القضية الفلسطينية والظرف الراهن
تمر القضية الفلسطينية في ظل ظروف حرجة سياسيا وفي ظل أحداث متسارعة يصعب التنبؤ بنتائجها فالإدارة الأمريكية وأن كانت حددت مواقفها وثوابتها المعروفة في تأكيد أمن إسرائيل وضمان تفوقها النوعي والاستراتيجي عسكريا واقتصاديا فإن سياستها الشرق أوسطية بشكل عام وسياستها تجاه القضية الفلسطينية ما زالت غامضة ولم يرشح لنا على الأقل أية تغيرات أساسية في مواقفها في دعم حقوق الشعب الفلسطيني التي يمكن أن نبني عليها أي تفاؤل حقيقي في إمكانية إنجاز العملية السياسية أو الاقتراب المطلوب نحو إنجاز حلول للقضية الفلسطينية على أساس تطبيق قرارات الشرعية الدولية .
فالإدارة الأمريكية بقرار رئيسها الاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لدولة الاحتلال، ونقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس الشرقية، وتأييدها لموقف نتنياهو باعتراف الفلسطينيين والعرب بيهودية دولة اسرائيل مقابل تجميد الاستيطان تكون قد تبنت المشروع الصهيوني بأكمله هذا المشروع الذي يقضي على حقوق الشعب الفلسطيني التي أقرتها الشرعية الدولية، كما ويحرمه من قيام دولته الفلسطينية كاملة السيادة على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية والعودة إلى دياره التي هجر منها عام 48؛ كما نرى بهذا القرار والتأييد تجسيدا عمليا للضمانات الأمريكية والوعود والتعهدات والاعترافات الأمريكية لإسرائيل بالأمر الواقع ولعل ابرز واخطر حقائق الأمر الواقع التي أقامتها وما زالت تقيمها دولة الاحتلال على أراضي القدس والضفة الغربية هي المستوطنات والجدران التهويدية الممتدة من أقصى شمال الضفة إلى أٌقصى جنوبها .
إن السياسة الممنهجة التي تنفذها حكومة الاحتلال لفرض حل من طرف واحد ستؤدي إلى تدمير فرص السلام الممكنة ، ووضع المنطقة في حالة دموية لا نهاية لها، وإنه من المؤسف جدا أن تستمر الولايات المتحدة في سياسة غض الطرف عن الجرائم اليومية التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية وأزلامها بل وإعطاء الإشارات المشجعة لها للمضي في سياستها وممارستها القمعية بكل ما تلحقه بشعبنا من أذى ومساواتها بين القاتل والضحية وتبرير شتى أنواع الاعتداء على شعبنا الفلسطيني بأنه دفاع عن النفس؛ وأنا هنا أتساءل منذ متى كان مصادرة الاراض الفلسطينية، وبناء المستوطنات وتوسعها، و القتل المتعمد للأطفال وتدمير البيوت واقتلاع الأشجار وتجريف الأراضي والمزروعات وتدمير البنية التحتية دفاعا عن النفس؟ .
إن سياسة الإدارة الأمريكية هذه لا تتطابق مع أقوالها بأنها تعمل على دفع عملية السلام في المنطقة حيث أن دعم عملية السلام وتشجيع جميع الأطراف في المنطقة على التقدم بمبادرات ملموسة لخلق الظروف الملائمة للتقدم نحو المفاوضات السلمية يستوجب من الولايات المتحدة الأمريكية اولا العدول عن قرارها الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، ووقف اجراءات نقل السفارة الى القدس الشرقية، وتعديل سياستها الخارجية لكي تكون سياسية متوازنة تأخذ بالحقائق والإقرار بالانتهاك الإسرائيلي المتواصل لكافة القوانين والمواثيق والأعراف الدولية وحقوق الإنسان أن أرادت أن تعمل على صنع السلام في هذه المنطقة، لا ان تضغط على السلطة الفلسطينية ورئيسها بعدم التوجه للمنظمات الدولية، وانتهاج سياسة الابتزاز السياسي، والتدخل السافر والمرفوض والمدان في الشأن الداخلي الفلسطيني، وسعيها وبعض عملائها لإيجاد قيادات بديلة للشعب الفلسطيني تأتمر بأوامر اجهزتها الامنية، فضلا عن انتهاجها لسياسة الاستعلاء والبلطجة والفيتو التي اعتادت الإدارات الأمريكية المتعاقبة ممارستهما بحق المؤسسات والقرارات الدولية خصوصا إذا ما تعلق الأمر بفلسطين وبالقضايا العربية.
