤها، السكان الذين يُتوقع منهم المقاومة. فصار لها الآن: جهاز أمني، وجهاز عسكري.. وبقي الجهاز السياسي!

حينئذ نصبت بريطانيا الصهيوني هربرت صموئيل حاكما بريطانيا على فلسطين (1920م) لينفذ بنفسه ما كان قد اقترحه قبل خمس سنوات من تهيئة الأرض عبر البريطانيين للإنشاء الدولة اليهودية، وقد فعل هربرت صموئيل ما يجعله مؤسس إسرائيل الحقيقي؛ ذلك أنه بخلاف تدفق الهجرة اليهودية: سَمَحَ لليهود بالتسلح وبناء جيش منفصل، وسمح لهم بنظام تعليمي منفصل، وأقرَّ العبرية كلغة رسمية، واستولى لنفسه على كل الأراضي المشاع وما يؤول إلى الحاكم ثم منحه اليهود بخلاف مائة قانون أصدرها تسهل تسريب الأراضي لليهود.

وبينما هربرت صموئيل يقيم الدولة اليهودية في فلسطين، يعمل حاييم وايزمان على مستوى السياسة، مستعينا بآل روتشيلد على مستوى الاقتصاد والتمويل، وهكذا جرى توزيع الأدوار والتغطي بالقوة البريطانية العظمى في وقتها.

بعد خمس سنوات (1925م) تضاعف عدد اليهود، ومستوطناتهم، وبدأت تظهر مؤسساتهم وأجهزتهم الإدارية المنفصلة: استقلال ذاتي لتل أبيب، نقابة عمال بزعامة بن جوريون، احتفال مهيب بإنشاء الجامعة العبرية حضره: لويد جورج (رئيس الوزراء البريطاني) وألنبي (الحاكم العسكري البريطاني) وبلفور، وتشرشل، وحاييم وايزمان، وهربرت صموئيل.

تجدر الإشارة إلى أن اليهود استعملوا النداء الديني والخطاب التوراتي بشكل أساسي، بما في ذلك العلماني منهم، وقد بُذِلت مجهودات عظيمة في إعادة بعث واستعمال اللغة العبرية الميتة لتكون لغة الدولة الجديدة، وبهذا حافظ اليهود على مدد دائم وألهبوا طاقات كامنة وخاطبوا جماهير اليهود حول العالم بما يستثير إمكاناتهم.

في كل انتفاضة شعبية كان السلاح البريطاني يتحرك بعنف لإخماد كل مقاومة، واستعملت أسلحة القتل والاغتيال والاعتقالات والنفي والمحاكمات، مع ما يساند هذا من عمل استخباري، وما يغطي هذا كله من عمل سياسي يثير الفرقة بين الزعامات الفلسطينية ويرصد تدابيرها لإجهاضها.

عند العام (1935م) كانت مصانع الصهيونية تصدر الألماس والأقطان إلى خارج فلسطين، وهو ذات العام الذي استشار فيه عز الدين القسام القيادات الفلسطينية في إشعال ثورة على الإنجليز فكان ردهم أن الشعب لم يتهيأ بعد والوقت غير مناسب وما يزال الأمل قائما في الوصول إلى الحقوق من خلال المحاورة والمفاوضة مع الإنجليز. إلا أن القسام أشعل ثورة وكان هو من شهدائها، وشهدت فلسطين عام (1936) أطول إضراب في تاريخها إذ استمر لستة أشهر ثم انتهى بعد تدخل "الحكام العرب" بالنصيحة والتوصية بوقف الإضراب مع الوعد بالتفاهم مع الإنجليز.

في ذلك الوقت كان الوجود الصهيوني قد صار مستقلا عمليا عن الإنجليز ويملك قراره المستقل، وكان الجهاز الأمني الإسرائيلي قد تطور ليصير له جهاز تنصت في مكتب الحاج أمين الحسيني، وهو بمثابة القائد السياسي للثورة الفلسطينية، فكانت تحركات المقاومة الفلسطينية مكشوفة للصهاينة، وقوبلت الثورة الفلسطينية المشتعلة بكافة أنواع القمع الإنجليزي، وكانت الطريقة المتبعة هي: قتل القادة الميدانيين، فصل القادة السياسيين عما يجري بالأرض من خلال النفي أو تسهيل الهروب من فلسطين، وتجريد الناس من كل أنواع السلاح، فمن وجد في بيته ولو بقية رصاصة فارغة نسفوا بيته. وألقت بريطانيا بثقلها لإنهاء الثورة التي استمرت لثلاث سنوات فدفعت بعشرين ألفا من قواتها تحت قيادة أربعة جنرالات كبار ممن شاركوا في الحرب العالمية الأولى.

