المطلوب تحويل انتصارنا المعنوي والقانوني في معركة القدس إلى انتصار واقعي
فعلا " الحق يعلو ولا يعلى عليه " ، اختبرنا صحة هذه المقولة في الغضب العالمي على قرار ترامب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ، والتهيئة لنقر سفارة بلاده إليها من تل أبيب . في أسبوع واحد ، بعد ذلك القرار الأرعن المشئوم ، وإن اعترفنا بأن أميركا وإسرائيل درستا بعناية وتدقيق ملاءمة توقيت إصداره ؛ أقرت الأمم المتحدة حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير بأغلبية كبيرة هي 176 صوتا ، وأقر مجلس الأمن بكامل أعضائه الدائمين وغير الدائمين ال15 باستثناء أميركا لا شرعية ولا قانونية قرار ترامب بشأن القدس ، وفعلت الجمعية العامة نفس الشيء بأغلبية 128 صوتا . وما زالت مظاهر الغضب ومظاهراته تتفجر يوميا في كل مكان في العالم على ذلك القرار بما في ذلك بعض المدن الأميركية والأوروبية ، وهاجم مسئولون أميركيون سابقون تهديد ترامب بقطع المعونات عن الدول التي عارضت قراره ، فوصف جون برينان الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية ذلك التهديد بأنه " أكثر من شائن ، ويظهر أن دونالد ترامب يتوقع ولاء أعمى وخنوعا من الجميع ، وهذه مواصفات توجد عادة في القادة النرجسيين والمستبدين الانتقاميين " ، وقرر الحزب الوطني الأفريقي الحاكم في جنوب أفريقية توجيه حكومة البلاد إلى خفض تمثيلها الدبلوماسي في إسرائيل إلى مستوى مكتب اتصال . وجنوب أفريقيا في هذا الموقف العظيم تفوقت على كل الدول العربية ، وهي من أنبل الدول التي أفادت من تجربة شعبها الطويلة القاسية الدامية مع الاضطهاد العنصري الأبيض الذي دام 300 عام ، ولم ينته ظلامه ودمويته إلا في 1994 . وهي فوق نبل موقفها الدال على نبل إفادتها من تجربتها ؛ لا تنسى لإسرائيل أنها كانت حليفا قويا للنظام العنصري الأبيض ، وتعاونت معه في تمكينه لصنع قنبلة ذرية . هذا موقف جنوب أفريقيا من قرار ترامب القبيح المشين ، بينما استبق وزير خارجية البحرين خالد آل خليفة التصويت الأممي على قرار يرفض اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل بالقول في تغريدة ضالة باطلة :" من غير المفيد اختيار معركة مع أميركا حول قضايا جانبية " قاصدا قضية القدس ! الثورة العالمية انتصارا للحق العربي والإسلامي في القدس ، والثورة الشعبية في العالم العربي ، والقيادية في تركيا التي أججها أردوغان بكل قوة وصدق ؛ دفعت بعض الإسرائيليين إلى الشعور بأن ما فعله ترامب بان هدية مسمومة كشفت عمق كره العالم لإسرائيل ، والخطير في ما كشفته حقيقة استحالة قبول الشعب العربي والإسلامي التطبيع معها ، وأن أي منجز تضعه في يدها في هذه الوجهة سيظل منحبسا في دائرة الحكام الذين انكشفوا تماما لشعوبهم . وفي السعودية التي أبدت في الشهور الأخيرة هوسا حادا لعلنية التطبيع مع إسرائيل بدا أنه أصاب القاعدة الشعبية ؛ بدأت تطل بعض الأصوات المعارضة على مستوى الشعب والكتاب ، وبدا كأن استفاقة حدثت من نشوة وهم التطبيع ، ومن أحسن ما كتب في هذه الاستفاقة وأقواه ما كتبه جاسر الحربش في مقال بعنوان " وللمتصهينين تذكرة خروج دون عودة " في " الجزيرة السعودية ، هاجم فيه المطبعين مع إسرائيل مبينا مخاطر هذا التطبيع . ويحسب للشعب المصري جمهورا ومثقفين ومؤسسة دينية مجسدة بالأزهر أنه سارع ، كالعهد به في قضايا الأمة ، إلى التقاط شعلة الغضب انتصارا للقدس ورفعها عاليا . أما الشعب الفلسطيني ، وأهل القدس تخصيصا ، أكثر العرب والمسلمين والدنيا كلها اتصالا بالقدس عاطفة وواقعا ، فما زال يواصل ثورته ، ويقذف بالجرحى والشهداء في نار معركة الدفاع عن المدينة المقدسة بأقصاها ومسرى رسول الله _ صلى الله عليه وسلم إليها وعروجه منها إلى السماء ، فيلهم كل محبيها والمدافعين عنها قوة جديدة ، ويلهب حميتهم لتحدي ومغالبة تهور أميركا وعدوانية إسرائيل . وسطعت الصبية عهد التميمي التي صفعت الضابط الإسرائيلي ؛ نجمة في سماء حب القدس وافتدائها . وتظل كل الانتصارات العربية الإسلامية في قضية القدس معنوية قانونية تؤكد علو الحق الأصيل على الباطل المصطنع ، وستظل بهذه الصفة حتى نحولها إلى واقع عملي ينتزع القدس والأرض الفلسطينية من مخالب الاستيطان الإسرائيلي المفترس ، والمعزز بالتأييد الأميركي المتنوع والمطلق الذي لا يصح من دولة في وزن أميركا التي هي فعلا عملاق في القوة المادية ، وقزم في القوة الأخلاقية ، وهو ما ينذر بسوء مآلها الذي نرى الآن بعض نذره القوية في تراجع دورها العالمي ، وصعود الدور الروسي والصيني في قوة وثقة ، ومحاولة الأوربيين التميز عن موقفها الطائش في الفائق الرداءة والتوحش في الساحة الدولية .
***
لم يحب الصهاينة يوما القدس . تيودور هرتزل أبو الصهيونية حلم بعاصمة شمالي فلسطين على سفوح جبال الكرمل ، تطل على البحر المتوسط ، ولم يضمر إلا الاحتقار والازدراء للحائط الغربي ( حائط البراق ) ، وكتب مرة : " يا لها من خرافة ويا له من تعصب من الطرفين ! " . أسبوعية " دير شبيجل " الألمانية .
وسوم: العدد 752