كما لا شك أن الأجواء الحافلة بالأحداث والمستجدات السياسية على الساحة الإقليمية والدولية بالطبع كان لها تأثيراتها وبشكل مباشر على وحدة أمتنا العربية وبإيجاد موقف عربي رسمي واحد ضاغط في ظل انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم وتحكمها وانفرادها بتوجيه كافة خيوط الموقف في الشرق الأوسط الذي أدى إلى تهميش القوى الدولية للمشاركة في حل الصراع وخاصة دول الاتحاد الأوروبي التي ترتبط بمصالح سياسية واقتصادية واستراتيجية مع المنطقة العربية وخاصة الشرق الأوسط .
وهنا نجد أن الاستئثار الأمريكي في توجيه الحلول السياسية أدى إلى واقع سياسي جعل العديد من الدول العربية ترتهن مجبرة أو راغبة للأطر التي حددتها الإدارة الأمريكية وهي طبعا مرتبطة بالأهداف الاستراتيجية القائمة على أساس الهيمنة واستخدام النفوذ بأِشكاله المختلفة العسكرية والاقتصادية ليس فقط لتكريس تبعية تلك الدول للولايات المتحدة وإنما أيضا إبقاء الدول الأخرى وخاصة الأوروبية بعيدة عن التأثير في الحلول السياسية بل استخدام هذا النفوذ الأمريكي كورقة ضغط وابتزاز للقوى الدولية لتوكيد زعامتها على العالم؛ على الرغم أن الهيمنة الأمريكية لا تكتسب صفة الثبات، ذلك أن عالم القطب الواحد يصطدم بإرادات الدول التي تسعى إلى توحيد نفسها وتعزيز صيغ التعاون بينها (الاتحاد الأوربي) من أجل مشاركة أقوى في القرار والانفكاك من دائرة التبعية التي تسعى إليها الولايات المتحدة الأمريكية كل ذلك يأتي أيضا في إطار سعي الصين وروسيا إلى معالجة آثار انهيار الاتحاد السوفيتي ومحاولة فرض نفسها على الساحة الدولية في ظل عامل الزمن وإن كان لم يزل في صالح القطب الأمريكي ولكنه يعيش أزمات تجعل مسألة استمرار قيادته على قدر كبير من الصعوبة بل ومليئة بالأزمات المتواصلة.
في إطار ذلك نرى أن علاقات دول المنطقة بأمريكا تتأثر بالطبع بالموقف من قضايا التسوية ودرجة التحالف بين أمريكا وإسرائيل، كما أن علاقات الدول العربية بالولايات المتحدة تحكمها أبعاد سياسية وأمنية واقتصادية مختلفة وخاصة في ظل الآثار التي نجمت عن سقوط العديد من الانظمة العربية، وانهيار انظمتها الامنية والعسكرية، وبدون الدخول في تفاصيل المشكلات إلا إننا نرى أن الموقف الأوروبي بات يتأثر عادة بالمواقف العربية فليس من المعقول أن نطالب أوروبا بتشديد مواقفها إزاء قضايانا العربية في مواجهة الهيمنة الإسرائيلية الأمريكية في وقت تعمل فيه الدول العربية ذاتها على تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل بعض الدول وجد في تقاربه مع إسرائيل وسيلة كسب الود الأمريكي، لا شك أن التصهين الغربي وصل إلى أوروبا الغربية والشرقية على حد سواء ولكن أليس هذا التصهين هو في إحدى أسبابه ينبع من حالة العجز العربي الذي ساهم إلى حد كبير في إبعاد أوروبا عن مجال التأثير وخاصة في ظل جموح أمريكي للاستفراد في توجيه مصير المنطقة خدمة لمصالحه الاستراتيجية على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
إلا أن الملفت للنظر أن منطقتنا العربية قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من نظام دولي تقوده الولايات المتحدة وتديره إما مباشرة وإما عبر نفوذها في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف "النوتو"، ولعل أخطر ما يواجهه شعبنا الآن هو الضغط على السلطة الفلسطينية والرئيس ابو مازن للقبول بالتسوية الامريكية للقضية الفلسطينية على حساب ارضنا الفلسطينية، وحقوقنا الوطنية والشرعية المكتسبة من خلال مفاوضات مباشرة مع حكومة الاحتلال تلبية للوعود والتعهدات والتطمينات والاعترافات الأمريكية لإسرائيل بالأمر الواقع وهنا نذكر بالصفقة الأمريكية الإسرائيلية التي تم التوصل إليها في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من غزة؛ هذه الصفقة التي منحت إسرائيل الضوء الأخضر لتوسيع المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية والاستمرار في تهويد مدينة القدس والاستمرار في بناء جدار الفصل العنصري الذي نهب وصادر أكثر من 55% من مساحة الضفة الغربية وتخلي واشنطن أيضا وفق الصفقة عن مطالبتها لإسرائيل بإخلاء كافة البؤر الاستيطانية التي أقيمت في الضفة خلال حقبة شارون .
