مُعَكِّر صَفْوِ الأُنْس في سيرة سَلْب القُدْس
حذر قادة العرب جميعا من تداعيات قرار ترامب على السلام والاستقرار في المنطقة. في الحقيقة لم يكن تحذيرهم هذا فارغا، إنما كان تحذيرا جادا، فهم يخافون من أن يؤدي القرار إلى هبة شعبية ضدهم تقلقل استقرار عروشهم. وهم يعرفون كما يعرف ترامب ونتنياهو أن عروشهم هي التي تحفظ أمن واستقرار إسرائيل. فهم على الحقيقة يقدمون نصيحة مخلص مشفق بأن تلك القرارات قد تكون من الرعونة بحيث تهدد منظومة الحراسة التي تسهر على حماية إسرائيل.
يعرف ترامب ونتنياهو هذا لكن حسبة الأمور لديهم تفيد أنهم في لحظة يمكنهم معها اتخاذ مثل هذا القرار دون كبير خوف، فما جرى في السنوات الماضية من قمع الثورات وتثبيت الأنظمة الخيانية يجعل الثمرة قريبة وممكنة، كيف لا وقد صار رئيس مصر "البطل القومي لليهود" كما وصفته الصحافة الإسرائيلية، وكيف لا وقد كتب سعودي من بلاد الحرمين "لك العتبى يا نتنياهو حتى ترضى" ضمن طوفان التطبيع المحموم الذي يجتاح أرض الحرمين؟!
هو فصل جديد في مسلسل قديم..
بدأ المسلسل مع نهاية الحروب الصليبية، حيث اكتشف الصليبيون منذ الحملة الخامسة أن احتلال بيت المقدس يبدأ باحتلال القاهرة، فلقد اكتشفوا أن مصر قادرة دائما على إمداد الشام بالمال والرجال، ومنذ اتحدت مصر والشام على يد نور الدين صارت مسألة تحرير بيت المقدس مسألة وقت. وبالفعل: نزلت الحملة الصليبية الخامسة إلى مصر فهُزِمت، ودخلت الحملة السادسة إلى القدس باتفاقية خيانية مع سلطان مصر الكامل الأيوبي (تشبه كامب ديفيد وأوسلو الآن) وتكسرت الحملة السابعة في مصر أيضا. ثم انطلقت من مصر جيوش المماليك حتى طهرت الساحل الشامي من كل الوجود الصليبي، ثم طاردت فلول الصليبيين في قبرص ورودس.
عندئذ كلفت الكنيسة المؤرخ الإيطالي مارينو ساوندو تورسيللو ليؤرخ للحملات الصليبية، فكتب في نهاية تأخيره وصية لمن سيحاول غزو الشرق مرة أخرى خلاصتها: أن يبدأ بمصر أولا، وهي النصيحة التي استمعت لها أوروبا فكانت موجتها الثانية من الحملات الصليبية تبدأ بمصر ثم تتوغل إلى بيت المقدس، هكذا فعل نابليون في الحملة الفرنسية، وهكذا فعل الإنجليز من بعده[1].. وبعد خمس وثلاثين سنة من احتلال القاهرة دخل الإنجليز إلى بيت المقدس، ثم بعد ثلاثين عاما أخرى سلموها إلى إسرائيل.
فهم التاريخ هو مفتاح فهمنا للحاضر وطريق بحثنا عن الحل في المستقبل، والتاريخ يقول بأن احتلال بيت المقدس لم ينجح إلا باحتلال العواصم المحيطة به أولا، كما أن تحريره لم يكن إلا بتحرير العواصم المحيطة به كذلك، لقد فتح المسلمون دمشق قبل فتح بيت المقدس، ولولا الخيانة العبيدية (الفاطمية) في القاهرة ما أمكن للصليبيين احتلال بيت المقدس، ثم لولا تحرير دمشق ثم القاهرة وتحريرهما من أمراء الخيانة ما تم لصلاح الدين تحرير بيت المقدس، ولم يُحرر الساحل الشامي إلا لما كانت القاهرة مستقلة متحررة تحت حكم المماليك العظام، ثم لم تسقط القدس مرة أخرى إلا بعد احتلال القاهرة ودمشق وانهيار الدولة العثمانية.