في المقابل كان اليهود يزيدون عددا بالهجرة، وعتادا بالإمداد الإنجليزي، وخبرة بالتدريب العسكري، وبلغوا من الفعالية حدَّ أن أسسوا لمنظمات "إسلامية" و"وطنية" تشاغب على المنظمات الإسلامية الوطنية الحقيقية وتثير الفرقة والأزمة، وكان الجهاز الأمني قد تكونت لديه صورة واضحة عن أفراد المنظمات الإسلامية في فلسطين، من منهم يسهل التعامل معه، ومن الذي يمكن شراؤه بالمال، ومن الذي لا حل إلا بالتخلص منه.

في أثناء الثورة شكلت بريطانيا لجنة لدراسة الوضع، كعادتها في تشكيل اللجان بُغية تبريد المقاومة ومطّ فترة المفاوضة لشراء الوقت وقمع الثائرين، وبالرغم من كل ما صنعه اليهود من هجرة وتواجد إلا أن مساحة ما يملكون من الأرض فعليا لم تزد على خمسة بالمائة، تتركز في شمال فلسطين، لكن اللجنة انتهت إلى اقتراح تقسيم الأرض بين العرب واليهود، ومنحت اليهود ثلث فلسطين الشمالي، ومنحت العرب ثلثي فلسطين الجنوبي، وجعلت المنطقة الواصلة بين القدس وحيفا مستعمرة بريطانية!! فكان ذلك مكسبا جديدا لليهود أخذوه بقوة السياسة البريطانية إلا أنهم –وكعادتهم- لم يتوقفوا عنده.

أسفرت سنوات الثورة الثلاث (1936 – 1939) عن استشهاد خمسة آلاف فلسطيني، وجرح أربعة عشر ألفا، بخلاف من اعتقلوا أو من طُردوا أو من اضطروا للهرب، وبهذا تمت تصفية الجيل الذي يمكنه التصدي للعصابات الصهيونية بعد عشر سنوات. أي أن الواقع العملي هو أن النكبة وقعت بإخماد الثورة الفلسطينية في نهاية الثلاثينيات.

وفي نهاية الثلاثينات وقعت أحداث درامية، فباشتعال الحرب العالمية الثانية انضم خمسة عشر ألف يهودي إلى صفوف الحلفاء، فتحصل لهم من الخبرة والتدريب واستعمال السلاح ومعرفة العلوم العسكرية ما لم يكن متحصلا للفلسطينيين بحال، عندئذ تحولت "الهاجانا" إلى جيش حقيقي، يملك مجموعة من الطائرات. وفي تلك الفترة وبالتوازي مع هذا المجهود العسكري كان المجهود الأمني الاستخباري يعمل على إتماما ملف "القرى" التي يستكمل فيها معلومات واضحة وتفصيلية عن كل قرية فلسطينية من حيث: نوعية الأرض، الحالة الاقتصادية للسكان، الميول السياسية، مدى سهولة أو صعوبة احتلال هذه القرية.

موجز قصة النكبة (2)

بدأت القصة منذ 1896م، وتوقفنا في المقال السابق عند نهاية الحرب العالمية الثانية، حينئذ كانت الصورة في فلسطين بائسة على كل المستويات:

- فعلى المستوى الدولي: انتصر الحلفاء على دول المحور الذين تعلقت بهم الآمال العربية والفلسطينية، مما جعل مشروع الدولة الصهيونية سائرا بلا أي عرقلة سياسية، وقد قرأت الصهيونية الموقف سريعا فنقلت ثقل نشاطها واعتمادها من بريطانيا إلى أمريكا (1942م).

- وعلى المستوى الداخلي كانت الصهيونية ترسخ وجودها على الأرض بمستوى متصاعد، فقد تحولت عصابات الهاجاناه إلى جيش حقيقي بما تحصل لها من خبرة وعلوم عسكرية وأسلحة وعتاد من مشاركتها في الحرب العالمية الثانية إلى جوار بريطانيا، وكان الجهاز الأمني الصهيوني يتمّ خطته التفصيلية عن القرى الفلسطينية فيجمع عن كل قرية: نوعية الأرض والسكان والحالة الاقتصادية والاتجاهات السياسية ومدى سهولة أو صعوبة احتلال القرية، ويستزيد من صناعة العملاء ومراقبة المجتمع الفلسطيني وما بقي من مراكز تأثيره، وقد صارت له مؤسسات "إسلامية وطنية" لتشاغب على المؤسسات الحقيقية وتثير أزمات الفرقة بينها وصرف الناس عنها.