وفي ذات السياق أيضا نستذكر مضامين "وعد بوش لشارون" بـ "أن إسرائيل لن تنسحب إلى حدود حزيران 1967" و "أن القدس ستبقى موحدة عاصمة لإسرائيل" و "أن تكتلات المستوطنات اليهودية ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية" و "أن الجدار الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية شرعيا" والذي رأينا في حينه أن وعد وتعهدات بوش لشارون هي بمثابة الحصاد السياسي الاستراتيجي الإسرائيلي لخطة فك الارتباط .
أي أنه في الجوهر والمضمون والتطبيقات على الأرض فإن الإدارة الأمريكية تمنح ترخيصا وشرعية جديدة ومتجددة لحكومات إسرائيل وأخرها حكومة نتنياهو بمواصلة الهجوم الاستيطاني ألتهويدي الكاسح على الضفة الغربية ومدينة القدس من اجل إقامة المزيد والمزيد من حقائق الأمر الواقع على الأرض حتى تغدو مسالة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة مستحيلة .
إننا نرى أن الإدارتان الأمريكية والإسرائيلية تسعيان إلى فرض حقائق الأمر الواقع لتعتبر ذلك في نهاية الأمر المرجعية الأساسية لأي مشروع سياسي قادم للحل أو لأي تسوية سياسية محتملة.
لذلك نؤكد أن طالما أن المرجعية الأساسية في فلسطين أصبحت فقط من جهتهم مرجعية الاحتلال والعمليات الحربية والحقائق الاستيطانية التهويدية التي تقام على الأرض على نحو هستيري، فقد بتنا نحن الفلسطينيين وعربا في حاجة بالغة الإلحاحية وعاجلة جدا لإحياء المرجعيات المشروعة والفاعلة والفعالة، خاصة وأن لدينا المرجعيات الدولية المتمثلة بكم هائل من القرارات الدولية التي تشكل رصيدا شرعيا لصالح الحق العربي والفلسطيني على جانب المرجعيات العربية وهي كثيرة وعلى رأسها قرارات الجامعة العربية والقمم العربية المتعلقة بالصراع العربي- الصهيوني خاصة مبادرة السلام العربية.
كما يتوجب على الدول العربية والإسلامية البحث عن الآلية التي تصون وتحفظ الهوية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والبحث عن الآلية لإعادة الدول العربية إلى وحدتها وقوتها التي من شأنها أن تحسم في حصيلتها الاستراتيجية معركتنا التي هي في الواقع الملموس والمقروء معركة وجود للأمة أو لا وجود، ومعركة هوية وسيادة وحاضر ومستقبل .
فلا يمكن أن تسقط تلك "الوعود الأمريكية لإسرائيل" وتلك "الفيتوات" الظالمة على مسرح الأمم المتحدة .. كما لا يمكن أن تسقط "الصفقات" و "الوثائق" المشتركة بين الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية إلا إذا استيقظ العرب وأصبحوا رقما حقيقيا على الساحة الدولية كالاتحاد الاوروبي، والصين، وروسيا الاتحادية.. فمتى يستيقظ العرب.
انتهى،
وسوم: العدد 752