ولقد كانت فطرة الشعوب أنقى من عقول النخبة والمثقفين، ففي ميادين الثورات العربية ارتفعت أعلام فلسطين، وبات الجميع يدرك أن نجاح الثورات يساوي قرب تحرر بيت المقدس، وهي تلك اللحظات التي فزع فيها الإسرائيليون لسقوط كنزهم الاستراتيجي، وما إن اهتز كرسي بشار حتى صاح رامي مخلوف بأن سقوط النظام في سوريا يمثل تهديدا لأمن إسرائيل. جميع أولئك الحكام يعرف أن مهمته حماية إسرائيل، وهو عند الخطر يساوم بها ويهتف في توسل وتهديد: لن تجدوا أفضل مني في القيام بالمهمة.
من هنا ترى حكام العرب يحذرون من تداعيات قرار ترامب، ولأنهم في وجه المدفع فهم أكثر فزعا ورعبا، بينما السيد الكبير في البيت الأبيض يختبر بهذه القرارات مدى نفعهم وفائدة الاستثمار فيهم..
تروي جولدا مائير في مذكراتها أن مبعوثا خاصا بين الإسرائيليين وبين عبد الناصر عرض على عبد الناصر زيارة إسرائيل، فقال عبارته الكاشفة والتي تعبر عن حقيقة مواقف الحكام العرب المصنوعين على أعين الاستعمار: "لو أن بن جوريون جاء إلى القاهرة للتحدث معي فسوف يعود بطلا، أما إذا ذهبت إليه أنا فسوف أُقْتَل عند عودتي". ثم استمرت جولدا مائير في رواية اللقاءات السرية مع الملك عبد الله ملك الأردن الحليف الوثيق الذي تعهد لهم بشرف مثلث أن يكون نصيرا لهم، لا سيما وأن لديهم عدوا مشتركا هو "أمين الحسيني"[2]!!
لن تهتز ثقتي بالأمة قيد شعرة لو أن إعلان ترامب هذا لم يفجر المظاهرات في الشوارع أو الانتفاضة في فلسطين، فلقد عرفت الأمة طريقها الوحيد والصحيح لتحرير القدس، وهو طريق نجاح الثورات وإسقاط الأنظمة الحارسة لإسرائيل، فتلك هي المعركة الحقيقية الصعبة الشرسة لا ذلك المسلسل الذي كانوا يسمحون لنا فيه بشبه مظاهرات تنفيسية تهتف وتصرخ ثم تعود بعد استهلاك طاقتها، ولا تلك الأغاني والمقالات الصحفية التي يكتبها ويغنيها ويلحنها أعداء حرية الشعوب ومن كانوا دائما في صف الطغيان ضد التحرر.
إن القدس لمن عشقها حقا، وبذل في سبيلها ما استطاع.. وأولئك الذين أسسوا إسرائيل مهما أبغضناهم فلا نملك إلا أن ننصفهم فنقول بأنهم بذلوا مجهودا هائلا وتخطوا عراقيل عظيمة في سبيل الوصول إلى القدس. وإني لأتخيل هرتزل ونوردو، ووايزمان، يحلمون بإنشاء دولة لليهود في فلسطين.. يعزمون على التخطيط لأمر يغير الخرائط والواقع والسياسة والاقتصاد.. تصطدم فيه دول وامبراطوريات وتهلك فيه أطنان الأموال وتُسفك دونه بحور الدماء، تُزاح فيه عشرات الألوف أو مئات الألوف من قراها وأرضها، لتنقل إليها مئات الألوف والملايين من سائر أنحاء العالم، يُنتزعون من أموالهم وديارهم ووظائفهم ومجتمعاتهم، مسألة تهلك فيها العقول في دوائر السلطة لإقناع هذا وتحفيز هذا وتسكين هذا وخداع هذا ورشوة هذا واختراق هذا واغتيال هذا وتخدير هذا... إلخ! ومع ذلك.. فعلوها، ونجحوا.. مهما كره المرء شرهم ودمويتهم فلا يملك إلا الإعجاب الكبير بهذا العزم الحديد، والتخطيط الشديد، والأمل البعيد..
وأي مقارنة بين هؤلاء وبين من يحكموننا الآن، بل حتى بين من تصدروا لقيادتنا تجعل البصر يرتد خاسئا وهو حسير، فقر في الخيال وفقر في الهمة وفقر في الجسارة وفقر في تعلم الدروس، ظلمات بعضها فوق بعض!
متى صارت القدس عاصمة إسرائيل على الحقيقة؟!
ربما سيندهش الكثيرون حين يسمعون الإجابة! لكنها إجابة كاشفة تفضح فارق التعلق بالقدس، وفارق الجسارة والمبادرة..