- وأما على المستوى الفلسطيني فقد كانت الحالة سيئة، فلم يزل المجتمع الفلسطيني يعاني من ضرب جيل المقاومة الذي استمرت ثورته بين (1936 – 1939م)، والتي أسفرت عن قتل خمسة آلاف فلسطينية وجرح أربعة عشر ألفا، وما صحب ذلك كله من تجريد السلاح وهدم البيوت، ومقتل القادة، ووجود القيادات السياسية بالخارج منقطعين عن أوضاع الداخل، مع التمزق العربي ووقوع بلدانه تحت الاحتلال.

كررت الصهيوينة الخطة القديمة، وضعت نفسها في خدمة القوة الدولية لتبلغ أهدافها، لكنها نقلت نشاطها من بريطانيا إلى أمريكا مع تغير موازين القوى فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت أمريكا حينئذ ترث الوجود الإنجليزي والفرنسي في الشرق، فكانت الصهيونية هي ذراعها لإخراج الإنجليز من فلسطين، فانقلب الصهاينة على الإنجليز، وطالب مؤتمر الحركة الصهيونية الذي عقد في أطلنطا بأمريكا (1944م) بضرورة خروج الإنجليز من فلسطين وتوفير حماية دولية لليهود، ثم أشعل الصهاينة حرب عصابات ضد الجيش البريطاني نفسه، وقاموا بعدة عمليات تفجير واغتيال وخطف مؤثرة، حتى بلغ القتلى في صفوف البريطانيين 169 بين عامي (1946، 1947)، وعند نهاية سنوات الانتداب كانت العصابات الصهيونية قد نفذت خمسمائة عملية ضد الإنجليز، وكم كان مثيرا مشهد تشرشل –الذي كان أول من درب العصابات اليهودية قديما- وهو يعلن مرارته ويحذر وينذر في الأمم المتحدة، ولكنه التحذير الذي يعرف الجميع أنه أجوف!

وبرغم كل هذا تكاد بريطانيا أن تكون التزمت الصمت ولم ترد بشيء على الصهاينة، فقد صارت الصهيونية في الحماية الأمريكية، كما أن كثيرا من عناصر الشرطة والجيش الإنجليزي في فلسطين هم من اليهود والصهاينة أنفسهم. وذلك في نفس التوقيت الذي كانت تعتقل فيه الفلسطينيين لمجرد حيازة السلاح، حتى بلغ عدد المعتقلين (300) في النصف الأول من عام (1946م).

وعلى الجانب السياسي العالمي كانت الصهيونية تمول حملة الرئيس الأمريكي ترومان والذي كافأهم بعد فوزه بالموافقة على هجرة مائة ألف يهودي إلى فلسطين. كما كانت الصهيونية في أمريكا تجمع من اليهود تمويلا لإنشاء صناعات عسكرية في إسرائيل، وبهذا صارت عصابات الهاجاناه تصنع بعض أسلحتها بنفسها مما قوى مركزها الفعلي حتى ضد البريطانيين الذين اضطروا لإعلان مغادرتهم فلسطين بعد سنتين أي في عام (1948م).

بدأت عملية وراثة فلسطين من الإنجليز، اشترى اليهود من أسلحة الإنجليز بالمال ما لم يأخذوه بغير طريق الدعم، فكانت لديهم 24 طائرة اشتروها بخمسة ملايين جنيه، وعند بداية 1948 كانت الوكالة اليهودية تسيطر فعليا إداريا وعسكريا، ولديها جيش مقاتل يتكون من: عصابات الهاجاناه (35 ألفا) وعشرة آلاف مقاتل من الوحدات الخاصة، وتنظيمات عصابات الإرجون واشتيرن. وعملت هذه العصابات على تنفيذ خطة التهجير للفلسطينيين، فتنوعت عملياتهم بين الهجوم العسكري على القرى وتهجيرها، أو تفجير الأسواق والمحال، أو نصب الكمائن على الطرقات وقتل الفلسطينيين، أو تنفيذ عمليات خاصة قامت بها وحدات المستعربين التي ظهرت في تلك الفترة.

في اجتماع بتاريخ (10 مارس 1948م) لقيادة الهاجاناه، أي قبل نهاية الانتداب البريطاني بشهرين، أتموا الخطة التفصيلية للتعامل مع كل قرية فلسطينية يراد تهجيرها، وكانت الخطة تعتمد على الرعب أكثر من اعتمادها على التفوق العسكري، فلا بد من مذبحة أو ضربة هائلة تسفر عن خروج السكان من هولها قبل أن ينخرطوا في اشتباك أو مقاومة، وإذا وقع بعضهم في الأسر كانوا يقتلون بعضهم قبل نقلهم إلى معتقلات مركزية لتحقيق هدف الرعب وشل محاولة المقاومة، وإذا حوصرت القرية فهي تُحاصر من ثلاث جهات وتُقصف بغزارة ليهرب أهلها من الجهة الرابعة. وكانت خطة التهجير تبدأ من ساحل المتوسط وتمتد شرقا لكي يظل اتصال الدولة اللقيطة بالبحر، فكان أول المهجرين أهالي القرى والمدن الشمالية والغربية من فلسطين، ويقدر عدد المهجرين بثلاثمائة وخمسين ألف فلسطيني!

