مرايا العابرين بين الكلمات، أشعة وظلال من السويقة
للمكان سطوة ولديه حنين إلينا كما لدينا حنين إليه وله أشعة وله ظلال إنه يسكن أرواحنا كما نسكن فيه ، وعلى كثرة الأمكنة التي يعيش فيها الإنسان أو يتردد عليها أو يمر عليها مرا خاطفا يظل مكان ميلاده وطفولته هو المتن والباقي حواشي هو الوتين والباقي شرايين هو الصوت والباقي الصدى هو البيت والباقي الفناء لكأن الأمكنة أرقام ساعة ومكان الميلاد الميناء والذكريات عقارب تلك الساعة المكانية !
أسفل" بونصر" تلك الربوة العالية التي احتضنت" لاساس" المصالح الإدارية أيام الاستعمار ثم دار البلدية أيام الاستقلال تتناثر بيوت السويقة بأسوارها الحجرية وقرميدها العربي وأبوابها الخشبية الكبيرة تضيق الأزقة لتتعانق البيوت في حضن زمورة حيث تنتهي بجوار العين العمومية ، في بطحاء تحت الربوة المقبرة مستودع الأشجان والذكريات،أسفل في الفضاء الرحب البستاين الخضراء لا تفارق أعالي أشجارها أعشاش الطيور وزقزقتها التي تملأ الفضاء، نوبة الساقية إحدى بدائع السقي لري البساتين كل بستان له وقت مقدر بحسب عدد أشجاره المثمرة لم يحتج ولا فلاح على مدة النوبة . تبدأ النوبة للسويقة من المغرب إلى الفجر وتدور النوبة قد يكون فلاح الأول مع المغرب ومرة في الوسط ومرة أخرى في السحر ، خرير الساقية تحت قمر ساج ونجوم تكاثر بنبضاتها الحمراء دارة القمر الماسية ، تمايل أشجار الصفصاف والسرو وهبة النسيم ونقيق الضفادع وصرصرة الصراصير معزوفة كونية تلازم البساتين، أحيانا تضاف إليها خشخشة لص من لصوص الحقول وهو ينسحب بخفة بعد قدوم صاحب البستان، على الطرف الآخر" العين العمومية" تنفح بكرمها الدائم البلدة مثل أم رؤوم حين يبرد الجو كثيرا يكون ماؤها دافئا كنا قبل أن نملأ الدلاء والقرب ندفئ أيدينا الصغيرة المحمرة من القر بمائها الدافئ من عيونها النضاحة ،في الصيف يكون ماؤها باردا حيث يستحم الصغار في الهجير وسط صخب وضوضاء! لم تتعب يوما هذه العين ولم تتوقف قد ينقص ماؤها أو يزيد بحسب عطاء العام وكرم الحول ولكن الماء مبذول، الجميع يعظمها إنها منبع الخير ومعقد البقاء إنها ثدي الرحمة والحياة والرزق. في كل عام كانت النسوة ي يخضبن سورها بالحناء وتعتقد الأمهات أن الماء الذي يتدفق من عيونها ليلة العيد هو ماء زمزم بعينه لذا يلححن علينا في الذهاب لنملأ الدلاء تبركا بماء زمزم الذي يجري فقط ليلة العيد. تغير ما تغير ورحل من رحل واغترب من اغترب إلا هي لم تتغير تمنح في صمت وتغدق في سكينة بلا من ولا أذى مائدتها منصوبة وكؤوسها موضوعة لذة للشاربين.
بجانب الحقول بطحاء هي ملعب في النهار وموقف "كار بوكامل" بطلائها الأبيض والأخضر شريان البلدة في الاتصال بالمدينة يركب فيها الكل حتى البهائم ، بسمة خالي عمر وشاشه الأصفر وسرواله العربي وسيجارته بلا فلتر ومرح قابض الحافلة" سي يوسف" بوسامته ومرح روحه وفكاهته وحديث العذب الحلو كان يسمي النساء اللائي يستعدن لركوب الكار وهن مرتديات الملحفة البيضاء " الحايك" الجيش الأبيض، هو وخالي عمر يعودان كل مساء بحاجات الناس الغذاء الدواء الأمانات خدمة يقدمانها بالمجان طيلة خدمتهما بكل سرور وأريحية.