تروي جولدا مائير في مذكراتها أن بن جوريون لم ينتظر حتى يعطيه أحد إذنا أو شرعية بأن تكون القدس هي العاصمة، فمنذ نهاية 1949 أصدر قرارا بنقل مكاتب الحكومة من تل أبيب إلى القدس، وفي القدس أدى وايزمان القسم عند توليه رئاسة الدولة، وهذا بالرغم من توصية اللجان الخاصة والأممية بعدم ضم القدس إلى أي من الدولتين. ولم يأبه بن جوريون بقرار الأمم المتحدة بتدويل القدس (ديسمبر 1949م)، بل أصر على قراره رغم أن أصواتا داخل إسرائيل حذرت من مغبة هذا العمل الذي قد يفقد إسرائيل غطاء الشرعية الدولية، وانتقلت سائر الحكومة إلى القدس ما عدا وزارة الخارجية التي اضطرت للبقاء في تل أبيب حيث تقيم البعثات الدبلوماسية الأجنبية.
وهكذا بادر بن جوريون فجعل القدس عاصمته وقت أن كان ترامب في الثالثة من عمره!!
ثم تروي جولدا مائير كيف أنها انتقلت على الفور إلى القدس، وأنها فضلت السكنى في غرفة صغيرة فوق سطح منزل.. غرفة لا تليق بالوزيرة إطلاقا، فضلا عن أنها قريبة من الحدود وفي مرمى الخطر. وظلت فيها شهورا حتى بُنيت لها شقة تطل شرفتها على تلال القدس[3]!
إن معادلة التعلق بالقدس واضحة في أذهان سائر من فكروا بصدق في تحريرها، منذ أيامها الأولى، ففي عام 1953، ألقى سيد قطب محاضرة في شعبة الإخوان بالقدس (الشرقية) قال فيها: "نحن لا نريد من الجيوش العربية أن تحرر فلسطين، نحن نريد أن يسمح للمجاهدين بأسلحة خفيفة، هؤلاء هم الذين سيحررون فلسطين"[4].
كان يعرف أن العسكر لن يحرروا وطنا سليبا، كانوا هم سبب سلبه، وهم حماة سالبه.. بعده بنحو عشرين سنة قالها أمل دنقل شعرا سائرا:
قلت لكم مرارا:
إن الطوابير التي تمر.. في استعراض عيد الفطر والجلاء
فتهتف النساء في النوافذ انبهارا..
لا تصنع انتصارا..
إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحارى
لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء
إن الرصاصة التي ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا !
قلت لكم في السنة البعيدة
عن خطر الجندي.. عن قلبه الأعمى، وعن همته القعيدة
يحرس من يمنحه راتبه الشهري
وزيه الرسمي
ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء.. والقعقعة الشديدة
لكنه.. إن يحن الموت فداء الوطن المقهور والعقيدة..
فر من الميدان، وحاصر السلطان، واغتصب الكرسي
وأعلن "الثورة".. في المذياع والجريدة!
قلت لكم كثيراً
إن كان لابد من هذه الذرية اللعينة
فليسكنوا الخنادقَ الحصينة
متخذين من مخافر الحدود.. دوُرا
لو دخل الواحدُ منهم هذه المدينة
يدخلها.. حسيرا
يلقى سلاحه.. على أبوابها الأمينة
لأنه.. لا يستقيم مَرَحُ الطفل، وحكمة الأب الرزينة
مع المُسَدسّ المدلّى من حزام الخصر
في السوق.. وفى مجالس الشورى
[1] عباس مصطفى عمار، سيناء: المدخل الشرقي لمصر، ط2 (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوليو 2014م)، ص10 (مقدمة وليد نويهض). والجزء الأخير من كتاب المؤرخ الإيطالي ترجمه إلى العربية الأب سليم رزق الله بعنوان "كتاب الأسرار في استرجاع الأراضي المقدسة والحفاظ عليها"، وصدر في بيروت عن مؤسسة الريحاني عام 1991م.
[2] جولدا مائير، اعترافات جولدا مائير، ترجمة: عزيز بيومي، (القاهرة: دار التعاون، د. ت)، ص176 وما بعدها.
[3] جولدا مائير، اعترافات جولدا مائير، ص213، 214.
[4] إبراهيم غوشة، المئذنة الحمراء: سيرة ذاتية، ط2 (بيروت: مركز الزيتونة، 2015)، ص48.
وسوم: العدد 752