لقد أبدى الفلسطينيون مقاومة باسلة، لكنها مقاومة متبعثرة ومشتتة، تعاني من الفارق الضخم في القوة والتسلح، وتعاني من ضعف الكوادر الناتج عن سحق جيل الثورة قبل عشر سنوات، وتعاني من التواطأ العالمي لا سيما البريطاني، وتعاني من الخيانة العربية التي يحكم عواصمها عملاء يساعدون في قتلهم وإبادتهم، ولا تزال رسالة عبد القادر الحسيني إلى جامعة الدول العربية تختصر هذا المشهد "إني أحملكم المسؤولية بعد أ، تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح"، واستشهد بعد رسالته بثلاثة أيام (9 إبريل 1948م)، وبينما يشيع الناس جنازته، كانت قرية دير ياسين تتعرض للمذبحة.

عند يوم 14 مايو 1948م، غادر الحاكم البريطاني فلسطين، ونزلها بن جوريون، وأعلن "استقلال" دولة إسرائيل، وخلفه كانت تنتصب صورة كبيرة للمنظر المؤسس: تيودور هرتزل، الذي بذر البذرة ومات بعد ثمان سنوات، ثم تحقق حلمه بعد موته بأربعين سنة!

ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ فلسطين والعرب والمسلمين بل والعالم!

عندئذ سمحت بريطانيا بدخول القوات العربية الهزيلة عددا وسلاحا إلى فلسطين، كانت الجيوش السبعة لا تزيد عن 24 ألفا، وهم أقل من ثلث القوة العسكرية الصهيونية، إضافة إلى فارق التسلح والخبرة والتدريب، دخلت الجيوش العربية بشعار "تحرير فلسطين" ليرتسم بدخولها الجانب الآخر من المهزلة، فبالإضافة إلى هزالها عددا وعدة وخبرة فإنها تخضع لتوجيه أنظمة تخضع للاحتلال، وبقيادة إنجليزية (جلوب باشا قائد الجيش الأردني، ومساعدوه إنجليز)، فإما أنها جيوش لم تحارب، وإما أنها كانت تدخل إلى القرى لتجردها من السلاح ثم تنسحب في المعركة أمام القوة الصهيونية فتغدو القرية بلا سلاح، ثم يأتي الصهاينة فينفذون مذبحة جديدة تثير الرعب والفزع وتنتج موجة جديدة من الهجرة، وقد نفذ الصهاينة مذابح في اللد والرملة في ظل وجود الجيوش العربية ولم يحرك أحد منهم ساكنا، وفوق ذلك فإن سائر ما استطاع أن ينجزه المجاهدون المتطوعون تدخلت الأنظمة العربية نفسها لإيقافه وإنهائه إما بإصدار أوامر انسحاب أو بتعديلات الخطة أو بإيقاف التقدم أو حتى بسجن المجاهدين!

وهكذا سقطت فلسطين! ولم يكن نصيب العملاء في سقوطها بأقل من نصيب الصهاينة أو المحتلين!

لئن كان هرتزل هو صاحب الفكرة والبذرة الأولى، فيجب ألا ينسينا هذا جهود من تلاه، لا سيما هذا الثلاثي الخطير: حاييم وايزمان، هربرت صموئيل، بن جوريون!

لقد عمل هؤلاء الثلاثة على تطويع كافة الظروف الدولية والداخلية لخدمة خلق الدولة الصهيونية، وعملوا في نفس الوقت على ألا تكون إسرائيل مرتبطة ارتباطا كاملا بالمزاج السياسي الغربي، بل أسسوا للاستقلال اليهودي العسكري والاقتصادي والأمني، فتكون قوتهم الذاتية طرفا في معادلة السياسة، وبرغم ما يبثه هؤلاء من تحريض شعبي وديني لليهود فإنهم عملوا على خلق الظروف المواتية للدولة قبل نشوئها أو إعلانها، فلما جاءت لحظة الإعلان كانت إسرائيل أمرا واقعا!

ولئن كان هؤلاء يستحقون أن توضع أسماؤهم في سجل شرف الصهاينة، فيجب ألا ننسى أبدا أن آخرين يستحقون أن توضع أسماؤهم في سجل العار من دفتر العرب!

وسوم: العدد 750