فوق على كتف السويقة " السنتر" المستوصف والممرضة السمراء" عيشة الفارملية" أي الممرضة البشوش الخدوم حركة جلبة ،صخب صراخ الأطفال، قهقهات نسوة رائحة الكحول عيشة محبوبة الكل الممرضة والقابلة وحتى الطبيبة حين تنهي عملها تسمر في أحد البيوت كان بعضها صالونات نسائية، نقد وفكاهة وغناء وربما تمثيل لما ذهبت عيشة وجاء الممرض" سي لحلو" افتقدنا ولدها سعيد الذي كان يسرق لنا قناني الدواء وافتقدنا تشنجات زوجها العياشي الذي كان يضيق بلعبنا الكرة أمام المستوصف، لكن موت عجوز أمام أعيننا جالسة تنتظر سي لحلو أن يفتح لها الباب لتأخذ حقنة لم يمح من ذاكرة أحدنا. غير بعيد عن المستوصف وفي مكان عال قليل جامع" أبي الأرقط" حيث ضريحه داخل الجامع مازلنا نحتفظ بوثيقة كتبها بخط يده كان هذا الجامع مزارا للنسوة ليلة الجمعة يحشين خزينته بالنقود يشعلن الشموع يطفن بالضريح يسألن الذرية الزواج ،الصحة، النجاح ،عودة المغتربين ينادين أولئك المغتربين في الخزنة يعتقدن أنهم يسمعون ويلبون ، كل عام يكون ذلك الجامع آخر محطة لرهط يأتون من أماكن نائية يطوفون في البلدة برمتها يذبحون عجلا يلفون أعناقهم بمناديل خضراء يضربون على الدف المرافق للقصبة يزعمون أن ذلك جالب للخير والبركة والنماء وفيهم شيء من الولاية لكن مرة تصدى لهم شيخ عنيد ومنعهم من دخول الجامع بنعالهم ودفهم وأفلح في صدهم وكانت تلك آخر مرة لهم يزورون فيها الجامع.
"جماعة السويقة " كا تسمى هي السرة في جسد السويقة تجمع كهولها وشيوخا وأطفالها المختلسين لشذا الحديث وبهجة الفكاهة، لا تجرؤ امرأة على المرور وسطها تنحرف النسوة في الطريق حتى لا يمررن بالمجتمعين ،على طرفها دكان "عمي حسين" وعلى الطرف الآخر دكان "سي حسين" يرتزقان بشرف ونزاهة وقناعة يتميز دكان سي حسين ببيع الغاز السائل إضافة إلى المواد الغذائية ويتميز دكان عمي حسين ببيع حتى القماش إضافة إلى المواد الغذائية وكلاهما يزودان البيوت بحاجياتها تحت الحساب حين تنفذ مادة غذائية يعطيك سي حسين النقود لتشتريها ويقيدها تحت الحساب وينقسم الناس بين متسوق من عند هذا أو ذاك ويتوزع بريدهم بين هذا أو ذاك أيضا.
حين يبدو أحمد البوسطجي –رحمه الله- بشبابه الحيوي وبسحنته السمراء وهو يحمل حقيبة الرسائل على ظهره وعلى رأسه قبعة الخدمة من الكوليج نازلا إلى السويقة ترى الناس منتظرين لعله يحمل بريدا إليهم فهو مستودع الأماني ،الأشواق والأرزاق من تصله رسالة من مغترب يقبلها يضعها على ناصيته أحيانا يبكي يتشممها ففيها رائحة ذلك المغترب ، جاءت الحوالة فرجت يصيح آخر: تستاهل (تستحق) قهوة يا أحمد ! لذا كان أحمد محبوب الكل فهو وطلته بشارة رسالة أو حوالة أو طرد.
توزع صبيان السويقة بين جامعين" ابن الحسن" و"ابن فرج" فالكتاب كان القلب النابض لزمورة كل الصبايا والصبيان يلتحقون به في عهد اليفاعة يحفظون ما تيسر إضافة إلى التحاقهم بالمدرسة وحفظ القرآن كان يعينهم على التمكن من العربية والخط جامع ابن الحسن تميز بقبوله الصبيان والصبايا معا وتميز شيخه سي المدني –رحمه الله - بمهنة "تصدير البرانس" باحترافية ومهارة وتفنن فلا يفارقه الكشتبان والإبرة والنظارة ولكن ذلك الجامع كان أقل انضباطا وصرامة.
جامع ابن فرج هو الجامع الذي قرأت فيه القرآن في صغري على شيخه سي عبد الرحمن كشاط –مد الله في عمره- ووالده سي محمد –رحمه الله- هو شيخ الجامع قبل ابنه فقد توارثوا المشيخة أبا عن جد مصداقا للقول:
" توارثها كابرا عن كابر"
حفظ والدي القران الكريم على يد سي محمد رحمه الله- ولم يكن سي محمد كما لم يكن والده سي العربي –رحمه الله مجرد شيخ جامع بل كان القلب الذي تعود إليه شرايين السويقة فيضخ فيها دم العفة والاستقامة والنزاهة وآي الكتاب الحكيم والفصل المبين في كل شأن من شؤون السويقة ،كان العش الذي تسكن إليه أطيارها واللحاء الذي يغلف سرها، حاضرها وتاريخها . كل مساء كنا ننتظر بلهفة من يكلفه الشيخ بملئ الدلاء لبيتهم فيمنحه شرف زيارة بيت الشيخ وفي الأعياد كنا نتسابق للتهنئة بالعيد حيث نملك الجرأة على زيارة بيت الشيخ. وغير ذلك يظل عرينا لا يقربة إلا أهله وإلا صاحب حاجة.
مازلت أذكر كيف ينفتل سي محمد –رحمه الله- إلى الجامع ويصعد إلى المصلى يمر علينا يتفقد الألواح يراجع رسم الحروف يسأل هذا عن والده يعلق على آخر يقرص واحدا يشجع ثانيا يوبخ آخر له مهارة في إطلاق ألقاب على بعضنا تناسب كل واحد ثم يصعد إلى المصلى ينفرد بنفسه مستغفرا مسبحا ذاكرا حتى تقام الصلاة . وفي حياته كان لايني يسأل عن أحوال المغتربين يكتب إليهم ويكتبون إليه وكان جدي رحمه الله- من أصدقائه ولطالما كتب إليه يسأله العودة لكن جدي قضى في ديار الغربة بعد غياب دام ستا وعشرين عاما حين سجي التابوت حضر سي محمد –رحمه الله- بعينين دامعتين ونفس حزينة لقد قضى جدي في دار الغربة وبعد مدة رآه في المنام مخبرا إياه أنه عاد من ديار الغربة وأنه يسكن هناك وأشار إلى المقبرة.
حين تمر أمام جامع بن فرج يبهرك دوي قراءة القرآن وحركة الصبية يخفون لمحو الألواح أو تجفيفها بعضنا كان شاطرا حفظ ما حفظ وبعضنا كان ثقيلا متكاسلا لم تنفع عصي الشيخ التي كسرت على ظهره في نقله من حالة الخمود إلى النشاط ولا من حالة العبث إلى حالة الجد. على أن ما يبقى في ذاكرة كل واحد فضلا على ما حفظه من آي القران الكريم"الختمة "والكرم الذي يغدق على الجامع وعلى الشيخ والصبية و"التزويقة " واستعطافنا لشيخ يمر إلى المصلى ليسرحنا الشيخ في مناسبة فيستجيب الشيخ لتوسل الآخر ويقول" اسرحوا" "راكم مسرحين" فيا لها من فرحة وبهجة ونحن نجري في الأزقة استعدادا للعب الكرة !
صوت جرس خالي الحاج في الكوليج ،وخرير الساقية صوت مطحنة عمي العيد نهيق حمار في العين ، عطس شيخ وقد حشا أنفه سعوطا تمايل شجرة الصفصاف العملاقة في بونصر رائحة الأرض المبتلة بالمطر وصوت المزاريب تنشج نشيج الرخاء والبركة إيذانا بربيع مزهر رخي، حيث سنستقبله مع أمهاتنا في البساتين ثغاء الخرفان وصياح الماعز وهي تجري في الأزقة لتجتمع في باب السور ليسوقها العربي الراعي أو سي سليمان بعينيه المتورمتين المحمرتين من فرط البكاء وصدره العاري ذي الشعرات البيضاء وعطفه الذي شمل حتى الجدي وهو يحنضنه ويحمله كأنه ولده ، صوت دف عمر المداح ومطرقة يحي الحداد ، وصوت المسيو عمر الخالد" سيلانس" وبسمة عيشة الفارملية النقية مرايا تقابلنا بصور جميلة وأجزاء لوحة كبيرة حميمية بهيجة عفوية تجمعت ظلالها وألوانها وأشكالها وتوشمت لوحة أبدية في ذاكرة كل واحد منا عن السويقة زمان.
وسوم: العدد 752